هل تحمي السلطة في الجزائر نفسها من تاريخ الثورة التحريرية أم تحتمي منه؟ هو ذا التساؤل الذي فجره قرار المسؤولين بإخضاع الكتب المستوردة التي تتناول حرب التحرير الوطنية للمراجعة، في خطوات تعكس قلق هذه السلطة المنبسطة في واقع الجزائريين عبر مديات الزمان الثلاث الماضي، الحاضر والمستقبل، دونما إرادة للتحييد وتسييد الوعي المتجدد والمتقد في الذات، مرجئا لربما بداية حركة الانقذاف من الأعماق إلى حين تتوفر الظروف بما يعتور الانتفاضات الإقليمية المطالبة بالانعتاق من رجس وقمع سلطات المصالح.
فالتاريخ السياسي للجزائر ليس سردا للاستئناس البطولي الطفولي، كما تقرر أن يصاغ ويذاع في مؤسسات التنشئة وصياغة المواطن الحر عقب الاستقلال، في نزوع شمولي أحادي لقولبة الذات، وتأويل ماهية الوجود الوطني تاريخا ومعنى، بل هو تاريخ لتطور حركة الوعي الحر، التي تناهت على أعتاب قداسة الحرية ومطلب الانعتاق قبل أن يصرع مطلب الأحادية حلم الشعب في التحليق ببساتينه المزدانة بتلاوين تراثه السياسي، غطاها رماد القلق والهيمنة الأحادي لجماعة اغتنمت الوطن، واحتكرت السلطة، واقتادت المجتمع وصادرت السياسة.
تشير شاكلة الاحتجاج والنقد النخبوي الشعبي على السلطة السياسية دونما غيرها من السلط، المالية والرمزية، إلى طبيعة هذه السلطة ببعدها الشمولي، الذي جمع كل أشكال السلط، المالية، الثقافية الرمزية، في هيمنة كلية على نطاقات الحراك المجتمعي، وصاية وتسييرا، بعكس الخطاب النقدي والاحتجاجي في الغرب، الذي قد ينصرف إلى سلط أخرى تؤثر بثقل نفوذها على حركة دواليب الدولة والرأي العام في المجتمع، من خلال إلقاء ثقلها ذاك على السلطة، مثل نقد البورجوازية المتطور من حالة تفسير الانبثاق التاريخي لظاهرتها إلى واقع انبساطها، وكذا جماعات الضغط والنخب التي تسعى خلف دوائر المصالح، ولعل المبرر الموضوعي لهذا التمحور الاحتجاجي المتصاعد سُلّميا سياسيا وليس اجتماعيا بالضرورة كما في المثال الغربي، هو ليس فقط ذاك التنصل من الميثاق المرجعي الذي انبنت عليه الهوية السياسية للدولة القطرية بعد الاستقلال، وعلى رأسه الطابع الاجتماعي للدولة، بل لتحول الدولة ذاتها لمصدر ثراء طبقي، الذي ولد ووجد من عدم اجتماعي وتطور في ظل ذلك التنصل والانسلال عن موثق التأسيس القطري الأول.
فالجزائري الواعي منه بسيرورة الدولة وغير الواعي، لا يرى شرعية لسلطة ما أيا كانت طبيعتها، طبقية أو إيديولوجية، تستحق أن يوجه نحوها سهام نقده واحتجاجه، أكثر من السلطة السياسية، لكونها جمعت كل أشكل تلك السلط وأضحى بالتالي السياسي ضامرا والاقتصادي النفعي مضمرا. وكان يفترض، من بعض نخب الرفض والمعارضة لقراءة السلطة لتاريخ الأمة الطويل وسعيها لفرض وإدامة طرحها التاريخي ذاك بما يرسخ صورها وتصورها للهوية وامتداداتها في الزمان والمكان، أن ترفض المحددات الزمانية والموضوعية لبروز وميلاد مجتمعات السياسة والثقافة والمال، الذي صاغته نخب السلطة لتضفي الشرعيات لظهرها وهيمنتها على المجتمع، مثل الشرعية الثورية والشرعية التاريخية، وغيرهما.
