لم أكن ساذجا حتى لا أعرف !
———————-
١ – كنت أعرف أن العالم الديني فى السعودية مسير ، وليس مخيرا ، ولهذا كنت حذرا جدا من التعامل مع الفتوى الصادرة من الهيئة التى سُميت ( بكبار العلماء ) ، فهي لم تكن مستقلة فى القرار الشرعي ، بل كانت تدور فى فلك السياسة العامة للدولة السعودية ، ولكن البسطاء من المتدينين من الإخوان والسلفيين انخدعوا كثيرا من هذه الظاهرة الدينية السياسية فى الدولة السعودية .
٢ – كنت أعرف أن العالم الديني السعودي يتكلم كثيرا عن حقوق ولي الأمر ، وليس عن حقوق الشعب ، ولم أَجِد فتوى تتناول حقوق الشعب السعودي ، وغيره من الشعوب المسلمة ، بل العكس هو الموجود ، ولهذا كنت أعرف أنه مسير ، وليس مخيرا .
٣ – كنت أعرف محدودية الفقه السياسي عند العالم الشرعي فى السعودية ، وعدم فهمه للتغيرات الدولية ، والعجيب أن الترابى تكلم قبل عقود أربعة عن حقوق المرأة المسلمة فى الكتاب والسنة ، وأنها ليست شيئا ، ولا تابعة للرجل ، وليست بحاجة إلى ولي فى أمرها ، فهي رشيدة كغيرها من الرجال ، وليس هناك فروق كبيرة بين الرجل والمرأة إلا ما نصت عليه النصوص ، وهي قليلة ، ولكن علماء السعودية قاموا عليه ، وكفروه ، واليوم يقرون بعضا مما ذكر الترابي فى ذلك الحين ، ولكن بنكهة ليبرالية ، بينما الترابي كان يدافع عن حقوق المرأة بنكهة إسلامية .
لست موافقا لجميع آراء المفكر الإسلامي حسن الترابي ، ولكن أعرف شجاعة الرجل واستقلاليته الفكرية ، وعدم ارتباطه بنظام سياسي معين ، فكل ذلك جعلت الرجل مفكرا من الطراز الاول .
٤ – كنت اعرف محدودية الحركة عند العالم الديني فى السعودية ، وعدم وجود حرية معتبرة لديه ، فهو يدور فى فلك القرار السعودي ، وليس لدية جرأة فى الخلاف ، أو المجادلة ، فقد تماهت الحركة الدينية العلمائية فى القرار السعودي منذ زمن بعيد ، ولعبت الحركة الوهابية فى نسختها المدخلية ، والربيعية ، وهي صنيعة المخابرات السعودية والمصرية ، ولهذا وجدنا الفتاوى القوية التى صدرت من تلك الهيئات فى منع إقامة علاقة مع الكيان الإسرائيلي سابقا ، أما اليوم فلا مانع من ذلك ، لأن الحكومة السعودية تحولت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، فتتحول الفتاوى تبعا للقرارات السياسية .
٥ – كنت أعرف تأثير المال السعودي على مواقف العالم الديني فى هذه الدولة ، فكانت الأدعية القوية ، والخاشعة على الإتحاد السوفيتي فى أيام الجهاد الأفغاني ، ثم رأينا تلك الأدعية الخاشعة فى أرض الحرم على الصرب فى أيام الحروب فى البوسنة والهرسك ، وحسب الناس فى ذلك الزمان أن الإمام متفاعل مع قضايا الأمة ، ولكن تبين للناس البسطاء أنهم كانوا فى وهم ديني بغلاف سياسي .
يا للعجب ، توقفت الأدعية للشعب الفلسطيني ، والغزّاوي بوجه خاص ، وتوجهت الأدعية على النظام القطري فى شهر رمضان السابق ، يا حسرة على العباد فى زمن الدجل السياسي بالغلاف الديني .
