سقوط القدس… والتاريخ المجهول
( وقرعت أجراس الكنائس ومنها الألمانية فرحا بسقوط القدس وكأن ما خسرته ألمانيا في الحرب يعزيها عودة الأرض المقدسة دينيا إلي أيدي المسيحيين ) محمد كرد علي “خطط الشام”
في 11 / 12 / 1917م دخل الجنرال البريطاني اللنبي مدينة القدس الشريف بعد انهيار الجيش العثماني الذي خاض معارك كبرى على حدود غزة استمرت منذ قيام الحرب العالمية الأولى, هذا الانهيار المفاجيء للجيش العثماني الذي فتح الطريق لسقوط القدس له تاريخ مجهول وأسرار خفية حرصت القوى الاستعمارية والأنظمة الوظيفية على إخفائها وتزييف أحداثها.
فقبل دخول الجنرال اللنبي القدس في عام 1916م أعلن الشريف حسين ثورته وخروجه على الخلافة العثمانية بعد اتفاقه المشهور مع بريطانيا (الحسين – مكماهون) ووعدها للشريف بالخلافة العربية فعملت بريطانيا على تهيئة الأجواء لدعمه سياسيا من خلال إعلان مؤتمر الكويت وعسكريا بإنزال القوات البريطانية والفرنسية في جدة والوجه والعقبة وإنشاء بريطانيا لقيادة عامة لقوات الحجاز بإشرافها وقيادتها في جدة لتوجيه قوات الشريف حسين والأمير فيصل ضمن خطط بريطانيا العسكرية الكبرى لإختراق خطوط الدفاع العثمانية في الشام والعراق. “الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية 1916 ج2″
وبهذه الترتيبات السياسية والعسكرية استطاعت بريطانيا من توجيه جيش الشريف حسين بقيادة الأمير فيصل إلى ضرب الخطوط الخلفية للجيش العثماني في العقبة ومعان لتفتح الطريق أمام الجنرال اللنبي لشن هجومه العام في عام 1917م بعد انهيار ميسرة الجيش العثماني ليتقدم جيش اللنبي نحو القدس وجيش االأمير فيصل يحمي ميمنته ليلتقيا جميعا في دمشق بعد انسحاب الجيش العثماني وتراجعه نحو الأناضول(الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية 1917 ج3) ومن أعجب الأحداث أن الأمير فيصل بن الحسين عندما زار دمشق قبل ثورتهم بأشهر ألقى خطبة في مركز القيادة العثماني أقسم فيها بأن يعود في أمد قريب على رأس محاربيه للمساعدة على قتال أعداء الدين (مذكرات جمال باشا- الكتاب الأول) وفعلا عاد الأمير لدمشق إنما على ظهر العربة البريطانية تابعا للجنرال اللنبي.
وفي كواليس قيادة الجيش العثماني في الفترة التي سبقت سقوط القدس فقد كشف جمال باشا القائد العام في سوريا وغرب جزيرة العرب في مذكراته عن التوجه العام السائد لدى القيادة العامة للجيش العثماني التي فضلت التركيز على استرداد بغداد والتزام الدفاع على جبهة فلسطين بالرغم من تحذير جمال باشا من خطورة هذا التوجه وأكد على جبهة فلسطين والقدس من أهم الجبهات التي يجب تدعيمها لضرب الجيش البريطاني فبسقوط فلسطين والقدس ستسقط الشام وبالتالي سقوط الدولة وانهيارها وقد وصف جمال باشا الجبهة الفلسطينية (أضعف موقع وأهم موقع في الدولة).
ومع اشتداد معارضة جمال باشا لتوجه قيادة الأركان وعدم اهتمامها بالجبهة الفلسطينية تلقى دعوة من إمبراطور ألمانيا لزيارة ألمانيا ولم يعرف سبب الدعوة على حد وصفه لها، ليتفاجأ وهو في أثناء زيارته ببرقية من أنور باشا يخبره فيها بأنه تم تعين المارشال الألماني فون فالكنهاين لقيادة الجيش العثماني على الجبهة الفلسطينية لشن هجوم على الجيش البريطاني ولنترك جمال باشا يصف تلك اللحظات( كانت هذه البرقية بمثابة ضربة شديدة بالنسبة إليّ. فقد أدرك القائد الألماني مراده وضمن العمل لتنفيذ مشروع يعلم الله أنه كان شديد الخطر ولا بد أن يلحق الوطن منه بلايا عظمى، فأبرقت إلى أنور باشا البرقية التالية:
«إن القائد فون فالكنهاين هو صاحب فكرة الهجوم على فردان التي كانت شر مستطيراً على المانيا فهجومه الفلسطيني مؤداه الشر المستطير علينا»، وما كان أشد حزني عندما تبين لي فيما بعد أنني تنبأت نبوءة صادقة بالكارثة التي كانت القاضية علينا، وإني لعلى يقين من أنه لو لم يدر البحث أولا مطلقا في استرداد بغداد وحشدت كل الجنود في الجبهة الفلسطينية، ولو لم يوضع فون فالكنهاين ثانياً في قيادة الجيش في فلسطين، لتمكنا من الدفاع عن خط غزة – بئر السبع أعواماً عدة، ولكانت سوريا وفلسطين لا تزالان جزءا من الدولة العثمانية يوم توقيع الهدنة) مذكرات جمال باشا – الكتاب الأول – المجموعة التاريخية العثمانية العربية 1908-1918م, وهكذا وإن لم يصرح جمال باشا بأن إبعاده من الجبهة الفلسطينية هو تمهيد لفتح الطريق أمام الجيش البريطاني نحو القدس فإنه أشار لذلك بقوله (فقد أدرك القائد الألماني مراده).
