عناوين صحفية تسيل حقدا ودما، تذكرنا بعشرية لم تنته مخلفاتها، فبعد أن نادوا ودعموا وأضفوا شرعية على المجازر التي زهقت أرواح الآلاف من المواطنين الغلابة وزجت بآلاف أخرى في السجون وفيافي الصحراء ودفعت بعشرات الآلاف إلى المنفى، ناهيك عن زهاء 20 ألف مختطف، كل ذلك بحجة “الحفاظ وإنقاذ الجمهورية”، وبعد أن اعتقد أصحاب هذه العناوين أن الوضع استتب لهم وتحقق حلمهم، وباتت الجزائر جمهوريتهم دون سواهم، خالية من شعبها (الغاشي)، استيقظوا لسوء حظهم على كابوس يقض مضاجعهم في واضح النهار، ليشاهدوا بذهول ورعب، أن الشعب الذي ظنوا أنهم تخلصوا منه، أو على الأقل، كبلوه إلى الأبد، لا زال موجودا، ولم يتلاش مثلما كانوا يحلمون، ولا زال وفيا لقيمه وأصله وفخورا بالحضارة التي ينتمي إليها رغم المسخ والتضليل الذي مارسته طيابات الحمام طيلة عقود من الزمن.
هذا المشهد “الكابوس” الذي جسدته وقفة أهل ورقلة السلمية المطالبة بالعيش الكريم، قذف في نفوس الغربان المتربصة الرعب وأشعرهم بخيبة أمل مريرة، أفقدتهم صوابهم ودفعتهم يتخبطون كحاطب ليل، ينفثون من جديد سمومهم وحقدهم ضد أهلينا في ورقلة وغيرها من المدن التي سارت على دربها. شهدنا كيف أن ذات المنابر، وبنفس الطريقة، راحت تدبج مقالات العار والتحريض، منها من طلب بإلقاء المحتجين في فيافي الصحراء تماما مثلما فعلوا قبل قرابة 30 سنة، في رسائل يشتم منها كراهية دموية تروم تحقيق ما لم تحققه أقلامهم على مدى ربع قرن من نداءاتهم الإجرامية، لكن بدا واضحا، لسوء حظهم، أن هذه الغربان المثلجة تعيش زمن عتيق عاف عليه الظهر، وغير الزمن الذي استحوذوا فيه على معظم وسائل التضليل لتوجيه أجهزة الدولة ووسائل الشعب، من قوات أمن وجيش، لكسر شوكة الشعب الذي يفترض أنهم يوجدون لحمايته، وساهموا في حرف مهامه خدمة لمصالحهم المقيتة. مهما يقال عن لا مبالاة الشعب واستقالته، لقد اثبت المواطن أنه على غير ما يتهمونه به، وحتى إذا رفض الخوض في معارك هامشية لا تخصه وطواحين الكلام، فلا يزال يدرك الرهانات الحقيقية، خاصة وانه أصبح اليوم يملك وسائل قادرة على التصدي لتضليلهم وكسر احتكار آلة الاستئصال الإعلامي، وكشْف جرائمهم وخططهم التي تفوق خطط ومرامي الأقدام السود، من خلال ما ينشرونه على صحفهم الكولونيالة الجديدة، التي لم يعد على كل حال، يقرأها إلا بضعة آلاف من المغتربين حضاريا في حالة انقراض، مقابل ما أصبح اليوم في تناول المواطنين من أبناء الشعب من وسائل أوسع وأرحب، تدحض أباطيل أقدام السود الجدد، من خلال شبكات تربط بين مئات الآلاف بل والملايين من الأحرار.
