في منبع اللاشرعية لسلطة الأزمة بالجزائر

ربع قرن مر على الانقلاب العسكري الثالث للحكم في الجزائر في يناير 1992 بعد انقلابي 62 و65، ولا تزال تداعيات تلك الحركة المارقة عن التاريخ وعن التحول في آليات الوصول والبقاء في الحكم، التي ترسخت كنموذج دولي إثر انهيار ديكتاتوريات الشرق بزعيمها الواحد وحزبها الأحادي.
ولا تزال خسائرها المادية والنفسية والسياسية محل التساؤلات ومحور النقاشات، كونها لم تتخلص بعد إلى يوم الجزائريين هذا من الصدع المدوي الذي حطم حلم التحول إلى حكم مدني بآليات مؤسساتية ومشاركة جماعية على كل صُعد السلط، وكأن شيئا لم يحدث، وكأن التاريخ بدأ قبل أن ينتهي القرن العشرون بعام فقط يسطع بشمسه على الجزائر، في وهم تصنعه وسائل إعلام متزلفة عبر آلية تجفيف منابع الوعي، التي تجرد المواطن من الآلية النقدية الضرورية لكل مسعى للتحول والتطور في التاريخ، ليدرك أن ما تحقق حتى الآن لا يعدو كونه ارتدادا جديدا للردة عن التحول الأكتوبري (1988) الذي أملت الناس منه أن يقطع مع قاطعي القيادة الجماعية التي كانت أهم ما جمع الجزائريين على كلمة واحدة، وهم يرسمون الشكل الفتي للدولة عشية بدء حرب التحرير الوطنية.
في مقال له تحت عنوان «تذكير للتاريخ» نشره في جريدته الالكترونية بالفرنسية، فتح الدكتور والحقوقي المعارض للنظام صلاح الدين سيدهم النار على النظام القائم والمستمر منذ الاستقلال، معتبرا إياه المرض الوحيد الذي يستقر في جسد الأمة، وليس الشعب كما تحاول النخب إيهام الجميع به، من خلال محاولة إلصاق كل أخطاء الأمة به، نخب لم تسلم هي الأخرى من انتقادات سيدهم التي اعتبرها خائنة لرسالتها، مضيعة لموعدها مع التاريخ، حين فوتت على الأمة فرصة استئصال المرض، مفضلة بقاء الوضع القائم بحكمه وظلمه وظلماته مقابل امتيازات مادية تحصل عليها.
ونحسب نقد وانتقاد سيدهم للنخب، محاولة لقرع ناقوس الذاكرة الوطنية التي يتم السعي دونما كلل لإفراغها من المحتوى الإشكالي الذي صنع الأزمة الراهنة والممتد عبر حقب عدة من تجربة الجزائريين القُطرية، حين تم سلبهم إرادة تقرير المصير التي كسرت هيمنة الاحتلال عليه، واستعاد بها سيادته ومقدراته (إلى حين) سنة 1962، ولعل أبرز تلكم الآليات كان مبدأ القيادة الجماعية بوصفها حالة من التمرد الأولى عن الكاريزما والسمة الفرعونية الأحادية، التي تم استشعارها من الهالة المنبعثة من شخصية مصالي الحاج، أب الوطنية، كما تشير إليه مصادر الحركة الوطنية، فالإطاحة بأب الوطنية في أصعب ظروفها لم يكن له من معنى سوى أنه لا سيد على الإرادة الشعبية سوى الشعب، وأن كل ذات منفصلة عن هاته الإرادة رمزيا أو مؤسسيا ستكون مارقة عن الأصول المكونة للأمة، نخبويا وشعبيا وقياديا، مهما قدمت تلكم الذات الكاريزمية في مسارها النضالي، وإلا فلمَ تمت الإطاحة بعدها بـ(الزعيم) بن بلة مثلما تسرده مصادر انقلاب 1965 الذي أطاح بهذا الأخير؟ ألم يسع لإعادة إنتاج التجربة المصالية المُتمرد عليها؟ وهل صحح بومدين حقا المسار وأعاد الاعتبار لأقدس مبدأ نص عليه بيان أول نوفمبر 1954 وهو «القيادة الجماعية للدولة»؟
هنا تعبث الانتماءات والمصالح بالنخب والساسة، وتجعل خطاب نقد الثورة ونقد السياسة القبلية والبعدية للثورة التحريرية، أو الحرب التحريرية، كما يحرص البعض على تسميتها، يتأرجح بين الغرائز والوعي الموضوعي بالتاريخ، بل هنا تستبطن وتستوطن بذور الأزمة السامة التي لا تنفك تفرز المرض في الجسد الجزائري الجريح منذ أزيد من نصف قرن. وبجُرم «البراء» من عهد «القيادة الجماعية» الذي توافقت على ميثاقه كل مكونات الحركة الوطنية المطيحة بالزعامة الشخصية، تكون النخب الحاكمة بالعنف الناعم والمسلح معا، قد فصلت السياسة عن المجتمع بشكل قسري ومستديم، وفصلت المجتمع عن تراثه السياسي، ما جرده من معالم المضي في التاريخ بشكل سليم وفق ما توفره له الحداثة السياسية من قدرات وآليات العيش فيما هو فوق المادي والاستهلاكي.
الغريب أن الخطاب النقدي للحركة الوطنية الذي يغرز مبضعه بشكل مركز على المصالية الكاريزمية بوصفها الداء الذي تم التعامل معه بالحزم والحسم اللازمين، لم تول ذات التركيز النقدي على إرهاصات التمرد التي كانت تحصل على مبدأ القيادة الجماعية داخل الجهازين الثوريين إذ ذاك، «الجبهة والجيش التحريريين» من خلال الاغتيالات التي كانت تطال الساسة، ممن كانوا يرفضون مثل تلكم المحاولات، كان ذلك يجري في وقت يقدم فيه الشعب الكثير بغية الخلاص من البطش الاستدماري الذي طال ليله وفاق القرن وثلث من مثله.
