في الأندلس في أيام ملوك الطوائف المتناحرين، تجرأ الجيش الإسباني، وهاجم بلاد المسلمين وسير ألفونس جحافله، ضد مملكة ابن عباد الشاعر، وكان وزيره الشاعر ابن عمار، ولم يكن لدى ابن عمار طاقة بالإسبان.
ماذا يفعل والقوة قد ضاعت، والهيبة اندثرت؟ لم يكن أمامه سوى استخدام الحيلة!
وقد كان ابن عمار لاعبا لا يبارى في الشطرنج، فصنع رقعة نادرة المثال وتأنق فيها. جعل قطع اللعب من الأبنوس والصندل والعود الرطب، وحلاها بالذهب والجواهر، ووضع فيها من عبقرية الفن، ما جعلها تحفة، وكان ملك الإسبان ممن يلعب الشطرنج، فوجه إليه ابن عمار رسولا من قبل الملك ابن عباد للتفاوض وحمل معه الرقعة والقطع، وكانت لابن عمار مكانة أدبية ومنزلة اجتماعية، جعلت الملك يقابله ويبالغ في إكرامه، تلطف ابن عمار حتى أراه الرقعة والقطع فجن بها، ولم يستطع صبرا وطلب الرقعة على سبيل الهدية، لكن ابن عمار اشترط:
– ألعب معك عليها، فإن غلبتني كانت لك، وإن غلبتك كان لي حكمي!
وبالفعل يكتب الملك هذا الشرط ويشهد عليه رجاله وحاشيته.
هزم ابن عمار الملك فقال له: ماذا تطلب؟
قال : ترجع بجيوشك.
قال: هذا لا يكون أبدا.
فأقبل رجاله يقولون: لا يجوز أن يرجع الملك في كلامه وينقض عهدا كتبه، ومازالوا به حتى قبل.
ومن وقتها صارت أوطاننا رقعة شطرنج، ونحن أحجار عليها.
ولكن بالبداية كانت اللعبة تدار بيننا وبين أعدائنا ثم ضعفنا للدرجة التي أخرجتنا من اللعبة كلاعبين وصرنا ملعوبا بنا فقط، يتصارع على رقعتنا أعداؤنا، فمنذ هُزم ألفونس أتقن الغرب اللعبة، وفشلنا نحن فيها، وصرنا كل يوم نخسر مربعا من رقعة وطننا لصالح أحد الأعداء، فنفقد بيدقا هنا وفرسا هناك من أجل حماية ملك ليس منا، ولا يهمه أمرنا ولا دماؤنا.
من وقت أن خسرنا الأندلس انفرطت أولى حبات العقد ولكننا لم ندرك أن بسقوط أول حبه سيتوالى فرط باقي الحبات، ظننا أن بُعد الأندلس، يشكل حصن أمان لنا فتغافلنا كأمة مسلمة عما يدور هناك، وصرنا مجتمعا من الطرشان لا يسمع أنات المسلمين، فقد صرفنا الغرب وقتها لموسيقى بغداد وطرب الشام وأقصوصات مصر، صرنا مجتمعا يلوذ بالصمت الذي صوره لنا أعداؤنا على أنه صبر نتميز به عن باقي البشر، وأعجبتنا الصفات وتمادينا فيها.
فصارت الغفلة جينا وراثيا ينتقل إلينا عبر الدم، وصار الصمم صفة قلما تجد من لم يصب بها فيسمع أنات من بعدت بهم الأرض ولكن قربهم الدين، صار من يسمع مجنونا ومنبوذا من مجتمع الطرشان، أما الصمت أو الصبر كما يحلو لهم أن يسموه، فحدث ولا حرج عن ملايين المسلمين يقتلون ويغتصبون تحت أسماعنا وأبصارنا، لكن لا صوت يعلو من أجلهم.
