“أنا هو الرئيس القادم للجزائر”، هذا ما يقوله عبد القادر بن قرينة منذ قرر سحب استمارات ترشحه من محمية نادي الصنوبر شهر سبتمبر الماضي، فمن يكون بن قرينة حتى يتحدث بهذه الثقة؟ ومن أي منطلق يمكن فهم تصريحاته؟ الإجابة قد نجدها في مساره الذي لا يعرفه الكثيرين، باستثناء بعض قياديي حمس ومتابعي الشأن السياسي في تسعينيات القرن الماضي، وهو المسار الذي تعمل إدارة حملته على توجيهه بشكل يدخل في منطق التسويق السياسي المتعلق بالتلويث الرمزي أو التضليل الذي تعرفه الجزائر منذ 22 فيفري الماضي.
هذا المسار حاولت إدارة حملته اختصاره في فيديو جرافيك من دقيقة و34 ثانية، أهم ما جاء فيه ما يلي:
“من مواليد الاستقلال سنة 1962 بولاية ورقلة، سياسي ومفكر استراتيجي جزائري ذو فكر إسلامي وسطي معتدل نائب برلماني ووزير سابق، درس على يد العلامة سيد محمد بلكبير، والتحق بالجامعة وتحصل على شهادة في الإلكترونيات، انضم للفكر الإسلامي الوسطي والمعتدل وهو في سن الرابعة عشر سنة، أسس مع الشيخ محفوظ نحناح حركة المجتمع الإسلامي، أدار عملية ربط وإعادة العلاقة بين السعودية وليبيا، أعيد انتخابه في أول انتخابات تشريعية سنة 1997.
هذا المضمون المبتور عن الكثير من الحقائق، يحمل جزء من الأنا المبالغ فيها، التي قد تثير دهشة – وحتى سخرية – من يعرف بن قرينة عن قرب، لكن هذا جزء من منطق “البولتيك” في جزائر الرداءة والفساد الذي جعل الاستوزار وتقلد مختلف المناصب فيها يخضع لشبكات الولاء وقرارات الأجهزة التي يتفنن بن قرينة وغيره من المتحالفين في المعسكر نفسه هذه الأيام، بتسميتها بـ “الدولة العميقة”، كما أن تضخيم الأنا الموجود في هذا التقديم قد يكون على علاقة بالرداءة المتفشية في صالونات السلطة وفي الأجهزة التي يعرفها بن قرينة جيدا، لذلك عندما يقيس نفسه معهم قد يرى نفسه عالما من طينة مالك، ولا يفتى ومالك في المدينة.
جيل المناصب ومساندة انقلاب جانفي 92
عبد القادر بن قرينة، لما تأسست حركة المجتمع الإسلامي سنة 1990 لم يكن في الصف الأول ولا حتى في الثاني من قياديي الإخوان في الجزائر، لأن نحناح كان محاطا آنذاك بالعديد من الأسماء التي كانت معه في السرية في ثمانينيات القرن الماضي من مجموعة المدنية وحسين داي ومحمد بلوزداد والبليدة والمدية، ولما كانت الصراعات قد اشتدت داخل رابطة الدعوة الإسلامية بقيادة الشيخ الراحل أحمد سحنون، بين عباسي مدني ومحفوظ نحناح وعبد الله جاب الله في الاجتماعات “الماراطونية” التي كان يترأسها سحنون، وكانت حركة المجتمع الإسلامي في بداية مخاض جديد، ناجم عن حروب المساجد التي اندلعت بين مختلف أطياف التيار الإسلامي للاستحواذ على مساحات الدعاية لكل شيخ من هؤلاء، وكانت حركة نحناح في نقاشات لا منتهية حول كيفية تسيير الوضع خاصة وأن عباسي مدني كان قد رأى في تأسيس الحركة “طعنة خنجر في ظهر الأمة”، هو الذي كان يقول إن “الجبهة هي بنت الرابطة”.