فالخطأ الذي ترتكبه بعض التيارات الفكرو ـ سياسية المتمرجعة حول مسألة الهوية، هو أن تبحث عن شرعية طرحها الهوياتي التاريخي للمجتمع، حتى إن ناطح ذلك الخصوصية القطرية زمانا ومكانا، وتأبى موضوعية التاريخ أن تحتمل مثل تلكم المطالب، كاللغة والدين، في حين تهمل مسألة البحث عن سبل إعادة مجتمعها السياسي والثقافي الذي تجلى في أحضان القطرية وانساب معها موضوعيا، قبل أن تصادره الأجهزة التي تفرض رؤية أحادية مذ حدث الاتحاد النوفمبري من أجل قضية الاستقلال.
إرادة التمدد في الوعي واللا امتداد في التاريخ الوطني
التيارات الكبرى التي رسمت حلم الذات الوطنية وحملت الصوت، صوت الأمة في فجر نهضة الوعي الوطني، أي في الفترة التي سبقت ميثاق الثورة الوحدوي، حرمت من الاستمرارية الوظيفية، بغية تجسيد القطع مع التراث السياسي للأمة، الذي يؤسس لشرعية تاريخية المجتمع السياسي، وهذا حتى تظل السلطة هي مصدر الشرعية، وهي منطلق العمل السياسي والنضالي للجزائر الموحدة، فالإسلاميون مثلا الذين حضروا بواكير النضال الوطني من خلال جمعية العلماء، لا يتأسس وجودهم السياسي على هذا التيار، الذي لها ميراثه الفكري والسياسي في المسألة الوطنية وبعدها القطري في الزمان والجغرافيا، لذا ظل منطقهم ومشروعهم مبنيا على مفاهيم هلامية خالية من البعد التجريبي الموضوعي في السياسة، يتخبطون في ما بين صور تأسيس الدولة الإسلامية في صدر الإسلام وتعاليم من مرجعيات ومراجع نظرية وفقهية استقوها من مصادر الثقافة الإسلامية. الأمر ذاته بالنسبة لأصحاب المطلب الأمازيغي، المفصولين عن الميراث الوطني في مطلبهم الثقافي والسياسي، الذي برز مع نهاية أربعينيات القرن الماضي ما أبقى على مطلبهم ارتجاعيا استشكاليا للهوية التي تغيرت وغيرت من ملامح التاريخ والجغرافيا.
كل ذلك أسهم في تقزيم الأرصدة التاريخية والسياسية للتيارات الفكرو سياسية الوطنية، وجعلها أدنى من خبرة السلطة بأجهزتها الإيديولوجية الوطنية (جبهة التحرير الوطني) والأمنية الجيش والمخابرات.
إن تحييد وتجميد سلطة ما بعد الاستقلال، لتراث الجزائريين السياسي، الذي تأسس مرحليا مع تطور وعي رجالات الحركة الوطنية، ولجم صوته وردم فاعليته في التاريخ الوطني، بالإضافة إلى أنه تسبب في انفراط سلسلة العقل السياسي الوطني، باعتبارها الحلقة الأهم في تلك السلسلة، فقد جعل «سلطة الاستقلال الانقلابية الأولى» تظهر في مرايا الوعي اللاحقة، مجرد وريث لأداة العنف عن الاستعمار ليس أكثر، طالما أنها استدامت وتمادت في التضحية بالحرية من أجل الاستقلال، كما شاع من خطابها الرسمي والإعلامي التعبيئي مذ ذاك، ذلك لأن لفظة الحرية ذات بُعد أصح لتوصيف حالة الاستقلال الفردي، في حين لفظة الاستقلال تظل ذات بُعد أصح لتوصيف حالة «الحرية الجماعية» التي قد لا تكون فردية بالمرة كما حدث في تجربة الجزائريين الوطنية. فالوعي السياسي النخبوي هو الذي أفرز سلطة الاستقلال، قبل أن تقدم هاته الأخيرة على شله و»متحفته» لتضع نفسها عبر خطابها الدعائي والتنشيئي، موضع البديل عنه، كمنطلق واستمرارية طبيعية لتطور ذلك الوعي الذي استنفد أغراضه مع الوصول أو التوصل إلى وضع إطار توحيدي «ظرفي» لانتزاع الحرية في نوفمبر 1954، من هنا يتبين أن أزمة الوطن التاريخية التي تأبى أن تنحل بشقيها (السلطوي والسياسي) تضرب بجذورها في عمق بداية نهوض الوعي بالذات القطرية الجزائرية.
