بسم الله الرحمن الرحيم
{طسم. تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين. وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُون} [القصص 1-6]
ظل الاستبداد السياسي أبرز مظاهر الطغيان البشري عبر كل العصور التي عرفتها المجتمعات الإنسانية منذ بداية ظهورها ونشأتها حتى يومنا هذا؛ حيث شهد هذا العصر من الطغاة ما لم يجتمع مثلهم في كل العصور، وفي كل الأمم والأديان!
ولعل أشد ما في الطغيان والاستبداد خطورة؛ قدرته على توظيف الدين والسحر، والعلم الفكر، والثقافة والشعر، وكل ما يستطيع توظيفه لفرض رؤاه، وتحسين قبحه، وتبرير جرمه، وترسيخ دعواه؛ حتى يغدو الطاغوت عظيما في نفوس قتلاه، كريما في عيون ضحاياه!
لقد كرر القرآن قصة فرعون مصر كأقدم الملوك الطغاة الذين عرفهم التاريخ السياسي وأشدهم ظلما وإجراما، وجعله أنموذجا وعبرة في بدايته ونهايته؛ لتكرر الفرعونية كحالة سياسية في كل عصر ومصر، ولخطورته ليس فقط على الإنسان؛ بل على العقول والأديان!
ولا أدل على ذلك من قدرة الإمبراطورية الرومانية وملوكها على تحريف المسيحية من ديانة توحيدية تقوم على الرحمة والتسامح إلى ديانة وثنية، وإلى شن حروب همجية دموية باسم المسيحية! ومارست أبشع صور الطغيان والاستبداد الذي عرفته أوربا، وانتهت بمحاكم التفتيش باسم المسيح؛ حتى صار شعار الثورة الفرنسية (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)!
كيف ينجح الاستبداد في توظيف الأديان التي جاءت أصلا من أجل العدل والرحمة والإحسان؛ ليجعل منها وسيلته لممارسة كل صور الإجرام والفساد في الأرض، والظلم والطغيان، باسم الله وباسم الأديان، مع موت الضمير والوجدان؟!
كيف يتحول الإنسان الضعيف -بمجرد وصوله للسلطة- إلى إله بشري عنيف مخيف، يمارس القتل والإجرام؛ دون أن يرف له جفن، أو يهتز له حس؟!
إنها ظاهرة التأله البشري الذي يستعبد الإنسان فيها أخاه الإنسان ظلمًا وعدوانًا، ويستخدم الدين نفسه لتبرير تألهه غرورًا وطغيانًا، ويحتج لظلمه وفساده، وإجرامه واستبداده، بنصوص الدين التي جاءت بتوحيد الله والإحسان إلى عباده!
لقد جاء الإسلام بالشورى كنظام حياة للمجتمع الإسلامي بمكة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [1]، وبالخلافة كنظام سياسي للدولة في المدينة بعد عهد النبوة؛ كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ}[2].
وقد حدد النبي ﷺ في أحاديث متواترة تواترا معنويا معالم هذا النظام السياسي الذي جاء به القرآن؛ فقال ﷺ: (تكون النبوة… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة… ثم يكون ملكا عاضا، ثم يكون ملكا جبريا… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)[3].
وقال ﷺ: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)[4].
وقال ﷺ كما في الصحيحين: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، فأوفوا بيعة الأول فالأول)[5].
وقال: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما)[6].
وأجمع الصحابة وأهل السنة على قول عمر في الإمامة؛ كما في صحيح البخاري: (من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي تابعه، تغرة أن يقتلا)، وأجمعوا على ما قاله عبد الرحمن بن عوف حين بايع عثمان: (أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون)[7].
وهذا هو ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه كما قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}[8].
وقد نقل ابن حزم إجماع الأمة وأهل الإسلام كافة على أن الإمامة لا يجوز فيها التوارث.[9]
فليس في الإسلام ملوك ولا ملكيات ولا أنظمة وراثية، ولا دول وطنية قطرية تفرق الأمة الواحدة، وإنما خلافة وخلفاء واستخلاف، وأمة واحدة، وإمامة واحدة، وما وراء ذلك إلا جاهلية وكسروية وقيصرية!
فكيف استطاع الطغيان والاستبداد إعادة انتاج نفسه من جديد باسم الإسلام؟ وكيف تتكرر ظاهرة الفرعونية كحالة سياسية بالانقلابات العسكرية تحت شعار الديمقراطية والليبرالية؟
هذا ما حاول المؤلف الإجابة عنه في كثير من كتبه بداية من “الحرية أو الطوفان” و “تحرير الإنسان”، وقد جاء هذا الكتاب (نهاية الاستبداد) -وهو جمع لآراء المؤلف المبثوثة حول ظاهرة الاستبداد منذ نشأته حتى نهايته- لفهم هذه الظاهرة السياسية الاقتصادية الدينية، التي يتكرر فيها الطغيان كلما ظهر فرعون وقارون وهامان؛ حتى يبعث الله لهم من يهز أركانهم وينهي طغيانهم!
أ.د. حاكم المطيري
___________________________________
[1] الشورى: 38
[2 ]النور: 55
[3] أحمد في المسند 4 /273، والطيالسي في مسنده 438، وهو حديث حسن صحيح الإسناد، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح رقم (5).
[4] رواه أبو داود ح رقم (4607)، والترمذي ح رقم (2678)، وابن ماجه ح رقم (42)، وقال الترمذي: (حسن صحيح).
[5] رواه البخاري ح رقم 3455، ومسلم ح رقم 1842.
[6] رواه مسلم ح رقم 1853.
[7] صحيح البخاري مع الفتح 13 /194 ح 7207.
[8] النساء: 115
[9] الفصل 4 /167.