مرت مائة يوم على تنصيب عبد المجيد تبون في قصر المرادية بعدما فرضه العسكر في اقتراع 12 ديسمبر 2019، الذي سيذكره التاريخ كاقتراع تم بشكل لا يتصوره حتى كبار كتاب السيناريوهات السينمائية الخيالية في أمريكا والهند وغيرها.. بمشاهد لمترشحين يهربون من الناخبين ودون مشاركة منطقة بأكملها من الوطن، بعدما قاطعها المترشحون في الحملة وكأنها ليست تابعة للجزائر!
كيف يمكن تقييم 100 يوم من أيام تبون في القصر؟ وهي الأيام التي تعتبر في كل دول العالم حدثا مهما، لأنه موعد انطلاق أي رئيس في تطبيق وعوده، فكيف يمكن تقييم وعود تبون؟
أطلق تبون 54 وعدا، وهي الوعود التي كررها في خطاب التنصيب يوم 19 ديسمبر، وهو الخطاب الذي كان فبه التسويف هو السيد، فقد ذكر كلمة “سوف” أكثر من 13مرة، وبقي التسويف سيد الموقف في كل خرجاته الإعلامية التي نظمت داخل القصر.
وبعيدا عن كل وعوده، يمكن أن نتوقف عند ثلاثة إعلانات كبرى وردت في كل خرجاته الإعلامية، وهي “حرية الصحافة شيء مقدس”، و”سأعمل على إيجاد طبقة سياسية جديدة”، و”سأسترجع الأموال المنهوبة وأعرف أين هي”.
اعتقال “درارني” ومظاهر تقديس الحرية
ما يحدث في المنظومة الإعلامية منذ دخول تبون القصر الرئاسي، تبين أن لا شيء تغير، بل ما يحدث هو دون أدنى مبالغة استمرارية لعهد بوتفليقة، باستثناء تغيير في هوية بعض المستفيدين من فتح حنفيات الإشهار، من قبل الأجهزة نفسها التي كانت تقرر الأمر في عهد بوتفليقة، لكن الممارسة الإعلامية بقيت نفسها، غارقة في الفساد والدعاية، وحتى وإن زالت كلمة الفخامة بأمر رئاسي فقد بقيت “العواجل” التي تمجد الرئيس وتقرأ فيها وتعاد قراءة رسائل الرئيس مع دعوة فيالق من “المحللين” و”الدكاترة” الذين تخصصوا في تضخيم كل قرارات السلطة، ولم تتوقف هذه الممارسات التضليلية حتى والجزائر تواجه وباءً عالميا يهدد الجنس البشري في كل بقاع المعمورة.
ما حدث، أمس، من اعتقال للصحفي خالد درارني مثلا، استعدادا لإيداعه السجن يوم الغد، هو سقوط نهائي لخطاب تبون لوعد “تقديس حرية الصحافة”، وضرب لمزاعم بناء دولة القانون، رغم أن دستور بوتفليقة الساري المفعول ألغى كل عقوبة سالبة للحريات بالنسبة للعمل الصحفي، مما يضع تبون في وضع شخص غير قادر حتى على تطبيق الدستور الساري المفعول ما بالك بتستحداث دستور يؤسس لعهد الحريات وتقديس حرية الصحافة، كما وعد قبل وبعد فرضه في القصر.
“طابو” والتسيير الأمني والإداري للساحة السياسية
الأمر الثاني الذي وعد به تبون هو “إيجاد طبقة سياسية جديدة”، وبالرغم من أن هذا الوعد يؤكد على أن نزيل قصر المرادية يفكر بمنطق الذين فرضوه في السلطة، وهو منطق ينطلق من أن الممارسة السياسية هي ملف إداري وأمني، لذلك هو يعتقد أن وجود وزوال أية طبقة سياسية هي قرار يرجع له ولمن جاؤوا به إلى القصر، ومن هذا المنطلق تحاول كل أجهزة السلطة على منع بروز أية دينامكية سياسية لا يتحكمون فيها، كما أن هذا المنطق هو الذي يجعل هذه الأجهزة تستخدم حتى جهاز القضاء لمنع كل دينامكية سياسية جديدة، وهو ما يعني أن الطبقة السياسية التي يتحدث عنها تبون هي العمل على الدفع بوجوه جديدة تعيد إنتاج الممارسات القديمة.
وما يزيد من سقوط خطاب تبون ما حدث لكريم طابو رئيس حزب غير معتمد، وهو الذي تعرض للتعنيف ولم يكن له الحق في محاكمة عادلة على تهم تدخل في قضايا الرأي، مع سكوت شبه كامل لما يسمى بالطبقة السياسية وكأن جهة ما تسهر على تسيير الساحة السياسية أوحت بذلك، وكل هذا يُبين أن ما تم خلال 100 يوم في عهد تبون هي استمرارية لعهد بوتفليقة وربما بشكل أبشع، لأن طابو كان برلمانيا في عهد بوتفليقة وكان ينتقد بوتفليقة دون أن يتعرض للاعتقال ولا للتعنيف، وهو اليوم سجين في عهد تبون دون حقه في محاكمة عادلة كما ينص على ذلك حتى دستور بوتفليقة.
الأموال المنهوبة.. من السلطة الناهبة إلى السلطة المتسولة
الوعد الثالث الذي كان مركز الخطاب الانتخابي لتبون هو “استعادة الأموال المنهوبة”، وهو خطاب كان يكرره في كل مرة، ومنذ فرضه في المرادية أصبح يتناساه ويتفادى الحديث عنه، كما أن أجهزة الدعاية الإعلامية تعمل على عدم تذكير الناس على ذلك، وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه الرأي العام جديدا في هذا الملف، خاصة وأن تبون كان يقول إنه يعرف أين توجد هذه الأموال المنهوبة، خرجت وزارة عمار بلحيمر للإعلان عن حسابات جارية تم فتحها تطلب من الجزائريين التضامن مع السلطة بغية مواجهة وباء كورونا، وهو ما وضع تبون في وضع السلطة المتسولة بعد سلطة بوتفليقة الناهبة.
هذه الوعود الثلاثة لوحدها، كافية للقول بأننا أمام استمرارية عهد بوتفليقة دون بوتفليقة، وهو أمر لا غرابة فيه لأن النظام لم يتغير، فمنظومة التعيين التي فرضت كل رؤساء الجزائر من أحمد بن بلة إلى عبد المجيد تبون لازالت مستمرة ولازالت تعتقد أنه يحق لها ما لا يحق لغيرها، ولديها يقين بأنها هي الجزائر وهي الوطن وهي الوطنية، وهي تتصرف خارج القانون وفوق القانون لأنها باختصار لا تعترف للجزائريين والجزائريات بحقهم في اختيار من يحكمهم وفي مساءلة من يسير وفي بناء دولة المؤسسات عوض سلطة الأجهزة والأشخاص، وهو ما ينذر بأن الأسابيع والأشهر القادمة ستؤكد أن اقتراع 12 ديسمبر المنصرم كان مسارا انتحاريا، وأن هذا المسار سيزيد في تعقيد الوضع داخل منظومة الحكم وقد يُعرض الجزائر ككيان قانوني وجغرافي لمخاطر وجودية حقيقية، لأن الجزائر بين “أيدي” غير آمنة لسلطة عاجزة حتى عن حل المشاكل الداخلية لمنظومة الحكم، وأن هذه المنظومة أصبحت تشكل خطرا حتى على رجال السلطة الموجودين في كل دواليب السلطة.
رضوان بوجمعة
الجزائر في 29 مارس 2020