وعندما حدث انقلاب جانفي 1992، وألغي المسار الديمقراطي، خرجت صراعات الحركة الداخلية إلى العلن، وانسحب بعض القياديين من عهد الجماعة من الحركة في صمت، وقتل البعض الآخر منه في ظروف غامضة، ليغادر الكثير من مناضلي السرية الحركة بسبب تصريحات نحناح وتأييده لمسار نزار، عندما قال ردا على من وصف جانفي 92 بالانقلاب: “الجيش الجزائري ليس جيشا انقلابيا، بل جيش جمهوري خرج ليحمي الديمقراطية من أعدائها”، في هذا الوقت بالذات بدأت تبرز قيادات الصف الثاني والثالث للواجهة، وكان من ضمنهم عبد المجيد مناصرة وعبد الرزاق عاشوري وأحمد الدان وعبد القادر بن قرينة وفريد هباز وعمار غول وحتى سليمان شنين وأحمد لطيفي بعد ذلك وغيرها من الأسماء.
القاسم المشترك لكل هؤلاء أنهم لم يعرفوا عهد الجماعة وكانوا كلهم من المتحمسين لتأييد مطلق للانقلاب ولمسار السلطة الفعلية بقيادة شبكات خالد نزار وتوفيق مدين واسماعيل العماري والعربي بلخير.. وغيرهم من مهندسي العسكر مما حدث منذ جانفي 92.
لما يقول بن قرينة أنه أسس الحركة مع الشيخ، هذه مغالطة تاريخية لا يصدقها عاقل، وتراه ذكر ذلك لاستخدام الشيخ نحناح كقميص عثمان، بعدما نجح في الحصول على تأييد أحد أبنائه ورضا التنظيم الدولي للإخوان لحركته في عهد بلمهدي.
من تأييد زروال إلى مناشدة بوتفليقة للخامسة
ما لم يقله بن قرينة، أنه وغيره ممن ذكروا سابقا، هم جيل التحق بقيادة الحركة لتقلد المناصب والاستوزار، وهو حاله وحال عبد المجيد مناصرة وعمار غول والهاشمي جعبوب… وغيرهم، وكان بداية تقلد المناصب بعضويته في المجلس الانتقالي إلى جانب رفيقه السابق في الحركة عبد المجيد مناصرة، الذي أسس سنة 1994 كبرلمان معين جاء للتشريع لسلطة غير شرعية وخارجة عن الدستور، وشرعت للكثير من القوانين التي صادرت الحريات إلى جانب القوانين الاقتصادية والاجتماعية القاسية نتيجة شروط صندوق النقد الدولي الانتحارية والتي رهنت السيادة الوطنية، ولذلك فإن بن قرينة في مساره التسويقي يقول إنه أعيد انتخابه سنة 1997 في البرلمان، والكل يعلم أن المجلس الانتقالي عين ولم ينتخب، وأن الحركة التي كان ينتمي إليها شاركت في تشريعيات ديسمبر 1991 ولم تحصل على أي مقعد.
وإلى جانب عضويته في هذا المجلس الانتقالي، التي أخفاها في سيرته التسويقية، أخفى كذلك أنه كان وزيرا في عهد بوتفليقة وليس في عهد زروال فقط، كما أخفى أنه كان من بين الكثير من الأسماء التي كثفت تصريحات التأييد لبوتفليقة في عهد حركة مجتمع السلم، وفي عهد رئاسته لحركة البناء التي تأسست في مارس 2013، وعلى خلاف عبد الرزاق مقري رئيس حركة مجتمع السلم، الذي بقي في اتصالات مباشرة مع السعيد بوتفليقة لإقناعه بسيناريو التمديد دون انتخابات لشخص بوتفليقة لتفادي العهدة الخامسة، فإن عبد القادر بن قرينة كان قد دخل في صف المناشدين لاستمرارية بوتفليقة في العهدة الخامسة بالتنسيق مع جمال ولد عباس القابع في سجن الحراش.
