- دولة مدنية، ماشي…
- هل الدولة المدنية في مصلحتك الشخصية؟
- هل الدولة المدنية ضدّ مصالح الجيش الوطني الشعبي؟
- هل تهدّد الدولة المدنية بتماسك الجيش الوطني الشعبي؟
- الدولة المدنية والأمن القومي
- الدولة المدنية والحكم المدني
- الدولة المدنية والأمن الداخلي
- الدولة المدنية والاقتصاد
- الدولة المدنية والأمن الخارجي
- الجيش الشعبي الوطني والتاريخ
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
لقد شاركتُ في اثنين وخمسين مظاهرة، وأشعر أنني منذ سنة كاملة أطرق بابَ من به صمم. لذلك فكّرت في كتابة هذه الرسالة لأعبّر عن مطالب شعبنا، فبصِفتك عسكريًا لستَ منفصِلًا عن الصمم الذي أصاب الذين يقرّرون مصير هذا البلد.
هذا الصمم ليس في الآذان بل مقرّه الأنفس والعقول. صحيحٌ أنّ السلطة لا تسمع إلا التصفيق، ومن المعروف أنّ “الجبابرة يحبّون التظاهر بالصمم لأنّ ذلك يُجبر المتوسّلين على الركوع أمام عروشهم”. إني أشعر أحيانًا أنّ صفعهم بشعاراتٍ قاسية هو الطريقة الوحيدة لاختراق صممهم، وأحيانًا أخرى، كما هو الحال في هذه اللحظة، أُحِسّ أنّ ذلك غير مجدٍ لأنهم يشعرون بالصفعة دون سماع دَويّها.
يُقال أنّ الكلمات اللبقة الصادرة بنبرة ليّنة تُساعد على الإصغاء، لذلك اسمح لي أخي في الجيش الوطني الشعبي أنْ أشرحَ لك ما يريده الحراك بالضبط، وما تأثير ذلك عليك. ولعلّ من خِلالك ومن خِلال ضبّاطٍ مثلك، قد يتمّ الإصغاء لمطالب الحراك في نهاية المطاف.
ليس من السهل كتابة هذه الرسالة لأنني لا أعرف ما هو موقفك من ضرورة التغيير الجذري في البلد. أعلمُ أنّ بعض الضباط يعتقدون أنّ التغيير الحقيقي والحريات وإرساء الديمقراطية يشكلون تهديدًا، لذلك فهم يرَون أنّ استدامة النظام الحالي بالتوازي مع القمع الانتقائي هو الحلّ للأزمة. والزمرة التي تتبنّى هذا الموقف لديها اليد العليا في الوقت الراهن. وفي الجانب الآخر، هناك ضبّاط يتعاطفون مع الحراك، ويعتقدون أن الدمَقْرَطَة هي الطريقة الوحيدة لإعادة شرعية النظام السياسي، كما يعتبرون أنّ قمع الحراك سيعزل الجيش عن المجتمع ويُبطل فكرة تجسيده للوحدة والمصلحة الوطنية. وما بين هذين الطرفين هناك طيف من الضباط من نوع “حشيشة طالبة معيشة” يحاولون تخمين اتجاه ريح التاريخ ليتماشون معها. إنّ هذا التصنيف ينطبق على الضباط النشطين و”المتقاعدين”، ولن تفترض هذه الرسالة أيّ شيء عن موقعك ضمن هذه المواقف.
تتمحور هذه الرسالة حول تسعة حجج، تتعلّق الأربعة الأولى منها بقضايا داخلية للجيش، أما الأربعة التالية فتناقش نقاط خارجة عن الجيش، في حين أنّ التاسعة هي حجة تاريخية.
لكن اسمح لي أن أعود بإيجاز للمظاهرات الأسبوعية قبل المُضيّ قُدمًا في النقاش.
0- دولة مدنية، ماشي…
كل أسبوع يتظاهر الجزائريون والجزائريات ويغنّون “دولة مدنية، ماشي عسكرية”، “جمهورية ماشي كازيرنة”، “ما ما ما العسكر ما يحكمناش”، “نكمّلوها بالسلمية وننحّوا العسكر من المرادية”. هناك أيضًا هتاف “الجنرالات للمزبلة، والجزائر تدّي الاستقلال”، الذي قد يُحرجك، وسأعقّب عليه لاحقًا، لكن دعني أولًا أركّز على “دولة مدنية”، لأنه يدمج جميع الشعارات الأخرى.
إنّ السيد تبّون، مثل سابقيه، ليس رئيسَنا، فهو معيَّنُ قيادة الجيش العليا وخادمُها. لقد تمّ اصطناعه رئيسًا للدولة بحوارٍ مغشوش ولجنة انتخابية مزيفة وبتزويرٍ واسعٍ للانتخابات، وكلّ ذلك بتكليف من قيادة الأركان. فتبّون مدينٌ بمنصبه لقيادة الجيش وليس للشعب. أمّا الدولة المدنية فتعني أنّ السياسي المدني المنتخَب بحرّية ونزاهة هو من يتحكّم في الجيش وباقي أجهزة الدولة وليس العكس.
قد لا توافق على ذلك، لكن بعض زملائك يعتقدون أنّ الجيش هو الذي يمتلك السيادة وكأنّ له حقًا إلهيًا في ذلك. ومنذ الاستقلال، كان جميع الرؤساء إما ضباطًا عسكريين أو مدنيين خاضعين للعسكر، تمّ تتويجهم بالقوة أو من خلال التزوير. لم تعرف البلاد مطلقًا انتخابات تشريعية أو محلية حرة ونزيهة باستثناء الانتخابات ما بين 89 و91.
يدعو الحراك إلى الاستقلال لأنّ حقّ التصويت غير مكفول للجميع في هذا البلد، تمامًا مثل ما كان عليه حال النساء في أوروبا أو السود في أمريكا في القرن التاسع عشر. وحتى أنتم في الثكنات لا تتمتّعون بحقّ الاقتراع لأنكم تتلقّون الأوامر للتصويت على مرشح القيادة العسكرية، ونظرًا للتلاعب بالنتائج على كل حال. لذلك، في الواقع، كِلانا يعيش في حكم القرون الوسطى حيث يقتصر حقّ التصويت على حوالي عشرين ضابطًا فقط. وكما قال فرحات عباس، “في الجزائر، لم تَمُت القرون الوسطى بعد”.
يعتبر العالم المتحضّر حقّ الاقتراع العام (suffrage universel) بمثابة الضمان الوحيد ضد الاستبداد. وتعتقد الدول المتحضرة أنّ شعوبها هي مصدر السيادة، وتمنح كل مواطن بالغ حقّ التصويت، لأنّ الناس خُلقوا متساوين، ولأنّ الجميع يتأثّر بنفس القدر بقوانين وسياسات الدولة، ولأنّ استبعاد بعض الأشخاص من التصويت يعني رفض تمثيلهم وتجاهل مصالحهم، ولأنّ التصويت يعزّز مكانة الناس في المجتمع ويُجبر القادة السياسيين على الاستماع إليهم لتأمين الأصوات، ولأنّ ذلك يُثقِّف المواطنين سياسيًا ويحافظ على اهتمامهم بكيفية إدارة مُدُنِهم وبلدهم.
إنّ دستورنا يمنح السيادة للشعب كما يعطي حق التصويت لكل بالغ، لكن القيادة العليا للجيش تدوس عليه. لهذا السبب يطالب الحراك بدولة مدنية، مما يعني أنّ الرئيس المدني المنتخَب هو القائد الفعلي للقوات المسلّحة.
1- هل الدولة المدنية في مصلحتك الشخصية؟
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
عندما يصرخ الحراك بدولة مدنية كل يوم ثلاثاء ويوم جمعة، فإنّ هذا يعني أنّ الحكومة المنبثقة عن انتخابات حرّة ونزيهة هي التي تعيّن وزير الدفاع الذي يجب أن يكون مدنيًا. وهذا يستلزم أيضا أنّ وزارة الدفاع يُديرها احترافيون، معظمهم مدنيون، يقرّرون مَن مِن الجنود والضباط يرتقي، ومن يُحال إلى التقاعد، ومن يُجرّد، على عكس ما هو الحال الآن.
بالطبع، هذا ليس ضدّك بل في مصلحتك الذاتية. لماذا؟ في ظل حكومة ديمقراطية مدنية حقيقية سيكون مسارك للترقّي الوظيفي آمنًا ونمطيًا وشفافًا. نعلم أنّ مسارك المهني في الجيش الوطني الشعبي غير آمن وعشوائي وغامض. ما الدليل؟ قادة الجيش في السبعينات والثمانينات من العمر، بينما تمّت إحالة عقداء وجنرالات إلى التقاعد في الأربعينات والخمسينات من العمر. كما أنّ الأخبار والقصص لا حصر لها عن المحسوبية والفساد وإساءة استخدام السلطة والزبونية وعمليات التطهير (purges) والطرد التعسفي والتقاعد القسري، وتحويل الضباط إلى مناطق نائية أو إبعادهم عن الوظائف الحساسة بدوافع جهوية أو سياسية أو بزنسية أو حتى انتقامية شخصية. بدلًا من ذلك، فإنّ الإدارة المهنية والعادلة والشفافة للمِهن من قِبل خبراء مدنيين في إدارة الموارد البشرية ستجلب الأمان والانتظام واليقين إلى مسارك المهني، كما ستغرس وتستثمر في محيطك الوظيفي العقلانية وسيادة القانون وروح الخدمة وقِيَم الجدارة والأداء والنزاهة والقسط والثقة والاحترام. ستقوم وزارة الدفاع بقيادة مدنية بتحويل الجيش من جهاز مسيّس بسلوكيات إقطاعية وباتريمونالية (patrimoniale) إلى قوّة قتالية حديثة ومهنية ومؤسسية بالكامل. ليس هذا بخطاب الطوباوية، فتوجد المئات من الدراسات حول تمدين وزارات الدفاع، على سبيل المثال في الأرجنتين والبرازيل وكوريا الجنوبية، وهي أمثلة عن التحوّلات من الديكتاتوريات العسكرية، أو في دول البلطيق وجمهورية التشيك وبلغاريا مثلا، التي توضّح التحوّلات من الأنظمة الشيوعية. وبالطبع فإنّ تمدين هذه الوزارات في الديمقراطيات الغربية قد تمّ توثيقه وتقنينه ومعايرته على نطاق واسع منذ عقود.