خطورة مشاركة الأقلام المرتزقة في صحافة الأقدام السوداء تتجلى بشكل جلي في شهادة متميزة من داخل قاعات التحرير لهذه الدهاليز المتآمرة على الشعب، مثلما يوضحها لنا أحد الصحفيين الذين كتبوا في جريدة استئصاليه معروفة Le Matin، قبل أن يصعق من هول ما تنشره تلك الصحف من كذب وافتراء، فغادر الصحيفة والوطن، ليستقر لاجئا. وبهذا الخصوص أنقل مترجما، بعض ما جاء في شهادة سيد احمد سميان، المعروف باسم SAS في كتابه “في حمى الرصاصات الطائشة“:
…”كانت فكرة رائعة تعرضت للانحراف، لتغذي طموح فيالق من الأقلام، تحوّلوا إلى “قتلة مأجورين” تخلوا عن وظيفتهم التي تفرض عليهم واجب الإعلام، وانقلبوا إلى مروجي الدعايات، إنها كتلة من الأقلام قايضت الأفكار بالأيديولوجيات، المستقبل باللحظة الراهنة، العاطفة بالتفكير، قيم الإنسانية بمصالح الأقوياء، تعمدوا تسويقها في خضم فوضى مأسوية، باعتبارها قيم المجتمع، أي بعبارة أخرى، إنها صحافة قايضت حريتها بالتبعية، وبشكل من أشكال الأمن…
…ثم جاء زمن الانحطاط المطلق. رأيتُ صحفيين ينشرون بيانات مزيفة – أعدها أصدقاؤهم من ضباط المخابرات – ثم تم إحالتها مباشرة في اليوم التالي بالبنط العريض، إلى الإسلاميين من الجماعة الإسلامية المسلحة، في حين كانوا على دراية تامة أنها بيانات مزيفة. “إنها الحرب ضد الإسلاميين التي يجب علينا خوضها مهما كان الأمر” بمثل هذا التبرير كان رد المسؤولين عن هذه الصحافة، بكل ازدراء، على ما يقومون به من أعمال لا تغتفر.
…في ذلك اليوم، من سنة 1997، علمتُ أن العديد من البيانات الصحفية كانت مزيفة وأن الصحفيين الذين عملوا في القسم “الأمني” كانوا يعرفون ذلك حق المعرفة وأنهم شاركوا بمحض إرادتهم في التلاعب والتوظيف الفج لوسائل الإعلام. وعلمتُ لاحقا، أن البعض منهم، الأكثر حماسة، المعروفين في وسط المهنة، بالذئاب البيضاء، لم يكتفوا فقط بنشر البيانات المزيفة، بل ساهموا أحيانا في ديباجتها.
…لكنني لم أكن بعيدا عن هذه العملية المقيتة من التلاعب بالحقائق، كنتُ غارقا فيها حتى أذني، شاركتُ أنا أيضا، بطريقة أو بأخرى. إن الكتابة في صحيفة تنشر عن علم بيانات كاذبة تحيلها إلى الجماعات الإسلامية المسلحةGIA، يعتبر هو أيضا من ناحية ما، جزءا من هذا الانجراف.
…الآن وقد اطلعت على طريقة عمل وسائل الإعلام من الداخل، أستطيع القول أنها كانت على مدى السنوات ال 13 الماضية في كثير من الأحيان أقرب إلى نشر الكذب المتعمد منها إلى ضحية للرقابة. لقد عانى بعض الصحفيين بالفعل من الرقابة، هذه الآفة الكريهة، لكن الأغلبية في وسائل الإعلام شاركت في صناعة الكذب، وترويجه لسنوات عديدة، بكل حماسة وتفاني. ولا زال الأمر متواصلا. في الخيال الجماعي، يُنظر إلى وسائل الإعلام أيضًا – حتى وإن كان ذلك غير عادل أحيانًا – كملحق للسلطة، تم صناعتها لمنح مظهر مخادع للدولة.
…انتهى زمن أسطورة الصحافة ضحية “البربرية الأصولية”. الملك بدا عارياً، إن الصورة المزيفة لـ “الصحافة الأكثر حرية في العالم العربي”، التي وظفتها وسائل الإعلام الجزائرية ظهرا لتلميع موقعها، سقطت في عبثية عقيمة عفا عنها الزمن، من شدة تكرارها كأنها اسطوانة مشروخة. وقد تم توظيف والحفاظ على هذه الصورة السخيفة للإعلام “المستقل” في الجزائر، بشيء من التملق، من قبل الصحافة الغربية، وخاصة الفرنسية، التي كانت توّزع، ينبرة أبوية، تصل إلى حد الغطرسة، وأحيانا الازدراء، علامات الرضا إلى صحافة الأنديجين هذه.
