انتخبوا الرئيس وانتظروا المعجزة ! بقلم نجيب بلحيمر

مسيرات عفوية في الشوارع تنقلها نشرات أخبار التلفزيون، ترفع شعارات تندد بالخونة الذين وقعوا العقد الوطني في روما، كل هذا في زمن الطوارئ وحظر التجوال.


نعم.. وحده النظام الجزائري وأبواق دعايته الإعلامية يجرؤون على الحديث عن “مسيرات عفوية” في بلد يعيش حالة حرب، ويحكمه قانون الطوارئ، ويحظر فيه التجوال، يخبرك التلفزيون ليلا بأن الجزائريين الذين يتعرضون للتفتيش مرات عديدة عندما يقطعون المسافة بين بيوتهم ومقار عملهم بإمكانهم تنظيم مسيرات عفوية لأن حب اليامين زروال يجمعهم ويهديهم سواء السبيل. ووحدهم حكام الجزائر يجرؤون على تخوين رموز تاريخية مثل عبد الحميد مهري وحسين آيت أحمد لمجرد انهم اقترحوا حلا آخر للأزمة غير النار والدم.


كان المتظاهرون يرفعون شعارات متطابقة في جميع المدن التي خرجوا فيها بعفوية، ينددون بالخونة الذين تآمروا على الوطن في الخارج ودعوا إلى حل سياسي حقيقي يوقف نزيف الدم، ويدعون اليامين زروال إلى الترشح لمنصب الرئاسة، كانت كلمة السر “انتخاب رئيس هو الحل”، لا يهم من يكون الرئيس ولا تهم الطريقة التي سينتخب بها، المهم أن يكون هناك رئيس منتخب، ولأن الهدف واضح ويحقق الإجماع فإن السؤال عن حقيقة عفوية المسيرات يصبح من المنكرات التي يجب الإعراض عنها.


حينها نظم اليامين زروال المعين من قبل ندوة الوفاق الوطني رئيسا للدولة، مشاورات دعا إليها من يحملون صفة “شخصية وطنية” إضافة إلى رؤساء الأحزاب، وحدث أن سجل أحد الذين استقبلهم زروال ملاحظة، قال محمد الصالح يحياوي لزروال، يا سيادة الرئيس إن الحديث عن مسيرات عفوية في هذه الظروف فيه إساءة إلى الدولة، ولقد أدهش رد الفعل الغاضب من زروال الذي سأله مستنكرا “هل تشكك في دعم الناس لي؟” لم يكن المقام يسمح بأي إجابة، كان السؤال الغاضب هو الرد.


يكون يحياوي، وهو العسكري العارف بطبيعة النظام، قد فهم أن السلطة كذبت وهي أول من يصدق كذبتها، وهي مستعدة لسحق كل من يحاول إعادتها إلى رشدها.. كان واضحا أن زروال صدق بأنه رجل المرحلة، وأن انتخابه هو الحل، وقد تم انتخابه فعلا في نوفمبر 1995 واعتبرت السلطة انها تجاوزت مأزقها الناجم عن انقلاب جانفي 1992، وبدأت مظاهر الاحتفال مع نهاية الاقتراع في آخر اليوم، كان كل من يحمل السلاح (من جيش ودرك وشرطة ومدنيين تم تسليحهم) يطلق الرصاص احتفالا بالنصر، ولم يكن هناك من يتوقع نتيجة أخرى غير إعلان زروال رئيسا للجمهورية، وقد حدث ذلك بالفعل.


هنا أفتح قوسا؛ أذكر أنني كنت في تلك الأيام أقرأ كتابا عن سيرة رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن وفيه سرد لليلة فوز بيغن بالانتخابات التي جرت في ماي من سنة 1977 وحملته وحزبه الليكود إلى السلطة لأول مرة منذ قيام الكيان، لقد بدأت النتائج بالظهور لكن ما شد انتباه بيغن هو وجود اثنين من رجال الشرطة أمام مسكنه ومنه فهم بأن التعامل معه كرئيس للوزراء قد بدأ، وأن فوزه بات رسميا، وعنوة فرضت المقارنة نفسها، مرشح من المعارضة يفوز بالانتخابات وتنتقل الشرطة إلى حراسته، في مقابل رئيس معروف سلفا تجند كل وسائل الدولة من أجل جعله رئيسا، وتحتفل أسلاك الأمن بانتخابه، فصل تام بين السلطة والدولة من جهة، وخلط كامل بينهما في الجهة المقابلة. لست معجبا بإسرائيل ولا بديمقراطيتها، لكنني أسترجع ألما بكل أمانة بعد 24 سنة.