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
مرّت الجزائر في تسعينيات القرن الماضي بحرب على الشعب أعلنتها “العصابة” التي صادرت خيار الشعب في يناير 1992، راح ضحيتها ما يقارب ربع مليون مواطن، فعرف الجزائريون ويلات الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل خارج إطار القضاء والمجازر والاختفاء القسري والتهجير وتدمير نسيج المجتمع وتحطيم اقتصاد البلاد.
لعلّك أنتَ، أو أحدٌ من أصدقائك أو معارفك في الجيش الوطني الشعبي، من الذين شاركوا، عن قناعةٍ لخدمة الوطن، أو مجبَرين من طرف القيادة العسكرية عبر التسلسل الهرمي، في الجرائم التي تعرّض لها الجزائريون. وقد تكونَ قد أوذيتَ من الحرب القذرة التي وقعت فيها الجزائر، أو أحدٌ من أصدقائك أو معارفك من جنود وضباط الجيش الوطني الشعبي قد عانى من ويلاتها أو راح ضحيتها.
فلتعلَم أنّ من واجبنا جميعًا أن نعالج الآثار النفسية والاجتماعية المترتّبة عن الأزمة الحادّة والعنف الفظيع الذي عرفته الجزائر. إن تعافي الجزائر مرهونٌ بقدرتنا على التعامل معًا مع إرث الماضي. ولا يتمّ ذلك إلّا عبر عملية مصالحة وطنية حقيقية لا علاقة لها بـ”ميثاق السلم والمصالحة الوطنية” الذي فرضته “العصابة” على الشعب في 2005 والذي يكرّس تزوير الحقائق ويجرّم الضحية ويحرمها من معرفة الحقيقة. إنّ عملية المصالحة الوطنية الحقيقية يجب أن تنبثق عن حوار وطني جامع حول هذه المسألة يشمل كلّ المعنيين بالأمر وأصحاب المصلحة وعلى رأسهم الضحايا وأهاليهم والقوات المسلّحة بكلّ فصائلها، وسلك القضاء وممثلين عن المجتمع المدني، خاصة منظمات حقوق الإنسان، على أن يستعين هذا الحوار بخبراء في عمليات المصالحة وأخصائيين في علم النفس وعلم الاجتماع.
إنّ المصالحة الوطنية الحقيقية ترتكز على أربعة دعائم وهي الحقيقة والذاكرة والعدالة والعفو. فمن حقّ الضحايا وأهاليهم وعموم الشعب الجزائري معرفة ما جرى بالضبط في العشرية الحمراء ومَن المتسبّب في ما جرى مِن القوات المسلّحة أو من القوى المتمرّدة، وذلك عبر لجان خبيرة ومستقلة، ولا بدّ من اعتذارٍ رسميِ وعلني. ومن واجب الدولة والمجتمع الحفاظ على الذاكرة الجماعية وتوثيق الأحداث المأساوية التي وقعت حتى نضمن عدم تكرارها في المستقبل.
إنّ المصالحة الوطنية الحقيقية تقتضي احترام حقّ الضحايا في العدالة. لكنها ليست عدالة انتقامية إنما عدالة ترميمية الغرض منها هو إعادة بناء الضحية والجلاد والمجتمع ككلّ. إنها عدالة يسودها مبدأ العفو الذي يقرّه ويدعو إليه ديننا الحنيف. إنّ العفو سياسة وطنية تُنتهج في ما يخصّ الحق العام، وهو فعل إرادي يقوم به الضحايا وذووهم، في ما يتعلّق بالحق الخاص، بعد معرفة الحقيقة وإعادة الاعتبار لهم وتعويضهم عن الضرر الذي لحقهم. ومن واجب العدالة محاسبة المسؤولين الكبار الذين كانوا من وراء مغامرة الانقلاب والقمع الذي تلاه، ولو رمزيًا، ومعظمهم قد هلك أو يقبع في السجن، حتى يكونوا عبرة لمن اعتبر.
إنّ انخراطك في عملية مصالحة وطنية حقيقية أمرٌ حيوي وشرط من شروط نجاحها، فلا تبخل على وطنك وشعبك بدعم هذا المسعى الذي يُخلّص البلاد من إرث الماضي الثقيل ويعيد بناء اللحمة الوطنية ويحرّر طاقات الشعب لينعم بالسلم والرفاهية.
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
إنّ ظاهرة الفساد مرضٌ استشرى في الجسد الجزائري وتفاقم في العقدين الأخيرين وانتشر على مختلف المستويات بشكلٍ ممنهج تحت حكم “العصابة” فلم تقدر ألف مليار دولار من عائدات المحروقات على إنعاش الاقتصاد الوطني المرهق، بل المنهار. ولم ينج أيّ جهاز من أجهزة الدولة من هذا البلاء بما في ذلك الجيش الوطني الشعبي، حيث انخرط العديد من الضباط السامين في ممارسات لا علاقة لها بوظيفتهم وصلاحياتهم الدستورية، وباشروا أعمالًا تجارية ومالية غير مؤطّرة بالقانون في شتى المجالات من مواد غذائية وأدوية ومواد بناء، ودخلوا في صفقات شراء أسلحة مشبوهة. كلّ ذلك كلّف الخزينة العامة مليارات الدولارات نُهبت على شكل عمولات أودعت في المصارف الأجنبية الأوروبية والعربية.
إنّ ظاهرة الفساد تجذّرت في وسط مؤسسات الدولة إلى درجةٍ أصبحت تُعتبر ممارسة عادية من طرف الكثير من الموظفين، بل صارت ثقافة متداولة و”رياضة وطنية” يتنافس فيها المتنافسون ويتفاخرون بإنجازاتهم في المجالس الخاصة.
إننا نصبو جميعًا إلى إخراج الجزائر من نفق النظام التسلّطي المتحكّم في السلطة السياسية، المهيمن على الثروة، إلى دولة القانون والحكم الراشد. وإنّ عبور النفق لن ينجح إلّا إذا تمكّننا معًا من القضاء على ظاهرة الفساد. ولا يمكن القضاء على الظاهرة بدون تظافر كلّ الجهود وإطلاق حوار وطني جامع يضمّ مؤسسات الدولة والقوى السياسية وممثلين عن المجتمع المدني، خاصة المنظمات المتخصّصة في تعزيز الشفافية، من أجل صياغة سياسة وطنية متكاملة تحظى بدعمٍ واسع لمكافحة الفساد.
إنّ أيّ سياسة وطنية لمكافحة الفساد من الضروري أن تقوم بمعالجة قضايا الفساد التي تورّط فيها في العقدين الأخيرين كثيرٌ من الجزائريين. وعلى هذه المعالجة أن تبتعد عن روح الانتقام وأن تركزّ على المصالح العليا للجزائر. وهناك العديد من الخيارات التي يمكن أن تُدرس مثل أن يخيّر موظّف الدولة (مدنيًا كان أم عسكريًا) المتورّط في قضايا فساد بين التفرّغ للوظيف العمومي أو لتسيير المال الخاصّ، كما يمكن أن تُحدّد نسبة الثروة التي يفرض على صاحبها ردّها إلى الخزينة العامة مقابل العفو على أن تستثمر البقية في مشاريع وطنية. ومن واجب العدالة محاسبة كبار رموز الفساد، ولو رمزيًا، ومعظمهم قد هلك أو يقبع في السجن، حتى يكونوا عبرة لمن اعتبر.
إنّ لك دورًا مهمًا لإنقاذ الجزائر من مرض الفساد الذي ينخر جسد الأمّة. فكُنْ مع شعبِك يدًا في اليد للتعاون على علاج هذه الآفة وبناء جزائر الغد التي تسود فيها الشفافية وينعم فيها الجميع بالسلم والكرامة والرفاهية.
2- هل الدولة المدنية ضدّ مصالح الجيش الوطني الشعبي؟
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
إنّ الدولة المدنية تعني أنّ الحكومة المدنية المنتخَبة هي التي تقرّر ميزانية وزارة الدفاع وليس الجنرالات، كما تعني أنّ البرلمان له الحق في مساءلة وزير الدفاع عن كيفية صرف الميزانية، وعن العقود المُبرَمة بين وزارة الدفاع والشركاء الاقتصاديين والأمنيين والعسكريين، وعن السياسات العسكرية والأمنية والتكوينية، الخ. لكن هذا لا يتعارض مع مصالح الجيش، كما يزعم بعض الضباط المشكّكين، فالديمقراطيات تتمتّع بأكثر القوات المسلّحة قدرة في العالم.
أكيدٌ أنّ ميزانية الحكومة تعكس قِيَم وأولويات الأمّة. ويجب أن تغطي ميزانية الدفاع الإنفاق على معدّات متينة وأنظمة أسلحة موثوقة وفعالة ومُرتّبات جيّدة لموظفي الدفاع الوطني. إضافة إلى ذلك يجب أن تتماشى هذه الميزانية مع المعايير الدولية، فلا تكون في الطرف الأسفل كما هو الحال في البلدان التي لا تواجه أيّ تهديدات خارجية ملحوظة، ولا في الطرف الأعلى كما هو الحال في الدول المثكنة (Etat garnison) التي يكون فيها الجيش مُفرطَ الانتفاخ وأكثر مواردًا وتنظيمًا من الدولة نفسها.