٦ – كنت أعرف خوف النظام السعودي من التدين الرشيد ، ومن الفكر الوسطي ، ومن فقه الحياة الصحيحة ، فكان النظام يصنع تدينه الشكلي الذي يؤدي إلى إفساد الأخلاق من المجتمع ، وتنفير الناس من الدين ، فكان الإكراه السياسي بلغة الدين سائدا فى الشارع ، وارتبطت مظاهر الدين وشكلياته بالقسوة والإكراه ، فصارت السخرية من رجل الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ( الحسبة ) موضة ، وأصبح الدين مكروها ، والحسبة فى عصر هذه الدولة فاشلة .
لقد أبعد العقلاء من الدولة ، ورجال الخبرة من الساحة ، والسبب أنهم ليسوا قابلين للتدجين ، فلهم شخصياتهم المستقلة ، وشارعهم الخاص ، وفهمهم الذكي ، فهم يعتقدون أفكارا جاءت من وراء الحدود وفقا للخطاب الرسمي .
٧ – كنت أعرف أن الفقه فى السعودية مرتبط بسياسات الدولة ، وهذا فقه جديد فى الساحة ، ويقوم على فكر السيف ، وليس على فكر الكتاب والمعرفة ، ولهذا فهو يستطيع أن يتواءم مع السياسات العامة للدولة بسرعة ، فقد كانت الفتوى تدور حول منع قيادة المرأة للسيارة استنادا إلى مبدأ شرعي ( سد الذرائع ) ، وكان فى العالم كله فتاوى صدرت من علماء معتبرين فى العالم الإسلامي ، وهي ترى بأن من حق المرأة قيادة السيارة ، ولكن كبار العلماء فى هذه الدولة يرفضون ذلك بقوة .
فى عشية وضحاها ، وفى لحظة ليبرالية سعودية ، وفى زمن التيه الفكري والعلمي يصدر قرارا من الدولة يسمح بموجبه قيادة المرأة للسيارة ، فجاءت الفتوى تبارك القرار ، وتعطيه الشرعية دون أن تشرح ما المتغيرات التى طرأت فى الحالة حتى تتغير الفتوى .
ما الجديد فى القرار السعودي الأخير ؟ المرأة اليوم تقود الدولة و ( ميركل ) نموذجا ، ولا توجد دولة تطرح فى منابرها مثل هذه الترهات .
إن العجب في السعودية هو دوران العالم فى سلك الفضاء السياسي ، وكأن الحياة عند هؤلاء مرتبطة بالحاكم لا غيره ، والخطورة كذلك تكمن فى الوثنية السياسية ، وهي أعمق وأخطر من الوثنية الشعائرية ، وكم تحدث هؤلاء عن خطورة عبادة القبور ، ولكنهم لم يتناولوا أبدا عن خطورة عبادة القصور .
٨- فى الزمن الماضي ، حاربوا بقوة ما يسمى بالحوار مع الغرب ، فقالوا : هو بدعة دينية ، لا حوار مع الآخر ، بل الأصل هو الدعوة والجهاد ، ولكن فقهاء الدعوة ، وخبراء الفكر الإستراتيجي تبنوا مشروع الحوار مع الغرب ، فالغرب كما قال القرضاوي ليس دينيا فقط ، ولا هو مشروع إمبريالي فقط ، هو مشروع معقد ، ويجب أن نفتح معه حوارا شاملا ، ولكن يكون الحوار معه باللغة العلمية والندية والحضارية .
فى هذا الزمن رفضوا الحوار ، ثم جاء الملك عبد الله بن عبد العزيز ، فقرر فتح الحوار مع الغرب ، وأنشأ لجنة تابعة للرابطة ، فتحرك الأمين العام للرابطة نحو الغرب ، وعرف بأن هذا المشروع لا يتقنه إلا الإخوان ، فذهب إليهم ، وتودد معهم لتبنى المشروع وإنجاحه ، والمشكلة تكمن فى أن الحوار كان قرارا ، وليس خيارا ، فمات فى لحظته .
الحوار لغة عالمية ، وفن يتقنه الكبار ، وأصحاب الرسالات ، وليس مجالا للخطباء ، والأئمة ، ولهذا رأينا تخبط إمام الحرم الشريف الشيخ السديس ، والذي قال : إن العالم اليوم يقوده قطبان ، السعودية بقيادة ملكها ، وأمريكا بقيادة رئيسها ، وهذا وهم سياسي فى اللغة الإستراتيجية .