أغلق القوس وأعود لتفقد أحوال البلاد بعد أن صار لها رئيس منتخب.. لم يتغير الوضع كثيرا، مزيد من الدماء، والإفلاس الاقتصادي وتسريح العمال، عرف الجزائريون بعدها أويحيى وأياديه البيضاء التي زجت بالإطارات في السجون، وحلت المؤسسات، وسرحت العمال، وميلاد الأرندي والتزوير الفاضح للانتخابات تحت التهديد بالسلاح، والمجازر الجماعية. كانت النتيجة أوضح من أن تحتاج إلى شرح، لم يأت الرئيس المنتخب بالحل، بل غرق وأغرق البلاد معه ومات الآلاف، وفقد آلاف آخرون دون أن يعرف أحد السبب الذي جعلنا نصر على المضي قدما على طريق الجحيم، الحقيقة الوحيدة التي يعرفها الجميع أن السلطة التي لا تسمع إلا نفسها قررت هذا، وأنها قدرت بعد فترة من انتخاب الرئيس أن الحل يتطلب الإطاحة به وبجماعته، لم تكن صراعات العصب آنذاك تخرج إلى العلن، يكفي تجنيد بعض الجرائد لتسريب بعض الفضائح ليفهم المعني أن ساعة الرحيل قد دقت، حينها لم يكن المسؤول يدخل إلى السجن، كان يختفي وينساه الناس، ولو قدر لتلك القصة أن تحدث اليوم لتحول زروال إلى رمز للعصابة، ولأصبح بتشين مكان توفيق، ومحمد آدمي في وضع الطيب لوح، كان أولئك رجال زروال الذين رحلوا معه، ولأن الأمر كان معدا سلفا فقد تحولت استقالة رئيس لم يكمل عهدته إلى إعلان بتنظيم انتخابات رئاسية أعدت كل تفاصيلها من أجل شخص واحد اسمه عبد العزيز بوتفليقة بقي في منصبه عشرين سنة قضى ستة منها مقعدا على كرسي متحرك.


أي شيطان أيقظ هذه التفاصيل اليوم؟ إنها المسيرات “العفوية” التي تنظم في ولايات مختلفة لمساندة خيار الانتخابات، مسيرات تخبرنا بأن لا شيء تغير منذ 1995 ما زالت السلطة مهووسة بمقولة الحل في انتخاب رئيس، ولا يهمها إذا تبين بعد حين أن انتخاب الرئيس لم يأت بالحل فهي مستعدة لتنظيم انتخابات أخرى تأتي بشخص آخر إلى واجهة الحكم، لا يهم أيضا إن كان هناك من يطرح خيارات أخرى ويقترح طريقا مغايرا، فالسلطة لا تسمع إلا نفسها ولا ترى إلا الطريق الذي رسمته هي، حتى المظاهرات الحاشدة لا تهم، فما لا يراه التلفزيون ولا يبث صوره يبقى غير حقيقي وبلا قيمة.


كدت أن أنسى أن العهدة الخامسة كانت ستمرر بتجمع في القاعة البيضاوية، حينها أعجبت السلطة بكذبتها واطمأنت إليها قبل أن تستيقظ على تلك الصور المفزعة لمظاهرات حاشدة صدحت بحقيقة أخرى غير ما زينته السلطة لنفسها، وما زالت المظاهرات إلى اليوم في الشوارع تذكر بأن الحل ليس في انتخاب الرئيس، وأن التاريخ القريب والبعيد كله ضد السلطة ويكذب وعودها.