وينبغي أن تسترشد هذه الميزانية برؤية لتطوير قدرات دفاعية مستقلة تدريجيًا. يجب أن يكون تحقيق الاكتفاء الذاتي حَجَرًا أساسيًا في سياستنا لشراء الأسلحة لأنّ تاريخنا ومنطقتنا يعلّماننا أنه حتّى ظلّنا يهجُرنا في ساعة الظلام. علاوة على ذلك، هناك العديد من الدراسات الإحصائية التي تُثبت دون أدنى شك أنّ التبعية العسكرية (التدريب العسكري في الخارج، وواردات الأسلحة والمعدّات العسكرية، والمساعدة العسكرية الأجنبية) يمكّن البلدان التي توفّر الأسلحة والخدمات لممارسة التأثير على قيادات الجيوش في البلدان المستوردة. وهناك ارتباط وطيد بين التبعية للجيوش الأجنبية وتنامي احتمال وقوع الانقلابات والقمع، حيث أنّ مبيعات الأسلحة والخدمات العسكرية (برامج التدريب والمساعدة العسكرية) لها دوافع تجارية وجيوسياسية، كما أنها تسهّل الوصول إلى قيادات الجيوش في الدول المستوردة وكذا التأثير عليها، والتي غالبًا ما تُصبح وكيلة لفرض سياسات القوى المصدرة للأسلحة والخدمات.
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
إنّ بلدنا شاسع لدرجة أن التنقّل السريع أمرٌ أساسيٌ ليس فقط للدفاع عنه ولكن أيضًا لدمج مناطقه وشعبه وتطوير اقتصاده. إنّ تطوير صناعة وطنية للطائرات أمرٌ ضروريٌ وقد تأخّر كثيرًا. فالصينيون والأفارقة الجنوبيون والإماراتيون والإيطاليون والأتراك ليسوا أفضل منا، ويمكننا تطوير قدرات لهندسة وتصنيع طائرات بدون طيار أو طائرات الهليكوبتر أو طائرات التدريب أو الاستطلاع أو النقل في المستقبل غير البعيد. ومع نموّ هذه الصناعة ونضجها، لا شيء يمنعنا من تطوير طائرات قتالية.
فيما يتعلّق بالطائرات بدون طيّار، قامت بعض وسائل الإعلام بمزايدات وطنية جوفاء عن التقدّم التكنولوجي الجزائري، في حين أنها مجرّد تعديلات طفيفة للطائرات الإماراتية التي هي نفسها نسخٌ من أنظمة KABD الأوكرانية. ولا يمكن أن تتطوّر صناعة طيران وطنية حقيقية دون وجود نظام سياسي شرعي ومستقر، يغذيه اقتصاد نشط، ونظام تربوي فعّال وجامعة عالية الأداء تدرّب مهندسين أكفاء في مجال الإلكترونيات، وعلم الطيران، والميكانيكا، وميكانيكا الموائع، والكهرباء، وعلم المواد والإعلام الآلي. علاوة على ذلك، فبدون سيادة تكنولوجية في مجال إلكترونيات الطيران (avionics) وأنظمة قذف الصواريخ، ليس هناك ما يضمن أنّ هذه الطائرات، أو حتى طائراتنا الحربية الأخرى، ستشتغل كما هو متوقّع منها وقت الحرب.
أكيد أنك مستاءٌ من استجداء جيشنا بقوى أجنبية للحصول على صوَر الأقمار الصناعية الخاصة بأرضنا. لقد طال انتظار تطوير بنية تحتية فضائية وطنية، وكذا بحوث وأنشطة في هذا الميدان. ويمكن لبلدنا وينبغي له أن يبني أقماره صناعية، لأغراض عسكرية أو مدنية، كما يجب أن نطوّر بالتدريج صواريخ الحمل والنقل، ومنصّات الإطلاق بهدف توصيل هذه الأقمار إلى مدارها.
نحن دولة رئيسية في البحر الأبيض المتوسّط لها أكثر من ألف كيلومتر من الساحل ينبغي الدفاع عنه. ولقد تمّ شراء طرادات، وفرقيطات، وغواصات، وسفن هجومية برمائية، وزوارق دورية، وصائدات الألغام، وزوارق الصواريخ، وسفن معاونة من روسيا والصين وإيطاليا وألمانيا. ومن العار أننا لا نبني ناقلات النفط أو الغاز ولا حتى سفن الصيد. هذه خيانة أو على الأقل خذلان لجغرافيتنا وتاريخنا. قبل قرون قليلة كنّا قوّة بحرية رئيسية في البحر الأبيض المتوسّط، بقيادة مِن أعظم أمراء البحر في التاريخ. ومنذ القرن الثاني عشر كان لدينا العديد من أحواض بناء السفن التي تقوم ببناء السفن وبتسليحها، لكن بعد مرور ستة عقود تقريبًا على الاستقلال لا نملك حوضًا واحدًا لبناء السفن، عسكرية كانت أم تجارية. لقد طال انتظار صناعة بحرية وطنية.
يستورد بلدنا الدبابات والمركبات القتالية والمدفعية وراجمات الصواريخ والقذائف وأنظمة الصواريخ والأسلحة الصغيرة لقواتنا البرية، وأنظمة الحرب الإلكترونية، والرادارات، وأنظمة إدارة الدفاع الجوي، وأنظمة الدفاع الجوي القائمة على الصواريخ، والأسلحة المضادة للطائرات، والصواريخ أرض-جو للدفاع عن مجالنا الجوي. هنا أيضًا ينبغي أن تسترشد الموازنة برؤية لتصنيع هذه القدرات الدفاعية تدريجيًا في البلد حتى نتمكّن من الوقوف على قدمينا على المدى المتوسّط والبعيد.
كما يجب إنشاء مدارس وأكاديميات عسكرية ذات مستوى عالمي وكذا مراكز للدراسات ومعاهد للبحوث الاستراتيجية العسكرية، وعلى الأقل قسم واحد لدراسات الحرب في أفضل جامعتنا.
باختصار، الدولة المدنية لا تعني جيشًا منخفض الرواتب أو سيّئ التجهيز أو التدريب. على العكس من ذلك تمامًا. لكن يتعيّن علينا أن نطمح ونذهب لِما نعتقد أننا قادرون عليه، وألّا نقيّد أنفسنا بما اعتدنا عليه في الماضي القريب.
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
لا يمكن لأحد أن ينكر أنه في النظام الفاسد الحالي جزءٌ من سلك الضباط ظلّ يسعى إلى المكانة من خلال السيطرة على النظام السياسي، وإلى الهيبة عبر التسلّط على النخب المدنية، ومِنها صنع الرؤساء والوزراء والولاة والدبلوماسيين، والنواب وقادة الأحزاب إلخ، وإلى النفوذ بواسطة الهيمنة على المال الذي غالبًا ما يتمّ الحصول عليه بطرق غير قانونية. في الحقيقة ليس هناك عظمة في إضعاف المدنيين والتلاعب بهم، أو في شنّ الحرب على المجتمع، أو في قهر أبنائك وإخوانك، واستضعاف شعبك وشلّ بلدك.
الدولة المدنية تعني أنّ ضباط الجيش سيكتسبون الهيبة والتقدير والسمعة من خلال كفاءتهم وخبراتهم ومهاراتهم في تطوير قدرات الدفاع الوطني، وعبر مساهمتهم في نجاح الجيش ونموّه، ومن خلال شعورهم بالمسؤولية وتواضعهم وخدمتهم وحسن أخلاقهم.
3- هل تهدّد الدولة المدنية بتماسك الجيش الوطني الشعبي؟
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
من المعروف أن بعض الضباط المعارضين لدَمَقْرَطة النظام السياسي يُجادلون بأنّ الدولة المدنية قد تهدّد تماسك الجيش الوطني الشعبي. وذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة.
فيما يتعلّق بخطوط الصدع الأفقية داخل الجيش، ينبع الخطر الوحيد من السلوك الإقطاعي لبعض الضباط وليس من الشعب أو السياسيين. “جيش، شعب، خاوة خاوة” يعكس الوحدة التي يشعر بها شعبنا تجاه الجيش، والجزائريون يؤمنون قطعًا بوحدة الشعب والأرض والجيش. وتتعلّق المخاطر الوحيدة في هذا الصدد ببعض الاستياء على مستوى الرتب المنخفضة بسبب بعض القصور في تلبية حقوقهم الاجتماعية ونظرًا لوجود ثقافة فرعية (sous-culture) إقطاعية داخل الجيش حيث لا يميّز بعض الضباط بين ما هو مؤسسي وما هو خاص ويعاملون الجنود والرتب الأدنى وكأنهم خَدَمهم.
فيما يتعلّق بالصدوع العمودية داخل الجيش، ستعالجها الدولة المدنية بالتأكيد لأنّ الاضطرابات والنزاعات الداخلية وانعدام الثقة في التسلسل الهرمي العسكري معروفة بأنها ناجمة عن الفصائلية (factionalism) والتسييس والفساد. أما الجيوش المهنية في البلدان الديمقراطية فهي ليست مسيّسة ولا تنقسم قياداتها إلى فصائل أو عُصب.
يذكرنا النزاع الداخلي الذي شهدناه في شهر ديسمبر الماضي، بين قائد الأركان الراحل وجنرالات المخابرات لتنصيب تبّون أو ميهوبي، بالانشقاق الذي رأيناه في انتخابات 2004 الرئاسية. خلال تسعينيات القرن الماضي، اكتشف الجزائريون أنّ قيادة الجيش كانت منقسمة إلى فصيلين – الاستئصاليين والتصالحيين – كانا يتعاونان ويتظاهران بالوحدة لمّا كانت أولوية العسكري مهدّدة ولكن كانا يتصارعان بقوة عندما ينحسر هذا التهديد ويختلّ ميزان القوى بينهما. لقد اشتبكوا ببعضهم البعض من خلال الترقيات وإنزال الرتب والتحويلات والاغتيالات والانقلابات ومحاولات الانقلاب والهجمات السياسية أو الإعلامية من خلال وكلائهم المدنيين، وحتى من خلال تكثيف انتهاكات حقوق الإنسان لتشويه سمعة بعضهم البعض. ومن منظور علم الاجتماع العسكري، يُعتبر هذان الفصيلان تقريبًا خليفتي فصيل جيش التحرير الخارجي والجنود السابقين في الجيش الفرنسي من جهة، وفصيل جيش التحرير الداخلي من جهة أخرى.