…لا تعدو الصحافة الجزائرية “الحرة” أن تكون مجرد سخافة إضافية، بينما كانت تسلي المحررين الباريسيين أصحاب الأسماء الرائجة، كانت في الوقت نفسه تشجع الطغاة على اقتراف عملهم القذر (من خلال تلاعبهم بهذا الشعار المخادع لصالحهم) وتبقي الصحافة العربية في حالة من الرداءة تمنع كل فرصة ممكنة لبروز ثقافة ديمقراطية حقيقية. لكن الغرب، عموما، غير متحمس لفكرة الديمقراطية في المغرب العربي ولا في البلدان العربية الأخرى. ما يهمه بالدرجة الأولى هو حرية استمرار أعماله التجارية، وليس الصحافة.
…أمرتْ الصحافة “الديمقراطية” الجزائريين وبقية العالم بالكف عن طرح الأسئلة، أما الذين ألّحوا في طرح أسئلة محرجة، فقد تعرضوا لحملة شنعاء على افتتاحيات تلك الصحف، مع اتهامهم بالخيانة لقضية الجمهورية. هل الجيش متورط في قتل المدنيين؟ من هم مدبرو بعض جرائم القتل السياسي؟ هل يمكننا المطالبة بالحقيقة عن الاغتيالات؟ لم تكن هذه الصحافة ترغب في طرح مثل هذه الأسئلة، وفي كثير من الأحيان بذلت قصارى جهدها لمنع غيرهما من طرح هذه الأسئلة لمعرفة الحقيقة، مستغلة بطريقة تعسفية دنيئة ما حظيت به من سلطة مفرطة.
…يقول المثل الإفريقي، هناك ثلاث حقائق: حقيقتُك، وحقيقتي، والحقيقة، أما بالنسبة للصحافة الجزائرية، لا يوجد سوى حقيقة واحدة فقط ، هي حقيقتها. أو بالأحرى، حقيقة من يرعى هذه الصحافة. في الواقع لم تكن الصحافة مخطئة في التحليل، بل شكلت الذراع “المسلّح” لكذب السلطة.
…لقد ارتكب الجيش الأمريكي أسوأ الفظائع بحق المدنيين وما زال يقترف مثلها اليوم في العراق. وقد ارتكب الجيش الفرنسي ذلك أيضا. أجهزة المخابرات في البلدان التي لا تعتبر الديمقراطية مجرد خيال، استخدمت أحيانا الأساليب الأكثر قذارة، لماذا إذن يُنزه الجيش الجزائري، الانقلابي والاستبدادي، من مثل هذه الممارسات؟ لماذا يتهم بالخيانة كل من يطالب بمعرفة الحقيقة؟
…الأستاذ حسين زهوان ، محامي شجاع ومتخصص في مجال حقوق الإنسان، سجينٌ سياسيٌ سابق في عهد بومدين، اعترف بأنه لم يعد يقرأ هذه الصحافة، يقول في شهادته ” ترسخت قناعتي عندما انتابني شعور مهول بأن هذه الصحافة أضحت جزءًا متلاحما ومنسجما مع منظمي مذابح المدنيين (2). في حين شبه حسين أيت أحمد، أحد أقدم المعارضين للنظام العسكري، هذه الصحافة، بمحطة إذاعة Mille Collines الرواندية التي دعت علنا إلى الإبادة الجماعية.
…اعترفتُ بأخطائي السياسية، وحماقتي الطفولية، وباستفزازاتي عديمة الجدوى أيضاً، عندما حاولت الغوص عميقا في التساؤلات الرئيسية. العديد من زملائي في المهنة لم يغفروا لي ذلك أبدا، وانتقدوني بشدة على طرح مثل هذه الأسئلة والتشكيك في الرواية المعتمدة، لأن هذا الموقف خطير بالنسبة لهم، ويثر الشكوك ويزعزع ثقة المجتمع.
…غاصت هذه الصحافة عميقا في صراع الأجنحة، إلى درجة وجدت نفسها في أوقات اشتدت فيها الرهانات السياسية، تلح على أجنحة السلطة المتناحرة، وتدعوهم إلى رص الصفوف، والظهور بصوت واحد. لم أكن جزءا من هذه الجوقة، ولم أكن أرغب في الصراخ معها، وبذلك كنتُ من وجهة نظرهم، قد تجاوزت بوضوح حدود المعقول، الخطوط الحمراء الشهيرة”.