وهكذا أزمات قديمة تعتمل في حاضر الأمم غالبا ما تشير إلى خلل البداية في نظام وبنية الدولة ذاتها، ناتج عن حسم عنفي لا توافقي للخلاف التأسيسي، وامتداد ذلكم الاختلاف زمنيا وتمدده مجتمعيا، مثلما شخصه في الحالة المصرية المؤرخ خالد فهمي في معرض نقده لواقع ومآل ثورة 25 يناير 2011 «في رأيي أسباب الثورة قديمة وعميقة، وأحيانا أقول لأن الأمر لا يتعلق فقط بمبارك، بل يمكن أن يكون جمال عبد الناصر، وممكن أن يكون هيكلة الدولة المصرية نفسها، هي التي أدت للثورة، لهذا يتوجب أن نعود ليس فقط للحقبة الليبرالية، بل حتى إلى القرن 19 لكي نعرف ما هي المشاكل التي أوصلتنا إلى هاته اللحظة»، من هنا تتجلى خطورة الاستمرار في تناسي وتحييد التراث السياسي للبلاد، الذي تمارسه الدوائر الحاكمة فعليا في الجزائر، وعدم معاودة استنطاقه من باب ملامسة ينابيع الوعي الأولى في ظل الإخفاق وفي التأسيس لهوية مجتزأة في التاريخ.
لقد فرضت طبيعة التطور قانونها على المجتمع والسلطة في الجزائر، بضرورة التحول إلى فضاء التعددية والحرية نهاية القرن الماضي، لكن إقرار التعددية لم يكن محل إجماع داخل السلطة، فتم إفشاله بطرق دراماتيكية، سُحقت عبرها حدائق السياسة الفتية، وديست براعم أزهارها تسويتها على أرض شيدت عليه سوق للسياسة تباع فيه الذمم وتدفن تحت ثراه أحلام الخلاص من قبضة سلطة الأشباح الفعلية المتحكمة في مصير الجزائري.
وقد أفضى هكذا انتحار رمزي للدولة في تجريد الفاعل السياسي من الحبل السري للممارسة السياسية للبلاد، كما هو الشأن في المشهد السياسي الفرنسي الذي يرنو في أفقه شركاء السياسة إلى تصدر القوى الاقتصادية التي هي من تعدادها، مستندا في ذلك إلى مرجعية ثورة 1789 وتشتغل داخل هذا القوس كل التيارات بكل تناقضاتها وفلسفتها، في بناء مجتمع عصري. وبريطانيا، أو ألمانيا وعقيدة ما بعد الوهم النازي، في حين انهارت مرجعيات التأسيس القطري التي نص عليها بيان أول نوفمبر 1954 وأهمها الطابع الاجتماعي والقيادة الجماعية للدولة، ، ليحل شبح الفراغ المرجعي القاتل المتهدد لكيان الدولة والمجتمع، الذي عبثا حاول المتأخرون من وصّاف الحال السياسي تجاوزه بعبارة «مشروع الرئيس» ساعين بذلك إلى جعل حكمه مرجعا في حد ذاته وفوق كل عملية سياسية، وهو ما يعني دخول الجزائر مرحلة جيلية جديدة في الحكم سمتها التوريث الشللي وليس بالضرورة العرقي، وحقيقة الوضع تشير إلى حالة فراغ كبرى تعيشها البلاد على صعيد المرجعية المشكلة لعقيدة الوجود الوطني، وهي بالمناسبة أخطر من ما يُحذر منه مما يُنعت بخطر ما بعد بوتفليقة.