اختفت هذه الظاهرة الفصائلية تحت السطح في أوّل عهدتين من حكم بوتفليقة، الذي استخدم تكتيكات الوقاية من الانقلاب (coup-proofing) لتقسيم قيادة الجيش، لكنها عادت إلى الظهور بأشكال مختلفة في صيف عام 2018 لمّا استُخدم تورّط بعض الجنرالات في تهريب الكوكايين لتصفية الحسابات بين الضباط المنخرطين في بعض الشبكات السياسية والتجارية وشبكات الفساد المتنافسة. ووصلت هذه المناوشات بين الفصائل إلى ذروتها بعد انتفاضة 22 فبراير، أعقبها إقالة عدد من الضباط، والسجن أو الإحالة للتقاعد المبكّر للبعض الآخر، كما هرب أيضا بعض الضباط إلى الخارج. وتعرضُ قيادة الجيش اليوم صورة لقيادة غير محترفة تمزّقها الصراعات بين الفصائل، لانعدام الثقة والانشقاق الناشئ عن التدخّل في المجال السياسي، وكذلك من التورّط في شبكات متنافسة في السياسية والتجارة والفساد.
من الواضح أنّ التهديد الرئيسي للتماسك العسكري ينبع من الفصائلية البنيوية، والتسييس والفساد في هرم القيادة العسكرية، وليس من الدولة المدنية. فعلى العكس من ذلك، إنّ الدول المدنية تقوم بحماية الجيش من مطبّات وطوارئ العملية السياسية، لا سيما من فساد النظام السياسي الحالي الذي يستلزم تغييرًا جذريًا. لذلك فإنّ التحكّم الديمقراطي في القوات المسلّحة يسهر على القضاء على الفصائلية والتسييس، كما يطوّر الاحترافية من أجل تقوية الجيش بما يكفي للانتصار في الحروب، دون توريطه في الشؤون السياسية الداخلية، وبالتالي تعزيز الطابع المؤسسي للعلاقات المدنية-العسكرية في هذا البلد.
4- الدولة المدنية والأمن القومي
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
لِندقّق الآن في المخاوف الأيديولوجية لبعض الضباط المتشدّدين بشأن الدولة المدنية. مثلما تمّ رفض مبدأ أولوية السياسي على العسكري من قِبل بعض الضباط البارزين خلال حرب التحرير، يبدو أنّ دعوات الحراك لدولة مدنية أثارت نفس الردّ من بعض الصقور في قيادة الأركان. بين هذه المعالم، أدام هذا التيار من الضباط ميلًا أيديولوجيًا راسخًا ادّعى الشرعية الثورية بالإضافة إلى الشرعية التنموية في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي لتبرير سيطرته الطويلة على العملية السياسية، ثم انسحب تكتيكيًا خلال أوّل انتقال ديمقراطي، بين عامي 1988 و1991، لكن بعد ذلك أعاد بسط سيطرته على العملية السياسية باسم مكافحة التمرّد والإرهاب اللذين أحدثهما انقلاب يناير 1992. وخلال عُهد بوتفليقة الأربعة، برّر هذا الصنف من الضباط السيطرة المستمرّة على العملية السياسية، وهي سيطرة صارمة لكنها أقلّ وضوحًا من قِبل المخابرات العسكرية، على أساس الحفاظ على الاستقرار وحماية الأمن القومي وأمن الدولة.
لنركّز على هذه الانشغالات الأمنية المزعومة لأنها تكوّن الحجة الأيديولوجية الرئيسية التي يرفض على أساسها بعض الضباط المتشدّدين مطلب الحراك بالانتقال الحقيقي إلى الديمقراطية. سيتمّ دحض هذه المزاعم من خلال أربع نقاط.
أوّلًا، معلوم أنّ الفكر العسكراتي لا يميّز بين أمن النظام وأمن الدولة والأمن القومي، فهو يدمج الثلاثة رغم أنهم مختلفون تمامًا. فأمن النظام شيء، وأمن الدولة شيء ثانٍ، والأمن القومي شيء آخر.
إنّ أمن النظام هو قدرة النخبة الحاكمة على تأمين سلطتها من خلال القمع والمناورة السياسية. ولا شكّ أنّ الجيش يوفّر هذا النوع من الأمن. أمّا أمن الدولة، بمعنى الحفاظ على سلامة وأداء المؤسسات وفكرة الدولة، فلا وجود له في بلدنا. هناك أزمة شرعية مزمنة، وضعف مؤسّساتي، وعجز عن سنّ سياسة وطنية وقصور في أداء وظائف الدولة الأساسية، وتمركز السلطة السياسية عند نخب صغيرة تدير الحكومة لمصالحها الخاصة، وفساد بنيوي، واحتجاجات وطنية كبيرة، وأزمة اقتصادية مستديمة، كلها تدلّ على غياب أمن دولة.
لا يوجد في بلدنا أمنٌ قومٌي بمعنى أمن كيان اجتماعي-سياسي كامل، أمّة لها منهجها في الحياة وحكم ذاتي مستقل. فعلى سبيل المثال، الأمن الغذائي، والأمن الاقتصادي، والأمن الصحي، والأمن السياسي، أيْ التمتّع بالحقوق المدنية والسياسية والتحرّر من الاضطهاد السياسي، والأمن البيئي، أيْ الحماية من الفيضانات المفاجئة، والحرائق، والجفاف، والزلازل، والتصحّر، غير موجودين بكل وضوح في بلدنا. ومعلوم أنّ حقوق الإنسان والحريات تسبق وتفوق الدولة أو الأمة، وأنّ أمن الدولة ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة يمكن للإنسان أن يحقّق ذاته من خلالها، كما هو وسيلة تساهم في تحقيق الصالح العام للمجتمع. ومع ذلك، فإنّ الأمن الإنساني، بمعنى التحرّر من العوز ومن الخوف وحرّية العيش الكريم، مفقود في حياة المواطن الجزائري.
ثانياً، هذا التناقض، بين أمن النظام من جهة وأمن الدولة والأمن القومي والإنساني من ناحية أخرى، يُعرف باسم معضلة انعدام الأمن (insecurity dilemma) الخاصة بالدول الفاشلة في العالم النامي. لاحظ أنّ كلمة معضلة لها معنى دقيق هنا، أيْ الإكراه على اختيار واحد من بديلين كلاهما سيّء. إنّ حالة انعدام الأمن هذه تعني أنه كلّما سعى الجهاز العسكري لتأمين النظام، كلما انخفضت مستويات أمن الدولة والأمن القومي والإنساني. إنّ السعي لتحقيق أمن النظام على المدى القصير يُقَوِّض المصالح طويلة الأمد مثل بناء الدولة وتأمينها، وتحقيق الأمن القومي والإنساني.
من المعروف أنّ هذه الحالة تُديم نفسها بنفسها لأنّ جهود النظام لتأمين نفسه باستعمال القوة توّلد مقاومة متزايدة من المجتمع كما تنخر بنية الدولة المؤسساتية وتضعف الأمن القومي ككلّ. هذا الإضعاف في الدولة بدوره يزعزع أمن النظام، الذي يلجأ إلى المزيد من القوة لتأمين نفسه، مما يقوّض الدولة أكثر. وتتلو ذلك حلقة أو دوامة من انعدام الأمن، ويتحوّل حراس الديار وحماتها إلى معذبيها وحراميّتها، وتنتهي أدوات الإكراه إلى تهديدٍ للنظام، وبعدها قد ينهار النظام فجأة وعادة ما يؤدي ذلك إلى الفوضى.
أخي في الجيش الوطني الشعبي.
ثالثا، دعنا نراجع بإيجاز دوامة انعدام الأمن في الجزائر. فبعد أن قرّر جنرالات الجيش إجهاض أوّل انتقال للجزائر إلى الديمقراطية بذريعة “الأمن القومي”، استخدموا القوّة لتدمير وتفريق حزب سياسي معتمد ثم وظّفوا استراتيجية التمرّد المضاد (السجن التعسفي والنفي والتعذيب والإعدام خارج القانون والخطف والمذابح) لسحق الردّ العنيف على انقلابهم. ولجأت الذراع السياسية لقيادة الجيش، دائرة الاستعلام والأمن DRS، إلى الرقابة والاحتكار والتحكّم في الإعلام، وإلى قلب المعارضين أو شراء ذممهم أو ابتزازهم، وتخريب الأحزاب أو تقسيمها أو تهجينها، واستنساخ أحزاب مصطنعة، واستبعاد المرشّحين، والتلاعب بالتقسيمات والقوانين والقواعد الانتخابية، وتزوير الأصوات، ومراقبة النقابات العمالية والمساجد والجمعيات الثقافية وغيرها من منظمات المجتمع المدني الرئيسية. ساهمت هذه الهندسة السياسية في ترتيب واجهة ديمقراطية متعدّدة الأحزاب، مفيدة للحصول على قدرٍ من الشرعية الدولية، مع الاحتفاظ بالسيطرة الفعّالة على العملية السياسية بواسطة المخابرات.