وقبل سقوط القدس بأسابيع أرسل جمال باشا القائد العام في سوريا وغرب جزيرة العرب للأمير فيصل بن الحسين رسالة تاريخية بتاريخ 26 / 11 / 1917م هذا نصها:
( إننا اليوم نعيش أكثر الصفحات غموضاً وشكوكاً في تاريخ الإسلام, إن الحكومة الحاضرة التي تدعى حكومة ” تركية الفتاة ” قد دخلت، لسبب أو آخر، الحرب الكونية مصممة على وضع حد لمذلة الإسلام، وعلى العيش بعز واستقلال، أو الموت بشرف , وحيث تعهدت بهذا اعتمدت الحكومة على التأييد القلبي والتعاون من جانب العالم الإسلامي, ولأجل تحقيق الغاية نهجت المنهج الذي وجدته الأفضل والأصوب، مظهرة العطف حيث يجب العطف، والشدة حين تلزم الشدة, وقد اعترفتم خلال اجتماعاتنا الكثيرة، في مناسبات عديدة، بعدالة وجهة نظرنا، وإنني طالما سمعت ذلك منكم, وفي برقيتكم الأخيرة التي تعلنون فيها انفصالكم النهائي عنا، كنتم قد اعترفتم بغرابة تصرفكم هذا، ووعدتم بإيضاح دوافعه في اتصال شفهي يتم في المستقبل القريب، طالبين في الوقت الحاضر المعذرة على سلوككم, وهنالك زاوية واحدة يمكن منها تبرير ثورتكم لمصلحة العرب، وذلك إمكان تأسيس حكومة عربية مستقلة ستضمن بهيبتها استقلال الإسلام وكرامته ورفعته، ولكن أي نوع من الاستقلال يمكنكم أن تتصوروا لحكومة عربية تقوم بعد تدويل فلسطين، لقد أعلنت ذلك حكومات الحلفاء بصراحة وبصورة رسمية، مع وضع سورية تحت السيطرة الفرنسية تماماً، وجعل العراق بأسره جزءا من الممتلكات البريطانية؟ وكيف ستمكن حكومة كهذه من تقرير مصير الإسلام؟
لعلكم لم تفكروا بهذه النتائج في البداية، ولكنني آمل أن يظهر لكم مشهد الاحتلال البريطاني لفلسطين هذه الحقيقة عارية, وإنه لمن المؤلم حقاً رؤية هذه الحقائق وهي تظهر للعيان بفظاعتها, والعزاء الوحيد هو أننا نعلم أن الأوان ليس متأخراً لحصر الكارثة أو إصلاح الأخطاء التي ارتكبت, فإذا اعترفتم بهذه الحقيقة فليس هنالك ما هو أسهل من إعلان عفو عام عن الثورة العربية وإعادة فتح المفاوضات لأجل حل المشكلة لصالح الإسلام, وإني واثق من أني بإرسالي هذا الكتاب أؤدي واجباً دينياً، والمسؤولية تقع على من لا يقدرون هذا, والسلام على من اتبع الهدى). “الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية” 1917-1918 ج3.
لم تجد رسائل جمال باشا ولا غيره من دعاة الوحدة صدى لدى من ثار على الخلافة ووقف مع الحملة الصليبية ليعود جمال باشا ويصف في مذكراته ما آل إليه الوضع في فلسطين والشام والعراق فيقول (الآن وقد وضعت الحرب أوزارها، وتمكن الإنكليز بفضل ثورة الشريف حسين من هزيمة الجيش العثماني في فلسطين، وأتموا احتلالهم لسوريا وفلسطين، فما هي حالة البلاد الإسلامية؟ لقد أصبحت فلسطين والقدس – تلك المنحة الثمينة التي أهداها الخليفة عمر إلى العالم الإسلامي – في قبضة الإنكليز الذين يبغون إنشاء دولة يهودية فيها وقد تنازلوا لفرنساعن منطقة تسمى «لبنان الكبير» تشمل لبنان الولاية وطرابلس وبيروت ومدينتي صور وصيدا وجهة بعلبك وسهل البقاع، وأصبح العراق بأسره تحت الحماية الإنكليزية) “مذكرات جمال باشا – الكتاب الأول”.