على مدى فترة طويلة من الزمن ظلت فئة قليلة فقط تعرف مدى تورط الإعلام الإيديولوجي المعروف وجرائمه في عشرية الدم والقتل الجماعي، ومدى تنسيقه الوثيق مع الانقلابيين. إلى جانب شهادة سيد احمد سميان في كتابه “في حمى الرصاصات الطائشة”، ثمة اعتراف أخر لا يقل أهمية عن مدى ارتباط لوبي الإعلام بالانقلابيين من أجل ما أسماه “إنقاذ الجمهورية”، في شخص أحد أقطاب هذه المهنة ومن صفوف المتورطين فيها، الصحفي ومؤسس لوسوار دالجري ، معمر فراح الذي أدلى بتصريح خطير، قال فيه ” أتذكر اليوم الذي تمت فيه استدعاء مدير النشر في صحيفتنا إلى وزارة الإعلام برئاسة الوزير بلقايد آنذاك. حضر مديرنا هذا الاجتماع، حيث تم استقصاء آراء رؤساء الصحافة حول موقفهم من التوقيف الوشيك للعملية الانتخابية. وعند عودته، استدعانا على عجل، (المساهمين في لوسوار دالجيرير) لوضعنا في الصورة عن آخر المستجدات. وأتذكر أنه قال لنا إن توقعات هذه العملية تحدد التكلفة البشرة بحوالي 60 ألف قتيل“. مثل هذا الاعتراف كانت ستفتح له تحقيقات ومحاكمات في بلدان تحترم نفسها، لكن لا شيء من هذا القبيل جرى، إلى يومنا هذا، رغم مرور 6 سنوات على التصريح/الاعتراف (13 أوت 2012) على صفحات لوسوار دالجري. معمر فراح الذي لم يخف يوما عداءه لخيار الشعب وتبني الانقلاب وتبريره بل واعتبر أنه من ” السذاجة تبني الموضوعية في تغطية الانقلاب ضد من اسماهم الظلاميين”، في إشارة إلى فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أول وآخر انتخابات تعددية حقيقية وشفافة.
لقد كان ما يسمى بالإعلام المستقل أكبر كذبة وخدعة تم ترويجها عقودا طويلة، لكن هذه الكذبة لم تدم طويلا حيث انكشف نصيب هذا “الجهاز” في التحريض على قتل الجزائريين، خاصة بعد تصريحات واعترافات البعض، ولم يبق ملتصق ومساند لهذا الجهاز ويقرأ له، سوى أقلية أيديولوجية كارهة لكل ما يربط الشعب الجزائري بقيمه الحضارية، وفيما عدا هذه الفئة المندثرة، لم يعد خافيا على أن هذه “السلطة الرابعة” قد امتطت دبابات لانقلاب منذ اليوم الأول للانقضاض عل خيار الشعب وفتح نيران الجحيم عليه.
سؤال أخير، هل تجرؤ هذه الصحافة اليوم لتخبر الشعب عن مشاركتها في ذلك اللقاء الذي تحدث عنه احدهم، وتم فيه تحديد الفاتورة البشرية الضرورية والمقبولة من الضحايا لبقائهم في الحكم؟ هل تقول لنا من حدد “العدد” المقبول لتستقر جمهوريتهم جاثمة على وديان من الدم؟ هل يقولون لنا من هم الذين شاركوا وأقروا على ذبح الشعب باسم الجمهورية؟ وهل يقولون لنا ما موقفهم اليوم وقد بلغت الحصيلة أكثر من ربع مليون ناهيك عن عشرات الآلاف من المعتقلين والمعذبين والمهجرين والمطاردين وآلاف المختطفين؟ هل حسبوا لها حسبا، وهل تظل هذه الفاتورة المضاعفة أضعافا كثيرة، في تقديرهم ضرورية وتستحق التضحية بها لإنقاذ جمهوريتهم؟ الجواب، تكشفه حملاتهم المتجددة، فضلا عن عدم إعرابهم عن مثقال ذرة من الندم عما فعلوه، بل ما زالوا مستمرون في نفخ كير الحقد وتجديد صراخ إذاعة الألف هضبة، لمزيد من سفك الدماء.
الدكتور رشيد زياني الشريف
Qui dit musulman ,ne dit pas forcement croyant
L’ennemi redoutable de l’islam est la réalité à deux visages,
un visage qu’on montre au gens et
un autre qu’on montre à soi même
..
.