لا نهاية الحرب القذرة، ولا انتفاضة 2001 في منطقة القبائل، ولا أعمال الشغب المزمنة في جميع أنحاء البلاد، ولا الربيع العربي دفع النظام إلى الشروع في إصلاحات ديمقراطية حقيقية لتعزيز الدولة. واستمرت دائرة الاستعلام والأمن، وهي في سكرة من “نجاحها” في سنوات الدم، هذه الاستراتيجية طوال سنوات بوتفليقة مفضّلة أمن النظام على المدى القصير على مصالح الدولة وأمن الوطن على المدى الطويل. وتمّ تبديد الريع النفطي لتجبيس بعض المظالم الاجتماعية، وشراء الولاءات، وتمويل الشبكات الزبونية المتزايدة باستمرار. انتشر عندها الفساد ثم تغوّل، تحت أنف أو بمباركة المخابرات، وأصبح الوسيلة الرئيسية للاندماج في الدولة. هكذا غرقت البلاد تحت هرم الفساد وعدم الكفاءة والرداءة. وكما لاحظ أفلاطون منذ حوالي 2400 عام، فإنّ تدخّل العسكر فيما لا يعنيهم “يؤدّي إلى خراب المدينة”.
أدّى الحراك الوطني المفاجئ إلى سقوط بوتفليقة وسجن فصيل من عصابات النظام. وبدلًا من قبول مطلب الحراك بانتقال ديمقراطي حقيقي ودولة مدنية، قام الفصيل المهيمن في قيادة الجيش، وهو أسير معضلة انعدام الأمن، باختيار القرار المعتاد، وهو خيار الإدمان على الفشل. فرفض هذا الفصيل الاستماع إلى صوت الشعب ولجأ إلى توظيف ذراعه السياسية، المخابرات، لمضايقة الحراك وقمعه انتقائيًا جنبًا إلى جنب مع فرض رئيس مزيّف، بالعنف والتزوير، تتمثّل مهمّته الأساسية في التمويه على اصطناع مجدّد للواجهة الديمقراطية متعدّدة الأحزاب.
رابعا، يعتبر الحراك هذه الخطوة بمثابة جَلْدِ حمار ميت فيرفض قبولها. وفي النهاية، ستضطر قيادة الجيش على الاختيار بين أمن النظام، الأمر الذي يتطلّب قمعًا أوسع نطاقًا من قمع التسعينيات، ممّا قد يُشعل حرب عصابات جديدة تؤدي إلى انهيار الدولة وتفكّكها، أو انسحاب هذا النظام والمضيّ إلى تشييد دولة حقيقية من خلال الديمقراطية. وسيتعيّن على جنرالات القيادة الاختيار بين أن يُصبحوا حماة الدولة والأمة الجزائرية أو أن يظلّوا معذِّبين للشعب الجزائري، أيْ الاختيار بين الأمن كوسيلة لتعزيز الدولة الجزائرية وتحرّر شعبها وتقدّمه وأمنه أو الأمن كغاية في حدّ ذاته.
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
يقول آينشتاين إنه لا يمكن للمرء أن يحلّ معضلة بنفس العقل الذي صنعها. والمألوف في مقاربة المعضلات هو أنه إذا لم يخاطر المرء بأيّ شيء، فإنه يخاطر بكل شيء. ومن الواضح أن الحلّ النهائي طويل الأجل لمعضلة انعدام الأمن هو الدولة المدنية.
يعني ذلك تفكيك الشرطة السياسية وجميع أجهزة الاستخبارات والأمن التي تراقب وتتحكّم في المدنيين من نشطاء، وأحزاب، وصحافة، ونقابات، وقضاة، ورجال الدين، ومقاولين، ورياضيين وفنانين، وما إلى ذلك، وبعضُهم يوظَّف في هندسة مشهد سياسي مصطنع يخدم الأهداف الظرفية للقيادة العسكرية.
تعدّ أجهزة الاستخبارات والأمن ضرورية لبقاء الدول، ولكن يجب التحديد بدقّة لتفويضها، وأسسها القانونية، وهياكلها وأحجامها، وصلاحياتها، وآليات التحكّم فيها، وحيادها السياسي، وإدارتها للبيانات الشخصية، وكذا حمايتها لحقوق الإنسان، كما يجب تقنينها ومراجعتها بانتظام، حتى لا تُستخدم ضدّ المجتمع الذي من المفترض أن تخدمه وتحميه. تعدّ الكيانات القسرية السرية مفيدةً لأمن النظام ولكنها تشكل خطرًا على أمن الدولة والأمن القومي. فتجريدها من صلاحياتها التعسفية وإخضاعها لحكم القانون أمرٌ مصيري. وهذا يعني أنّ البرلمان المنتخَب له صلاحية مساءلة كلّ قادة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية عن صرف ميزانيتهم وعن أنشطتهم وعن انتهاكات حقوق المواطنين. ويعني ذلك أيضًا أنّ القضاء المستقلّ له السلطة لمتابعة وسجن أيّ ضابط وأيّ قائد من قادة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في كلّ ما يخصّ انتهاكات حقوق الإنسان والفساد وسوء التسيير، الخ. يجب، طبعًا، أن يكون قادة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية مدنيين تُعيّنهم الحكومة المنتخَبة، أمّا جهاز أمن الجيش (DCSA حاليًا) فقائده يكون عسكريًا.
أخيرًا، إنّ الدولة المدنية تعني أنّ عقيدة الأمن القومي التي تُدرّس في الأكاديميات العسكرية والمدارس الأمنية والاستخباراتية لا تعتبر الشعب خطرًا على الأمن القومي كما هو الحال الآن، فهذه عقيدة الجيوش الاستعمارية، عقيدةٌ مبنيةٌ أساسًا على التحكّم الداخلي. أمّا في الدولة المدنية فالخطر والتهديد خارجي والجيش مهمته التركيز على التهديد الخارجي.
5- الدولة المدنية والحكم المدني
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
بعد مناقشة المسائل الداخلية للجيش الوطني الشعبي الأربعة، ننتقل الآن إلى أوّل الإشكالات الأربعة خارج الجيش الوطني الشعبي وهي طبيعة الحكم المدني.
هناك ضباط قد يعترضون على الحكم المدني لكونه: أ) قد يفشل في إدارة البلاد، أو ب) قد يثير انقسامات أو تجاذبات عميقة في البلد، أو ج) قد يبرز حزب أيديولوجي مهيمن للاستيلاء على الدولة، وكلّ هذه السيناريوهات من شأنها أن تُهدد أمن الدولة وتُجبر الجيش على التدخّل مرّة أخرى في العملية السياسية.
إنّ الاعتراض الأوّل ليس حجة لرفض الانتقال إلى الديمقراطية. فمعظم الجزائريين يتّفقون على أنّ الحكم العسكري المباشر وغير المباشر طوال 57 عامًا كان فاشلًا. إنّ رفض مسار يؤدّي إلى فشلٍ افتراضي على أساس أنه من الأفضل أمنيًا الاستمرار بنظام تأكّد فشله أمرٌ غير منطقي. إنّ الجزائريين يطمحون إلى اختيار الأفضل من بينهم لإدارة شؤونهم. وإذا فشلت الحكومة التي يختارونها، فسيستبدلونها بحكومةٍ أفضل، كما هو الحال في عشرات البلدان الديمقراطية المتقدّمة والنامية.
كما أنّ الاعتراض الثاني ليس مقنعًا، نظرًا لجميع الجهود التي بذلتها الشرطة السياسية وعملاؤها الإعلاميون في العام الماضي لاستقطاب الحراك وتقسيمه على أسس عرقية، من ناحية، والوحدة الوطنية الرائعة التي ردّ بها الشعب على هذا التحدّي، من ناحية أخرى. إنّ إنشاء نظام ديمقراطي حقيقي لا يمنع ظهور قوى سياسية تثير انقسامات أو تجاذبات عميقة في البلاد، غير أنه يمكن استباق وتجنّب هذا الاحتمال بسهولة عن طريق الوسائل الدستورية والقوانين المتعلّقة بالأحزاب، وبالتهديدات للوحدة الوطنية وبخطاب الكراهية، سواءً كان عنصريًا أو جهويًا أو دينيًا أو أيديولوجيًا.
أمّا الهاجس الثالث فيمكن أيضًا أن يُستبعَد أو يُمنع بضمانات دستورية ووسائل سياسية. فمعلومٌ أنّ دساتير الديمقراطيات العريقة تحتوي على إجراءات واضحة لعزل حاكم أو إزالة حزب استبدادي من السلطة. ويمكن أيضًا مناقشة مثل هذه المخاوف علانية في الحوارات والمفاوضات السياسية خلال المرحلة الانتقالية لوضع الآليات السياسية المتّفق عليها لضمان عدم حدوث مثل هذا السيناريو.
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
في الديمقراطيات المستقرّة تُقاس احترافية الجيش بثلاثة معايير: أوّلًا، خضوع القوات المسلّحة والأمنية للرقابة المدنية من خلال البرلمان أو ما يُصطلح عليه بالتحكّم الديمقراطي في الجيش والمخابرات؛ ثانيًا، مدى فعالية الجيش في القيام بمهامه الدستورية من حماية للبلاد في مختلف المجالات؛ ثالثًا، مدى نجاعة الجيش الوطني الشعبي في تسيير الموارد البشرية والمادية الموكلة إليها. ويبيّن التاريخ المعاصر أنّ الكثير من الجيوش انهزمت وأخفقت في الوفاء بأهمّ مهامّها الدستورية، وهي الدفاع عن الوطن من الغزو، بالرغم من تصنيفها من أكبر الجيوش تسليحا في المنطقة والعالم. إنّ قوّة الجيوش ليست بكثرة عددها وعتادها وإنّما بالشرعية التي يمنحها إيّاها الشعب الذي يساندها، وبخضوعها لرقابته من خلال المؤسسات المعبّرة عن سيادته ممثّلة في البرلمان.