صرنا نفقد وطننا رقعة تلو الأخرى، لم تكن الأندلس الأخيرة، فبعدها بقرون فقدنا مربعا آخر أو أندلسا أخرى، زنجبار أو أرض القرنفل تلك المملكة الإسلامية التي امتدت من مضيق هرمز شمالا حتى مدغشقر جنوبا، التي كانت أشهر مركز إشعاع إسلامي في القارة السوداء، ولأنها بعيدة ولأننا لا نقرأ كان حال مسلميها كحال مسلمي الأندلس، فذبحوا بالشوارع ونكل بجثامينهم وأجبروا على التنصير على مرأى ومسمع من العالم أجمع، ولم يسمع العالم للمسلمين صوتا يندد أو يشجب، وغيرهم كثير كسقوط دولة الإسلام بالهند، وكسقوط دول إسلامية كثيرة تم طمس هويتهم الإسلامية في البرتغال وبدول أوروبا، حيث تعرضوا للتنكيل من جانب الروس كالشيشان وكوسوفو وألبانيا وهناك جزر الملديف وبإفريقيا حدث ولا حرج من إفريقيا الوسطى لمالي وتشاد وبآسيا ما حدث مع مسلمي الصين على مر قرون، محاكم تفتيش كالأندلس وما يحدث لمسلمي بورما للآن.
كلها دول، الغالبية فيها مسلمة، ولكن يعيشون كأقليات مضطهدة ينكل بهم ليل نهار ويبادون وتتحول دولهم من الإسلام للنصرانية، وكأن مسلمي العالم كلهم اختفوا.
ظل الصمت والتغاضي واللامبالاة هو رد فعلنا عما يدور لمسلمي العالم لأن النار بعيدة عن دارنا، ولكن وللأسف حتى عندما اقتربت النار منا واحتلت فلسطين كان داء الخرس وجينات الدياثة قد تملكت منا، فتغافلنا، ولكن صرنا نشجب ليس من أجل المسلمين فقد راح ملايين لم يحركوا لنا ساكنا، ولكن لبقية حياء من أجل قدس تدنس، لكن ذاك الحياء أبى أن يستحي ويخرج من كفن الشجب فمات مع الوقت وطول المرض.
ومن وقتها صارت باقي مربعات رقعة الشطرنج تقع الواحدة تلو الأخرى ما بين اللاعبين؛ فلسطين هنا لصالح اليهود، وعراق هناك لصالح أمريكا، ويمن يمينا من أجل مجوس الأمس شيعة اليوم، وسوريا تتكالب عليها الضباع كلها تنهش بعرضها وأرضها كل يريد أن تكون من نصيبه؛ فيضع الروس قدمهم الثقيلة على الأرض تدهس بها جماجم الصغار قبل الكبار، ومصر والسعودية الكل في الطريق للمصير نفسه، فقد ماتت البيادق المحاربة ببسالة واغتيلت الفرسان بأفراسها وسقطت الحصون بتلك الرقعة التي تهالكت تحت أيدي الطغاة، وظل فقط الملوك والوزراء فهم يلقون الجنود والبلاد والعباد لأتون الجحيم، كي يظلوا على عروشهم ساجدين لسادتهم اللاعبين.
لم نصل لهذا الهوان من فراغ، إنما هي خطواتنا التي مشيناها بإرادتنا أحيانا ومخدوعين أحيانا ومنبطحين أحيانا كثيرة، حين زين لنا طريق سمي بالتحضر.
فكانت أولى خطواته ترك الجهاد واعتباره إرهابا فضعفت شوكتنا ونهشت أعراضنا، وفي منتصف الطريق جُعل الدين مجرد طقوس تؤدى داخل جدران المساجد، فكان لابد أن يكون آخره هو السجود لغير الله، وقد مشيناه وسرنا به كثيرا حتى أنهكنا وأدمانا الطريق، فاشتمت كلاب الأرض ريح دمائنا فتكالبت علينا، فلا نجاة لنا في التقدم بهذا الطريق الذي كان ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، إنما نجاتنا أن نسرع الخطى عائدين لديننا فهو الحصن الذي لا يستطيع كلاب الأرض أن يدخلوه خلفنا.
إن اشتداد الأمر علينا لهو بداية الانفراج، لكن الله يريد أن يعيدنا إليه بعد أن شردنا بعيدا، فأرسل كلاب الأرض جميعا خلفنا ليردنا إليه، فهلا رجعنا ونصرنا دينه كي ينصرنا؟!!
سلين ساري
تركنا الجهاد فخسرنا الدنيا والآخرة,
” المؤمن بين مؤمن يحسده ومنافق يبغضه و كافر يقاتله و شيطان يضله و نفس تنازعه” إو كماقال رسول الله عليه الصلاة والسلام