شيطنة الانتقال الديمقراطي وفزاعة الدولة العميقة
عندما اندلعت ثورة فيفري الماضي، التحقت الحركة في الأسبوع الثاني بالمظاهرات، في استراتيجية عنوانها “السلفي والشعب خلفي”، وكان سليمان شنين أحد أبطالها الرئيسيين، هو الذي يعرف عندما كان ناطقا باسم نحناح في تسعينيات القرن الماضي الكثير من الصحفيات والصحفيين المرتبطين بالأجهزة، بل وكانت تربطه علاقات مع العقيد الراحل الحاج زوبير والعقيد فوزي الذي خلفه، اللذين كانا يسهران على تسيير الصحافة بما يخدم سلطة زروال وبوتفليقة بعده، وهي العلاقات التي مكنته من إطلاق جريدة “الرائد ” اليومية بتسهيلات كبيرة وبريع الإشهار العمومي سنة 2012 رغم أنه لا علاقة له بعالم الصحافة سوى العلاقات المشتركة بينه وبين بعض الصحفيين والجهات الأمنية التي تسيرهم، كما لديه مركز دراسات يحمل الاسم نفسه، وبتلك الصفة كان يظهر في البلاطوهات التلفزيونية منذ سنوات، بل وزاد ظهوره أكثر وبشكل مكثف منذ اندلاع الثورة السلمية بصفته خبيرا استراتيجيا، أو هكذا قدم في القنوات التلفزيونية الجزائرية والأجنبية، رغم أنه قيادي في حزب بن قرينة، ونائب في البرلمان بالعاصمة عن قائمة تحالف إسلامي قادها حسن عريبي المعروف بعلاقاته الوثيقة بالفريق توفيق مدين المحكوم عليه 15 سنة سجن بتهمة التآمر على الدولة والانقلاب على قيادة الجيش، ونتيجة كل هذا التسيير تعويل السلطة على دور حركة بن قرينة في المرحلة القادمة بفرض سليمان شنين رئيسا للبرلمان وهو من حزب يملك كتلة صغيرة لا معنى لها بلغة الإحصاء، وتحضير حركته للقيام بالدور الذي كانت تقوم به حركة مجتمع السلم وبعدها تاج في عهد بوضياف وعلي كافي وزروال وبوتفليقة.
وبالرغم من هذه العلاقات الواضحة ومنذ التسعينيات بما يسميه خبراء ودكاترة البلاطوهات بالدولة العميقة وشبكات توفيق، إلا أن بن قرينة وصديقه سليمان شنين ومدير حملته أحمد الدان، يحذرون من أي انتقال ديمقراطي، بل ويتهمون المتظاهرين والأطراف السياسية الأخرى بأن المرحلة الانتقالية تهدد الأمن، رغم أن التاريخ يقول إنهم كانوا طرفا فيها، وبأن ما حدث في جانفي 92 كان انقلابا على الإرادة الشعبية، وبان ما سيحدث في ديسمبر إن تم سيكون انقلابا آخر على الإرادة الشعبية بواسطة اقتراع صوري محسوم النتائج والمسار، ولما يقول عبد القادر بن قرينة إنه سيكون قيس سعيد الجزائر، فهو يمارس تضليلا فضيعا يعبر عن انعدام الحد الأدنى من الأخلاقيات السياسية وحتى الخجل والحياء، لأن قيس سعيد هو نقيض الدولة العميقة التي أسقطها الشباب التونسي، بالوقوف ضد مخطط فرض وزير الدفاع السابق رئيسا لتونس أو السماح لرمز من رموز المال الفاسد بدخول قصر قرطاج.
كما أن الكل يعرف أنه ما كان لقصة قيس سعيد أن تكون في تونس لولا مسار انتقال ديمقراطي عرفه البلد ببناء توافقات عميقة بين كل التيارات وداخل كل القوى الاجتماعية، أفضت لانتخاب مجلس تأسيسي صاغ دستورا توافقيا غير طبيعة النظام من رئاسي إلى برلماني، وانتخاب هيئة العدالة الانتقالية التي صاغت توصيات لإصلاح مؤسسات الدولة، وهي التي يعد اليوم قيس سعيد بتطبيقها بعد استقباله الرسمي لرئيسة الهيئة المناضلة سهام بن سدرين.
مسار عبد القادر بن قرينة الذي بدأ بقبول التعيين في مجلس انتقالي غير دستوري وباستوزار في عهد زروال وبوتفليقة، ومناشدة بوتفليقة للخامسة إلى ركوب موجة الثورة بعدما غرق وأمثاله في ثروة فاحشة بسبب نظام ريعي يريد هو وأمثاله إطالة عمره بعناوين قد تقترب من قوله تعالى “اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
كيف يمكن لعبد القادر بن قرينة الذي كان أداة في مرحلة انتقالية قتلت أكثر من 200 ألف جزائري وآلاف المساجين والمختطفين والمعذبين وملايين المهجرين، وتقف ضد أي انتقال ديمقراطي للقيام بذلك؟ يجب أن تكون بن قرينة لتفعل ذلك، ولتقول بأن استمرارية النظام هو الجزائر الجديدة!
الجزائر في 4 نوفمبر 2019
تحرير رضوان بوجمعة