ورغم ذلك، معلومٌ أنّ هناك ضباطًا لديهم اعتراضات أشدّ اشمئزازًا ورفضًا للحكم المدني مِمّا نوقش أعلاه، غير أنهم لا يُعلنون عنها. فهم يتعالَون عن السياسيين المدنيين من ارتفاع أبراج الثقافة العسكرية، ويسخرون من فكرة أنّ مثل هذه المخلوقات قد تتحكّم فيهم. ويجسّد حفل تنصيب تبّون نموذجًا لمّا يعتبره هذا النوع من الضباط صنفًا من السياسيين المقبولين: خدمٌ يلعبون دور السادة. فاستنكارهم أو استياؤهم الضمني هو “كيف يُصبح هؤلاء العبيد نُظراءنا، أو، الأسوأ من ذلك، أسيادنا؟” يشمئز هؤلاء الضباط من دولة مدنية لأنها، في نظرهم، ستؤدّي إلى قلب التحكّم الحالي غير المتكافئ بين السيّد والعبد.
مشكلة العسكرة هي أنها لا تسيّس الجيش فحسب، بل تعمل أيضًا على عسكرة السياسة. فعلى حدّ تعبير جنرال جزائري متقاعد مثقّف و “تقدّمي” العام الماضي عن السياسيين المدنيين: “يڤردفوا ڤاع”. هذه الطبقة السياسية بكلّ تنوّعها هي صورة معكوسة لقيادة الجيش التي شكّلتها، فنحن أمام مسؤولين بدون سلطة يخدمون متسلّطين بدون مسؤولية، أو دمى مرئية تتفاخر بالخيوط التي يتحكّم فيها محرّكو الدمى في الخفاء. فهناك سياسيون يتنافسون مع بعضهم البعض للحصول على رعاية عسكرية، أو لـ”يُنْتَخبوا” بالتزوير، أو لتمثيلٍ مصطنعٍ لحزبهم في المجالس الوطنية والمحلية، كما يؤجِّج البعض الانحراف الفصائلي لقيادة الجيش بالمناورة أو التموقع لصالح هذا الفصيل أو ذاك، أو حتى تقديم خدماتهم لهذا الجنرال أو ذاك مقابل الحصول على حصّة من الريع النفطي. وهناك من يساهم في اصطناع الواجهة الديمقراطية من خلال لعب دور “خبراء” مدنيين يراقبون قضايا الدفاع في المجلس الوطني، كان أهمّ “إنجازاتهم” منذ إنشاء لجنة الدفاع في المجلس الوطني هو تنظيم يوم برلماني حول “الإرهاب الدولي الجديد”، ويوم دراسي بخصوص “التعديلات على مشروع القانون المتعلّق بإنشاء ميدالية مشاركة للجيش الشعبي الوطني”، ويوم دراسي حول “دور البحث العلمي في تطوير وتحديث الجيوش” بعد زيارتهم لأكاديمية شرشال.
هناك فجوة أخلاقية ضخمة تفصل هذه الطبقة السياسية المذعنة والفاسدة عن الحراك الذي يعتبرها جزءًا من المشكلة. وهناك فجوة ثقافية هائلة على حدّ سواء تفصله عن النظرة السياسية المهووسة بالتحكّم لهؤلاء الضباط. في الحقيقة لا يتشابك الحراك في جدلية السيّد والعبد مع قيادة الجيش، بل يؤمن الحراك بتحرير الظالم والمظلوم، فلا سيّد ولا عبد، والجميع مواطنون متساوون في دولة القانون. ليست مهمّة الدولة المدنية الهيمنة على الجيش، إنما تتعلق بالحوكمة الديمقراطية على جميع مفاصل الحكومة، بما في ذلك الجيش.
كان من الممكن تبديد مثل هذه المخاوف لولا فجوة التواصل بين دعوات الحراك الصاخبة لإنهاء عسكرة الدولة من جهة وصمت المعارضة المعتمدة عن توضيح ما قد يقتضيه ذلك فيما يخص الجيش. صحيح أنّ عددًا قليلًا فقط من الشخصيات السياسية تخاطب قيادة الجيش بشأن موقع الجيش ودوره في الدولة المدنية، وماهية التحكّم الديمقراطي فيه. لكن كثيرون من هؤلاء يفتقرون إلى الخبرة في الشؤون الدفاعية والعلاقات المدنية-العسكرية، ويتوقّف فهمهم للدولة المدنية على تعهّد عسكري بعدم التدخّل مرة أخرى في السياسية، وتعيين مدنيين لرئاسة وزارة الدفاع ومصالح الأمن. فهُم لا يهتمّون بالمؤسسات والآليات والقوانين والقواعد والمعايير لتوجيه الجيش إلى علاقات مدنية-عسكرية سلسة.
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
إنّ قيادة الجيش هي المسؤولة الوحيدة على هذا الوضع. فعندما تُستخدم عصا دائرة الاستعلام والأمن لتخويف المجتمع وردع السياسيين عن التعبير عن آرائهم وتسمية الأشياء، ولمّا تُستخدم جزرة الريع النفطي لإفسادهم وإسكاتهم والتلاعب بهم وفقًا لأهداف قيادة الأركان الظرفية، يستحيل لوم السياسيين عن عدم مبادرتهم لتعلّم القضايا الدفاعية وكيفية إدارة العلاقات المدنية-العسكرية بسلاسة في نظام ديمقراطي.
ما نعرفه من تجارب العديد من دول أمريكا الجنوبية هو أنّ التحول الديمقراطي مِن الديكتاتورية، وإقامة علاقات مدنية-عسكرية ذات طابع ديمقراطي هو عملية تدريجية. فالسياسيون يهتمّون أوّلًا وقبل كلّ شيء ببقائهم السياسي. وعندما يرَون عصا البرلمان والقضاء وراءهم وجزرة الانتخابات المقبلة أمامهم، فإنهم يأخذون المبادرة لإتقان عملهم لتعزيز النظام الديمقراطي. أكيد أنّ نفس الشيء سيحصل في بلدنا. فبمجرد إزالة الشرطة السياسية، سيظهر سياسيون أكفاء وأحزاب لها تمثيل حقيقي يستوعبون المسائل الدفاعية وكيفية إدارة علاقات عسكرية-المدنية صحّية، مع الجيش وليس ضده، داخل دولة ديمقراطية أوسع. ولا شكّ أنّ تحرير أقسام العلوم السياسية في الجامعات من قبضة المخابرات وتوجيه البعض منها إلى الدراسات والمقارنات والتعليم في العلاقات المدنية-العسكرية وعلم الاجتماع العسكري وكذا التحكّم الديمقراطي في القوات المسلّحة، كلّ ذلك سيسرّع في هذه العملية.
6- الدولة المدنية والأمن الداخلي
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
يعترض بعض الضباط على الحكم المدني لأنه قد يفتح الباب أمام المطالب أو الحركات الانفصالية، أو يؤدي إلى ظهور تمرّد مسلح. ويقولون إنّ هذا من شأنه أن يهدّد أمن الدولة الداخلي للخطر ويدفع الجيش إلى إعادة الانتشار في الساحة السياسية.
إنّ هذا القلق مشروعٌ من حيث المبدأ، ويتقاسمه جميع الجزائريين، أمّا من حيث الواقع الملموس فإنّ الحجة التي ينطوي عليها ليست صحيحة. أولًا، لقد ظهرت حركة “الماك” الانفصالية (MAK) في عام 2001، تحت حكم بوتفليقة الذي كان العسكر من خلفه. ولم يتمّ قمع هذه الحركة حتى عندما دعت إلى العنف في يونيو 2018. وبالمثل، فإنّ العسكر من خلال انقلابهم هم الذين تسبّبوا في ظهور تمرّد مسلّح في التسعينيات. لذلك فإذا لم ينزع هذان الإخفاقان الفعليان أهلية العسكر في السيطرة على العملية السياسية، لماذا يؤدّي افتراض وقوع هذه المخاوف في ظلّ دولة مدنية مستقبلية إلى نزع الشرعية عن المدنيين؟ إنّ هذا الموقف متناقض ذاتيًا.
ثانيًا، منذ بداية الحراك، أثارت المخابرات العسكرية، بلا خجل، نار الفتنة العنصرية ضد القبائل باستخدام جميع المنصّات الإعلامية التي تسيطر عليها، بما في ذلك التلفزيون الوطني، في محاولة يائسة لتقسيم الحراك. ومع ذلك، فقد ردّ المجتمع الجزائري بقوة على هذه الفتنة وهذا التهديد العنصري، ودافع بقوّة عن الوحدة الوطنية.
ثالثا، لم يتوقّف الحراك عن الدعوة إلى اللاعنف وممارسته. فقد تظاهر ملايين المواطنين لمدّة عام دون كسر نافذة واحدة أو حرق إطار أو سيارة واحدة، ويقومون بانتظام بتنظيف الشوارع بعد المظاهرات. لقد برز نمط جديد للاحتجاج والمقاومة اللاعنفية في ثقافتنا السياسية. إنّ الحراك يمارس ويطوّر القِيَم المدنية كما يشجّع المقاربة السلمية للمسائل السياسية، وإذا تمت رعاية هذا التقدّم في ثقافتنا السياسية الوطنية وتوطيده من خلال نظام التعليم والثقافة والإعلام، فسيُحدث استقرارًا سياسيًا للأجيال القادمة. لذلك يبدو أنّ المخاوف بشأن احتجاجات عنيفة افتراضية قد تقع خلال التحوّل الديمقراطي أو بعد توطيد الديمقراطية غيرُ مبرّرة.