العالم اليوم له أقطاب عالمية ، فالقطب الأول والأساسي يتمثل فى الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي القوة الأولى سياسيا واقتصاديا وعسكريا ، أما القطب الثاني الذي بدأ يتشكل بقوة ، ويأخذ مكانه من الصراع الدولي يتمثل فى الصين ، فهي القوة الثانية في الإقتصاد الدولي ، ولها حضورها القوي فى الملفات السياسية والعسكرية ، وتمثل روسيا القطب الثالث بما تملك من ترسانة نووية ، وطموح سياسي ، ونهضة اقتصادية ، وتمدد فى الجغرافيا الدولية ، ولا ننسى الإتحاد الأوربي كقطب رابع فى المعادلات الدولية .
إن هذه اللغة الساذجة لعالم ديني ، وهذا التصريح البلاغي الفارغ من كل مضمون سياسي ، وعسكري ، فإنما يدل على الخواء الفكري لمثل هؤلاء العلماء الذين لعبوا دورا مسموحا به ، ولكنه بدأ ينكشف حتى للعامة من الناس .
٩- كنت أعرف أن العالم الديني السعودي له مهمة محددة وهي ( تخذير الشعوب ) ، ولَم يكن كاذبا حين قال ماركس : الدين أفيون الشعوب ، ولكنه لم يكن باحثا جادا فى هذه المسألة ، هناك جدلية بين الحاكم ( الطاغية ) ، وبين رجل الدين ( السمسار ) .
رجل الدين يبرر أفعال الحاكم ، والحاكم يستخدم رجل الدين البسيط ، ومن رحم هذه العلاقة يخرج الشعب الميت ، والنائم ، والمخذر ، ولكن التاريخ يحدثنا بأن هذه المسألة تؤدي إلى أمرين ، إلى الثورة عليهما جميعا ، وهذا ما فعلت الثورة الفرنسية حين قرر الثوار بأن يشنق آخر أمعاء القساوسة بآخر الملوك ، أو أن ينتصر الدين الحقيقي على الدين المزيف .
فى الغرب انتصرت الثورة على الدين المزيف ، وعلى الحاكم المستبد ، وانتصر الحق والدين الصحيح على الباطل والدين المزيف فى تجربة موسى عليه السلام ، وهي كتجربة ممكنة الحصول فى بلاد الخراب الفكري والسياسي .
١٠ – كنت أعرف أن التجربة السعودية غير قابلة للنشر ، فهي تجربة فريدة من نوعها ، وتنبثق من قراءة متشددة سياسيا ودينيا ، ولكن الحكام من قبل استغلوا السذاجة الدينية لدى الشعوب ، فكان لقب خادم الحرمين الشريفين من أدوات استغلال الدين عند الشعوب المسلمة ، بل وكانت الحروب الباردة تمنح السعودية حق القيادة للعالم الاسلامي ، فاستغلت الحركات الدينية ، وعلى رأسها الإخوان المسلمين ، فكان التحالف الإسلامي – المسيحي – الغربي ضد الشيوعية ، وقادت السعودية ومعها الحركات الدينية الشعوب الإسلامية تحت قيادة الغرب فى ضرب الشيوعية .
انتهت حرب الباردة ، وانتهى معها زمن التحالف ، فبدأ العالم ليدخل مرحلة جديدة ، ولكن الساسة فى السعودية لم يلاحظوا هذه التغييرات الجذرية ، بل ولَم يواكب تغيير فكري عند النخب الدينية ، ومن هنا وجد هؤلاء جميعا بأن الخطة العالمية تستهدف المنطقة ، بل وهناك خطة استراتيجية فى مراجعة الدولة الحديثة التي انبثقت من مشروع سايمس – بيكو ، وأن المرحلة الجديدة لن تكون على مساقات المشروع السابقة ، وإنما لا بد من هزة سياسية واجتماعية للمنطقة ، وهذا يمهد فى إيجاد الشرق الأوسط الجديد .