لقد دخلت الحملة البريطانية الصليبية القدس عام 1336هـ 1917م كما دخلتها الحملة الصليبية الأولى عام 493هـ 1099م في حالة ضعف للخلافة وفرقة بين قوى الأمة وشعوبها والفرق بين الحملتين هو في نتائجها فالحملة الصليبية الأولى لم تسقط الخلافة كنظام سياسي يحكم الأمة وهو ما مكن الأمة وقواها من إعادة رص الصفوف والوحدة وتحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي, وأما الحملة الصليبية الأخيرة فقد استوعبت دروس الحملة الصليبية الأولى فلم تكتف باحتلال القدس بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بأن أسقطت الخلافة العثمانية الإسلامية كنظام سياسي جامع للأمة وشعوبها وقسمت العالم الإسلامي والعربي بين القوى الاستعمارية بعد مؤتمر فرساي الشهير وأنشئت نظام دولي جديد باسم عصبة الأمم لتخرج الخلافة الإسلامية كدولة ونظام سياسي من المشهد السياسي العالمي ولتخضع شعوبها لنظام الانتداب, لتنشيء بذلك القوى الاستعمارية منظومة سياسية وعسكرية وفكرية متكاملة تحكم من خلالها العالم الإسلامي والعربي من جاكرتا إلى الرباط.
إن تاريخ القدس وأحداثه منذ استلام الخليفة الثاني عمر الفاروق لمفاتيحها إلى لحظة سقوط الخلافة العثمانية تكشف للأمة ما يخطط له أعداء الأمة من تآمر ومنافقيها من خيانة, ففي فلسطين القدس يتجلى النصر وتظهر الهزيمة, فلم تسقط القدس عام 1917م إلا وعمقها العربي والإسلامي قد سقط, فالخليج والجزيرة العربية واليمن ومصر والسودان والصومال والعراق والهند وماليزيا تحت الاحتلال البريطاني والمغرب العربي تحت الاحتلال الفرنسي وليبيا والحبشة وارتريا تحت الاحتلال الإيطالي واندونيسيا تحت الاحتلال الهولندي ودار الخلافة اسطنبول محاصرة من الروس وبريطانيا وفرنسا.
واليوم مع عودة القدس لواجهة المشهد السياسي في العالم العربي والإسلامي بعد قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل, وفي ظل ثورة الربيع العربي فهذه الفرصة التاريخية للشعب الفلسطيني ليلتحق بركب الربيع العربي ويبتعد عن الرؤية السياسية القاصرة التي اعتمدت على أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية وأن الانشغال عنها لا بالربيع العربي ولا بغيره هو انحراف عن القضية ومؤامرة عليها, في حين أن الواقع التاريخي والسياسي يؤكد عكس ذلك تماما ففلسطين والقدس لن تتحرر إلا إذا تحررت الأمة وشعوبها من الاحتلال والاستبداد, والثورة العربية هي الطريق الوحيد اليوم أمام الأمة وشعوبها لتحرير القدس وفلسطين ليعود الشعب الفلسطيني إلى أرضه ووطنه بعد أن أخرجته منه القوى الاستعمارية والأنظمة الوظيفية.
فالثورة العربية هي المقاومة الحقيقة هذه هي الحقيقة التي لم تستوعبها قوى المقاومة الفلسطينية إلي اليوم, ولعل انتفاضة القدس تعيد تصحيح انحراف بوصلة المقاومة لدى قواها الإسلامية والوطنية من اتجاه اوسلو والقاهرة إلى القدس والأقصى والربيع العربي ولها في التاريخ القريب عبرة وعظة وكما وصف الأمير شكيب أرسلان نتائج الحرب العالمية الأولى ( في أسابيع اختفت دول وامبراطوريات عمرها قرون) “تاريخ الدولة العثمانية” الأمير شكيب أرسلان – جمع وتحقيق حسن السماحي سويدان.
(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
الأحد 6 ربيع الآخر 1439هـ
24 / 12 / 2017م
سيف الهاجري
Le malheur des musulmans avait commencé par la trahison de Mohamed Ali Pacha, en 1805 , l’invasion de l’Afrique du nord en 1830 et l’instauration du culte républicain pendant la première guerre dite mondiale.
Cette guerre n’est pas encore terminée , on avait inventé le mot nation arabe alors que les musulmans n’ont jamais connu qu’une seule nation ‘La nation du prophète. psl ‘