أخيرًا، لا يمكن لأحدٍ أن يستبعد قَطعًا مخاطر الانفصال أو التمرّد، لكن هذه المخاطر مرتبطة بإدامة النظام الحالي، أي واجهة من التعددية الحزبية يسيطر عليها العسكر، وليست مرتبطة بالدولة المدنية. فإذا استمرّت قيادة الجيش في المسار الحالي المتمثّل في دعم أمن النظام على حساب أمن الدولة ومسار حقيقي لبناء الدولة، وإذا لجأت في نهاية المطاف إلى قمع الحراك لفرض إرادتها، فإنّ هذه المخاطر ستُصبح ملموسة. فالعاقل يتوقّع الأسوأ من أمّة محبطة وملايين من الشباب اليائسين الذين يشعرون بالخيبة من صمم السلطات ومن غياب إنجاز ملموس بعد سنة كاملة من الاحتجاجات السلمية والتضحيات الكبيرة. معروفٌ أنّ التمرّد أو الانفصال المسلّح ينموان في تربة اليأس والاغتراب والغضب والعَوَز والبؤس والصراع. فإذا تمّ تدمير الحراك بالقمع سيتحقّق هذا السيناريو، ممّا سيؤدي إلى تآكل مؤسسات الدولة، وسينتهي الأمر على الأرجح إلى التمرّد والانقسامات داخل الجيش، وربّما حتى انهيار الدولة وبروز أمراء الحرب والفوضى العارمة.
7- الدولة المدنية والاقتصاد
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
إنّ الاقتصاد هو أيضًا مصدر قلقٍ للضباط المعارضين للانتقال الديمقراطي الحقيقي. إنهم قلقون من أنّ الحكم المدني قد ينفّذ سياسات اقتصادية واجتماعية قد تهدّد السلم الاجتماعي وتُعرّض شرعية النظام السياسي برمّته للخطر. ويقولون إنّ هذه الإخفاقات ستُجبر الجيش على التدخّل مرة أخرى في الساحة السياسية.
هذا القلق ليس مقنعًا على الإطلاق. ومن الواضح أنّ قيادة الجيش تتحمّل مسؤولية كبيرة في سوء إدارة الاقتصاد منذ الاستقلال. فقد تمّ تنفيذ جميع النماذج والخيارات الاقتصادية منذ الاستقلال من قِبل قيادة الجيش أو بمباركتها، باستثناء التحوّل الديمقراطي القصير في أواخر الثمانينيات، وتدخّلت الاستخبارات العسكرية في اختيار جميع الأشخاص الذين يديرون الاقتصاد والتمويل والطاقة والصناعة والتجارة في هذا البلد.
طبعًا، هذا ليس دليلًا على أنّ الحكم المدني سيكون أفضل. إنّ السياسات الاقتصادية للحكومات المدنية القادمة غير معروفة، لكن هناك دلائل وأفكار متداولة في الحراك تُثبت الاعتقاد بأنّ الاقتصاد سيُدار بشكلٍ أفضل. إنّ التخلص من التدخّل العسكري في الشؤون الاقتصادية، وتمكين قادة منتخَبين بحرّية يقبلون المساءلة، وتحقيق استقلال العدالة، والقضاء على الفساد، والحدّ من البيروقراطية، كلّها عوامل ستُساعد على ترشيد القرارات الاقتصادية وتشجيع الأعمال والاستثمارات وسيكون ذلك مفيدًا أيضًا لجلب الاستثمارات الأجنبية، لأنه من المعروف أنّ الأنظمة العسكرية تردع المستثمرين الجادين وتجذب اللصوص والمرتزقة.
إنّ غالبية الجزائريين يشعرون بأنّ اعتمادهم على ريع النفط يجب أن ينتهي تدريجيًا. فقد جعلت هذه التبعية البلد عُرضة للتقلّبات في النظام الدولي، وأدمنت النظام على الإفلات من المساءلة أمام الشعب، وعلى الإنفاق دون فرض ضرائب، وعلى شراء الولاءات وتأجيل الدَمَقْرَطة إلى أجلٍ غير مسمى. إنّ الشبكات الزبونية المموّلة من الريع النفطي انتجت طبقة سياسية واجتماعية معادية للديمقراطية تخشى الشفافية والمساءلة. وهذا الوضع يجب أن يتغيّر. إنّ الجزائريين على استعداد لدفع الضرائب إذا كانوا ممثّلين حقًا. ومن الحرام تبديد دخل الهيدروكربونات لتأجيل الحكم الديمقراطي، ففي نهاية المطاف يجب أن يذهب هذا الدخل فقط لبناء مشاريع البنية التحتية الكبرى وإلى صندوق سيادي للأجيال القادمة. كما أنّ الكفاءات الجزائري الضخمة المتواجدة في الخارج، والتي في كثير من الأحيان غادرت البلاد مضطرّة نظرًا لتعسّف نظام “العصابة”، مستعدّة للمساهمة في بناء اقتصاد وطني قوي مبنى على مقاربات علمية رصينة.
لا يريد الجزائريون أن يكون بلدهم منطقة تجارة استعمارية (comptoir colonial)، وهو إغراق بازاري للسلع المستوردة من أوروبا والاقتصادات الناشئة الآسيوية. يريد الجزائريون تناول الطعام الذي ينتجونه بأنفسهم، وارتداء الملابس التي ينسجونها ويفصلّونها، وبناء المنازل التي يسكنونها، وشرب الماء من السدود التي يبنونها بأنفسهم. يريد الجزائريون، وبإمكانهم، بناء الطرق والطرق السريعة والسكك الحديدية والمطارات والسيارات والشاحنات والقطارات والطائرات. الجزائريون قادرون على بناء وتزويد مستشفيات أفضل. إنهم يريدون إعادة اخضرار أراضيهم الشاسعة ووقف التصحر. فلا حصر لفُرص العمل في آفاق المستقبل.
لقد أنتج النموذج الجزائري للاشتراكية والريعية النفطية مجتمعًا قُتِلت فيه الثقة في النفس، والمثابرة في تطوير الذات، والعزم والإصرار في اكتساب المهارات، وروح المبادرة، وريادة الأعمال لكسب الرزق الحلال وإثراء المجتمع. ولا يمكن لهذا الوضع أن يتغيّر إلّا من خلال التعليم. إنّ تفكيك تسييس وأدلجة قطاعي التعليم الأساسي والجامعي وإصلاحهما لرفع مستوى أدائهما أمرٌ مصيري. وإنّ إنشاء مدارس وطنية للإدارة والأعمال، ومدارس لإدارة المشروعات الصغيرة والمتوسّطة في كل ولاية، ومدرسة مميزة للتكوين المهني في كل بلدية لإعطاء الشباب المهارات والتعليم الذي يُفيدهم مدى الحياة سيُساهم في تعزيز التنمية الاقتصادية للبلد.
هذه فقط بعض الأفكار المتداولة في بعض أوساط الحراك التي تشير إلى أنه من الممكن إنقاذ اقتصادنا الوطني من الإدارة الفاشلة والفاسدة والريعية التي وُظِّفت في العقود الثلاثة الماضية، تحت حكم العسكر أو بمباركتهم.
8- الدولة المدنية والأمن الخارجي
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
أخيرًا، هناك اعتراضات على الحكم المدني من قِبل بعض الضباط على أساس أنّ ذلك قد يُعرّض أمن البلاد الخارجي للخطر.
قلتُ في بداية الرسالة أنني سأعلق على شعار “الجنرالات للمزبلة، والجزائر تدي الاستقلال”. هذا هو المكان المناسب للقيام بذلك، لأنّ هذا الشعار يُعبّر عن اعتقاد الحراك بأنّ قيادة الجيش هي التي تستجلب ما يهدّد سيادة الجزائر. قد يشعر بعض الجنرالات بالإهانة لأنّ الشعار يبدو وكأنه يستهدف جميع الجنرالات بدون تمييز، أو يستهدف رتبة جنرال بذاتها، لكن ذلك فهمٌ سطحيٌ للشعار. لقد هتف الحراك بشعارات تعميمية مماثلة تستهدف القضاة والصحفيين. صحيح أن الشعار التعميمي يعبّر عن غضب تجاه هذه المجموعات المهنية بسبب إخفاقاتها الجماعية، لكن لا يدعو إلى الاستغناء عنها. والمهمّ في هذا الشعار هو كلمة “الاستقلال”، التي تربط ضمنيًا قيادة الجيش بالاستعمار أو الاستعمار الجديد.
إذن إدراك أو تصوّر الحراك هو أنّ القيادة العليا للجيش هي القناة التي من خلالها يواجه البلد التهديدات الأجنبية، والسبب في ذلك بسيط. فللتذكير، ينبغي الإشارة إلى أنه بعدما أجهض العسكر أوّل انتقال ديمقراطي في الجزائر في يناير 1992، أغرقوا البلاد في حرب دموية، وتراجعوا عن تراث الجزائر الاستقلالي وعدم الانحيازي في السياسة الخارجية، وباعوا أو صفّوا مصالح البلاد الاستراتيجية والجيوسياسية من أجل الحصول على حماية فرنسا والولايات المتحدة، أيْ قايضوا مصالح الوطن بحصانتهم وبقاء النظام: الولوج إلى حقول النفط وتوقيع معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية والوعد بالتطبيع مع الكيان الصهيوني. لو عَلِمَ مؤسسو سياسة الجزائر الخارجية أن بلادهم ستشارك في مناورات عسكرية مع حلف شمال الأطلسي، وبعضها تضم إسرائيل، لصُدموا وانقلبوا في قبورهم. شهدت عُهَد بوتفليقة تنازلات أكثر انحرافًا لتعزيز أمن النظام على حساب الأمن القومي: تبديد سيادة الدولة لمساعدة حروب أمريكا وفرنسا على الإرهاب، والموافقة على وجود مقرّات وقوات مخابراتية غربية في البلاد، وفتح المجال الجوي “غير المشروط وغير المحدود” للجيش الفرنسي. كما شهد الربيع العربي سقوطًا مدوٍّ للدبلوماسية الجزائرية، منها الانسحاب الأحمق من شؤون ليبيا على سبيل المثال، بالإضافة إلى التحالفات مع الديكتاتوريات الإقليمية المصمَّمة أساسًا لدعم بعضها البعض وإحباط التطلّعات الديمقراطية لشعوب المنطقة. لم يسبق لوضع الجزائر الدولي والإقليمي أن يضعف إلى هذا الحدّ.