فى المنطقة قوى وظيفية تعمل وفق خطة عالمية ، ودولا وظيفية لها أعمال محددة وفق استراتيجيات عالمية وإقليمية ، ولكن لدينا وعاظ لا يفقهون هذه اللغة ، ويعيشون فى زمن الدولة الإسلامية فى العهود الأموية والعباسية ، ويستأنسون خطاب الفقهاء فى اللحظات السابقة ، لتنزيلها فى العصر الحديث ، ولا يلاحظون التغيير الجذري للدولة فى البناء الشكلي ، وفى المضمون الداخلي .
كل ذلك ، كنت على معرفة بها ، ولَم أكن ساذجا جدا حتى لا أعرف ، وكل ذلك ، كان مرسوما ، ولَم أكن ساذجا حتى لا أعرف ، وكل ذلك ، تم فى غياب العقل الفقهي المقاصدي ، فكانت القراءة الظاهرية بدون فقه المذهب الظاهري سائدا فى هذه المرحلة .
كل ذلك ، يؤكد لى أن لا مستقبل للنظام السعودي فى لحظة العولمة ، فهو يحارب ذاته ، لأنه كنظام قام على قراءة دينية ، وشرعيته دينية ، ذلك لأنه ليس نظاما مؤسسا على العقد والبيعة ما بين الشعب والحاكم ، فالبيعة المعروفة فى السعودية هي شكلية ، ليست إلا ، ومن هنا فهي ليست دولة عصرية بالمعنى العلمي للكلمة ، وتخرج من شروط وجودها بلا خطة هادية ، فهي إلى الهلاك السياسي اقرب ، ومن هنا ، نلاحظ التخبط فى تسيير الدولة فى المرحلة الراهنة من الإعتقالات التعسفية ، ومن تبنى قرارات غير مدروسة ، وكل ذلك يجعل النظام السعودي فى كف عفريت .
ليس من المهم أن تعرف متى يزول هذا النظام ؟ ولكن من المهم أن تعرف أن هذا النظام ليس مؤهلا للبقاء ، فهو نظام يقوم على الإكراه والغلبة ، والثقافة العالمية تنزع نحو إقامة دول تقوم على التفاهمات ، والعقود السياسية ، فقد ولى زمن القوة ، وقد لاحظنا أن البريطانيين دخلوا فى الإتحاد الأوربي عبر استفتاء شعبي ، وخرجوا منه عبر استفتاء شعبي ، فلا مستقبل لأنظمة تعود سياساتها إلى ما قبل ألف عام .
لقد بشر ( العتيبة ) أنظمة علمانية فى الشرق الأوسط ، وهو يعنى بذلك فتح دور للسينما ، ومحلات للغناء ، ورخص قيادات السيارة للنساء ، فهكذا فهم العتيبة وإخوانه العلمانية ، ولكنه لم يلاحظ أن ثلاثة تجارب ناجحة فى المنطقة ، ولكنها ليست كلها عربية ، فهناك تجربة الأتراك فى بناء دولة عصرية ناجحة ، وتجربة الإيرانيين فى بناء دولة ذكية فى المنطقة ، وتجربة إسرائيل فى بناء دولة عبرية ديمقراطية .
رأينا فشل الدولة فى العراق ، وفى سوريا ، وفى اليمن ، وفى ليبيا ، وتعثر مشروع الدولة فى مصر ، وفى السودان ، وفى لبنان ، وتراجع مفهوم الدولة فى السعودية والخليج ، وتآكل مشاريع الوحدة من زمن الزعيم عبد الناصر ، حتى زمن الأمير محمد سلمان .
فى هذا الزمن ، لا مكان للأغبياء فى الخريطة السياسية ، ولا مكان للعلماء الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، ولا مكان للمثقفين الذين يعيشون تحت رحمة المال ، ولا مكان للدعاة الذين يقولون ما لا يفهمون .
بقلم الشيخ عبدالرحمن بشير
اود اطلاعك على شيء مهم لعل الله ان ينفعك به . لايوجد طائفة فوق الارض أشد نصحا (او ما تسميه انت وامثالك معارضة ) للحاكم المسلم من العلماء الربانيين (الذين تسميهم مدخليين و جاميين ) غير انك لا ترى ولا تسمع انت ذلك لان ربك عزوجل فرض عليهم ذلك سرا بينهم وليس جهرا علنا . ……تعلم دينك ترحم نفسك .