كل ذلك يعطينا تفسيرا منطقيا لأزمة السياسة القديمة في الجزائر، ويمكننا من وضع قراءة موضوعية للماضي (الوطني) الذي لا ترتد إليه الرؤى بحسبانه الحامل في طياته لبذور أزمة الراهن القاتلة، وهذا حين يسعى إلى ترسيخ تاريخ البلاد وحصره في الدائرة التحررية، وليس الدائرة السياسية، باعتبار أن الثانية هي الشجرة التي تثمر الأولى، فالوعي السياسي هو منتج الوعي التحرري وليس العكس، فكل ما يُدرس للجزائري من تاريخ وطني يتم فصله مع سبق الاصرار عن سياقه الموضوعي، كامتداد للتراث السياسي للأمة، وكأن لا سياسة في الجزائر إلا بالتحرر والعكس غير صحيح، حتى إن سلمنا بتأثير ظروف الاحتلال آنذاك، وهدف التحرر منه على مختلف التيارات السياسية التي ولدت في خضمها.
لهذا فالجزائري اليوم لا يعرف عن تراثه السياسي سوى فصل الاستعمار ومسألة التحرر منه، دونما كثير التركيز على بُنى التيارات والأحزاب، والعوامل المؤثرة في نشأتها، الخارجية منها والداخلية، وخلفياتها الفكرية والتنظيمية وتصوراتها المجتمعية ومشاريعها في الآفاق الكبرى للأمة لما بعد التحرر وقبل الوصول إلى الثورة.
وكأن فترة الثور أول نوفمبر 1954 كانت برزخا فاصلا بين نهر كبير من التجربة السياسية للجزائرية متعددة المشارب متنوعة المشاريع مختلفة المقاصد، وفترة اتحدت فيها الارادة الواحدة، من أجل الهدف الواحد الذي هو الاستقلال، ولما تحقق هذا الهدف الواحد بتلك الإرادة الواحدة، تم جب كل ما كان من قبل، واختفت خريطة الطريق (الجماعية) وأعلن عن ميلاد الإرادة الأحادية الدائمة كبديل لإرادة الواحدة (المؤقتة).
شخصيا من هنا يتراءى لي منشأ اللاشرعية التي تعانيها الامة في سلطتها، وهي كما يُلاحظ أهم وأعظم من أن تُختزل في أزمة لاشرعية أشخاص سطوا على مؤسسات، بل في لاشرعية اللحظة السياسية التي بُنيت فيها ما تُسمى بالدولة المستقلة، فتمديد حالة الطوارئ الثورية بما فيها الإبقاء على حالة تجميد لأصول الأمة السياسية (تيارات، تنظيمات وأحزاب) ذاكرة، فكرا وممارسة، مع يحمله تاريخها من تراث يجسد عبقرية المواطنة، ويؤكد الوعي بالوجود الوطني، قبل أن تظهر النخب الثورية التي ستحتكر السياسة بتراثها ومعناها وراهنها ليتأتى لها احتكار ثرواته عبر سلسلة أجيالها، أسس لأزمة اللاشرعية في عموم لفظها وشمول اصطلاحها في لغة الخطاب السياسي والتاريخي للجزائر
فمشروع «الافلان» (الاختزالي للتراث الاختلاسي للثروة) تجسدت فيه اللاشرعية التاريخية التي تغرق في ظلمة أتونها الأمة إلى اليوم، وكلما بلغ الوعي المطلبي الشعبي والنُخبي معا بضرورة التحول عن واقع الحال والتخلص من الوضع القائم والمأزوم في البلاد، يتم الزج بالأمة في أزمة مبرمجة خانقة دموية أو نفسية فيعاد استحضار هذا المشروع الاختزالي الاختلاسي ويُقدم كصمام أمان للجزائريين الذي ملوا من ضريبة الدم والهم كقربان للأمن.
حاصل الكلام هنا إذن، أن فعل التعمية المقصود والمتواصل، عن وجود الجزائريين وهويتهم الوطنية والسياسية غير التحررية التاريخية، الذي تمارسه القوى الخفية والنافذة المتحكمة برقابهم، التي ولدت مع تمرد الإرادة الأحادية على الإرادة الواحدة بعد انتهاء حرب التحرير، وتحقيق هدف توحد التيارات والأحزاب من أجل لاستقلال، هو مبدأ اللاشرعية الذي تجسده السلطة، والخطأ كل الخطأ أن يبنى الوعي على جعل لاشرعية السلطة محور الأزمة البنيوية المعقدة التي تعيشها الجزائر، في حين تظهر اللاشرعية في هندسة البناء السياسي الذي اختارته هاته السلطة، حين احتكرت التاريخ الوطني وآليات وعيه والوعي به، وهي مع الأسف مستمرة في التناسل الجيلي بمصلحة توليد النظام وإعادة إنتاجه واستنساخه، بتعبير أدق، والأدهي والأمر أنه بعدما كانت الجيلية «المتناسلة» إيديولوجية شللية وانتفاعية صارت اليوم تتحول إلى بيولوجية سلالية وعُصبوية، في ظل الصمت البغيض لبعض النخب المستأنسة بمخزونها المعرفي النظري، والمستريحة به في برجها الاجتماعي المتعالي، ونخب أخرى اختارت موائد السلطان على سلطان العرفان ومصير الوطن، مثلما أشار إليه الدكتور سيدهم في مقاله المذكور أعلاه.

 

بشير عمري
كاتب صحافي جزائري