وقد شاهدنا نفس الارتكاس في السعي للحصول على دعم أجنبي لتعزيز أمن النظام في بداية انتفاضة 22 فبراير 2019، الأمر الذي نددّ به الحراك بشعار “عيب عليكم الاستقواء بالخارج”.
على العكس من ذلك، فإنّ الجزائريين الذين يطالبون بتغيير جذري في النظام لم يدعوا أبدًا لدعمٍ أو تدخّلٍ أجنبي. على عكس التجارب الأخرى في المنطقة، حتى في ذروة قمع النظام، كان الجزائريون في الحراك مصممين على أنهم يرفضون أيّ تدخّل في شؤون الجزائر الداخلية. هذا الموقف الثابت لا يعكس وطنيتهم الوطيدة فحسب، لكن أيضًا ارتيابهم ويقظتهم الجماعية تجاه التدخّل الأجنبي، خاصة في منطقتنا. لقد التزم الجزائريون في الحراك بصرامة باللاعنف للحفاظ على دماء إخوانهم، لكن أيضًا لحماية بلدهم وجيشهم من التدخّل الأجنبي، لأنهم يعلمون أنّ القانون الدولي الإنساني يمكن أن يُساء استخدامه من قِبل القوى الغربية لتحقيق أطماعهم الجيوسياسية الخفية المحظورة بموجب القانون الدولي. ولا يرغب الجزائريون في استبدال التبعية للديكتاتورية بالتبعية “للمنقذ” الأجنبي. إنهم يعلمون أنّ الحرية والديمقراطية ليستا هدايا تُنزلها مظلات القوى الأجنبية، لكنهما حالتان في وجدانهم. والحراك يعلّم عِلمَ اليقين أنّ الإطاحة الأجنبية لديكتاتور لا يحرّر الشعب، فهي تدمّر المستبدّ لكنها لا تحرّر المستضعفين. ما يحرّر المستضعفين داخليًا هو نضالهم.
أكيدٌ أنه خلال الانتقال الديمقراطي وبعد ذلك، أيّ حكومة منتخَبة في انتخابات حرّة ونزيهة ستعكس الإرادة الشعبية، وبالتالي لا يمكن أن تسعى إلى تعريض أمن البلاد الخارجي للخطر. على العكس من ذلك، سينتظر منها الشعب أن تُحيي تراثنا الدبلوماسي، من خلال دبلوماسية مستقلّة ونشطة وخلاقة تدافع بشراسة عن مصالحنا الاستراتيجية والجيوسياسية والاقتصادية بالإضافة إلى مصالح منطقتنا وقارّتنا.
9- الجيش الشعبي الوطني والتاريخ
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
لِنختم هذه الرسالة بالنقطة التاسعة والأخيرة حول التاريخ. فالضباط الناجحون هم طلابٌ حريصون على دراسة نظام الإنذار المبكر المعروف باسم التاريخ.
إنّ الجزائر ليست في محاولتها الأولى لإقامة ديمقراطية. فقد أطاحت قيادة الجيش بأوّل حكومة جزائرية مستقلة في 1962. كما مرّت الجزائر بتحوّل ديمقراطي، بين عامي 1989 و1992، كان رائدًا في المنطقة وسبق دَمَقْرَطَة أوروبا الشرقية. لكن العسكر أجهضوا الانتقال الديمقراطي وأغرقوا البلاد في حرب دموية. لقد غمر النظام الهجين، الذي أقامه العسكر على أنقاض هذه الحرب، البلاد تحت موجة عارمة من الفساد السياسي والمالي والمعنوي، وسوء الإدارة، وجنون العظمة في سوء استخدام السلطة، وتقليص الحريات، الخ. وعندما سعت القوى غير الدستورية، التي كانت مختبئة وراء المحنّط، لاستخدامه لولاية خامسة، أصبحت البلاد مسخرة عالمية، وانتفضت الجزائر في أكبر حراك وطني عرفته منذ استقلالها.
جمع هذا الحراك المتواصل بين جميع الأجيال والطبقات الاجتماعية والمهن والمناطق، والاتجاهات السياسية، والأيديولوجيات، والأجناس والأعمار معًا، وبطريقة سلمية وحازمة، في المطالبة بتغيير جذري في إدارة البلد، من خلال تحوّل ديمقراطي. أمّا قيادة الجيش فقد استخدمت في البداية الحراك لإضفاء الشرعية على إسقاطها لبوتفليقة وعصاباته. ثمّ، بدلًا من الشروع في انتقال ديمقراطي لردّ السيادة المصادرة للشعب وبناء الدولة، لجأت قيادة الجيش إلى توظيف ذراعها المخابراتية لمضايقة الحراك جنبًا إلى جنبٍ مع فرض، من خلال الإكراه والتزوير، رئيسٍ مستعارٍ تتمثّل مهمّته الأساسية في مواكبة اصطناع واجهة جديدة للتعددية الحزبية. فبدلًا من استيعاب التحوّلات العميقة في المجتمع وتطلّعاته، وبدلًا من اغتنام هذه اللحظة التاريخية الفارقة للتكفير عن خطاياها في التحوّل الديمقراطي السابق، تسعى قيادة الجيش المسنّة إلى إفساد هذه الفرصة الجديدة للانتقال إلى حكم ديمقراطي.
تتغاضى هذه القيادة أيضًا عن الحركة التاريخية الأوسع التي يندرج فيها تاريخ الجزائر الحديث. فمنذ القرن التاسع عشر، حدثت عشرات التحوّلات الديمقراطية في شكل موجات زمنية في جميع أنحاء العالم، مع طفرات من التقدّم تليها انتكاسات، بالمدّ والجزر. ويرى المؤرخون وعلماء السياسة أننا الآن في خضم الموجة الثالثة (أو بداية الرابعة) من الدَمَقْرَطة، التي أثّرت على جميع القارات بدرجات متفاوتة، كما أنّ الأنظمة العسكرية والسلطوية في تراجع في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في أفريقيا. لقد كنّا سابقًا نموذجًا لإنهاء الاستعمار في أفريقيا، لكننا الآن أصبحنا دولة في طريق الفشل لا يأبه بها أحد، وتحوّلنا إلى النموذج المضاد الذي يتعيّن معاكسته. لماذا تسير جيوش السنغال وبوتسوانا وموزمبيق وناميبيا وزامبيا نحو المستقبل في حين أنّ قيادة جيشنا عالقةٌ في ماضٍ استعماريٍ أو استعماريٍ جديد أو حتى إنكشاري؟
قال الفريق دوايت أيزنهاور ذات مرة: “لا يستلقي الحكيم أو الشجاع على سكة التاريخ لينتظر أن يسحقه قطار المستقبل”. لكن القيادة المسنّة لجيشنا، بعد لحظة قصيرة من التردّد، اختارت أن تستمرّ في نفس الموقف، لتكرار الخطأ نفسه، وبالتالي التجديف ضد تيار التاريخ.
يعرض عالم النفس العسكري نورمان ديكسون، في كتابه الشهير بعنوان “سيكولوجية عدم الكفاءة العسكرية”، تحليلات شاملة حول ما يكمن وراء العديد من الكوارث العسكرية البريطانية. وبعدما استبعد ديكسون الفكرة المعتادة القديمة القائلة بأنّ العجز العسكري يرجع إلى الغباء، قال أنّ ما وجده هو أنّ قيادة الجيش كانت تميل إلى اختيار أشخاص لهم نفس العيوب النفسية، مثل الغرور الذي يقلّل من شأن العدو، وعدم القدرة على التعلّم من التجربة، والنفور من التقنيات أو التكتيكات الجديدة، والنفور من الاستطلاع والاستخبار. كما عاين ديكسون الشجاعة الجسدية مع القليل من الشجاعة الأخلاقية، والسلبية والتردّد، وكذا الميل إلى لوم الآخرين. أعطى ديكسون الضباط المسنّين نصيحة تناسب القيادة الشائخة لجيشنا بشكل خاص، حين قال: “مع تقدّمك في السنّ، حاول ألا تخاف من الأفكار الجديدة. قد تكون الأفكار الجديدة أو المبدعة سيئة أو جيدة، فالرجل الذكي والمنفتح قادرٌ على دحض فكرة سيئة بحجج منطقية، أما الذين انضمرت أدمغتهم فيلجؤون إلى شعارات لا معنى لها، والسخرية، وفي النهاية إلى الغضب في وجه أيّ شيء جديد”.
أخي في الجيش الوطني الشعبي،
إنّ الجنود الحقيقيين يجسّدون ثلاثة فضائل: الواجب والولاء والوطنية. والواجب الأساسي للجندي هو حماية أمن ومصالح بلده. أمّا ولاؤه الأعلى فهو لبلده قبل أن يكون لقادته. ولا تتعلّق الوطنية بحماية أرض الأجداد بقدر ما تتعلّق بالحفاظ على أرض الأحفاد.
إنّ ما يحدث اليوم يوفّر لك فرصة جديدة للارتقاء إلى طموحات الشعب الجزائري. فلا تخف من التغيير. شعبُنا يريد تغييرًا جذريًا للنظام السياسي، مع الجيش وليس ضدّه.
إعلم أخي أنّ أبطال الجيوش الذين يتذكّرهم التاريخ هم الذين قاموا بالدفاع عن شعبهم بدلًا من قمعه. وأنت تُحافظ على وحدة الجيش، هل ستوافق أخيرًا، بدون كمين ودون عنف، على السماح للجزائر بكتابة صفحة جديدة مشرقة في تاريخها؟
هل لديك الشجاعة الأخلاقية لأن تثق أخيرًا بشعبك وأن تخطو خطوة نحو المستقبل؟
مواطن جزائري حريص على أمن وقوّة ووحدة بلده
عضو في حركة رشاد
الجزائر، 20 فبراير 2020