ليس العلمانيون فقط من يطعن في ابن باديس
حتى “المدخلية” غزاة الأعرض بالأوبئة قد نالوا منه، وفي الرد على ناطق باسمهم ألفت كتاب الرد النفيس على الطاعن في العلامة ابن باديس سنة 2004، وطبعت قطعة منه سنة 2006، ثم طبعته كاملا سنة 2008 وهذه مقدمته
أما بعد: فإن الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى علم من أعلام الدين وأحد رجاله المصلحين، عالم قد عرف قدره ومنزلته المؤالف والمخالف، وشهد له بالفضل الكبير والصغير ، وتظافرت كتابات الناس حوله على أنه رائد النهضة في الجزائر ومجدد الدين فيها، وباعث السنة وقامع البدعة ، وناشر المنهج السلفي في العصر الحديث، وأنه القائد الفعلي للجهاد الذي به تحررت الجزائر ، وإنه وإن كان هذا الأخير حدث بعد وفاته ، إلا أنهم شهدوا بأنه هو من وضع أسسه فحرر عقول الناس من قيود الطرقيين، وبث علم الكتاب والسنة الذي به تحيا القلوب وتعلو الهمم . وإنه من واجبنا نحوه باعتباره أحد علماء الأمة ومصلحيها أن نجله ونعظمه ( )، وأن ننشر فضائله ليقتدى بها، وأن نبرز آثاره الدالة على اتباعه للسنة، نشرا للحق وهداية للخلق ، خاصة الناس المحبين والمجلين له ، وفوق كل ذلك أن نعترف له بما هو ثابت له من الفضل علينا وعلى الأمة، ذلك أنا بشعاع ضياء أمثاله تبصرنا وباقتفاء واضح رسومهم تميزنا ، وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا، وما مثلهم ومثلنا إلا كما ذكر أبو عمرو بن العلاء :«ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال» ( ).
هذا وكما هو شأن جميع العلماء المتبعين لسبيل الأنبياء ، فقد ابتلي الشيخ ابن باديس ببعض الطرقية والملاحدة ممن يطعن فيه ويتتبع عثراته أو يولدها ، فلم يؤثر فيه ذلك ، ولقد أبان عن جهله أو مرض قلبه كل من تعرض له ، ولقد مر زمن أضحى فيه الملاحدة يستحيون من أن يجهروا بعدائهم له فضلا عن غيرهم ، حتى جاءت السنوات العجاف التي مرت بها البلاد فانقلبت فيها الموازين ، وارتفع قرن الطرقية وقويت العلمانية ، فتجدد التعريض منهم بابن باديس وعلى تخوف وتوجس وحذر، ذلك أنهم يرون في محاربة الرمز حربا لدعوته ، وفي زمن هذا التحوُّل الذي كان يستدعي تجمع ورثة الدعوة الإسلامية الصحيحة لدفع هذه الموجة، التي تبغي ضرب الإسلام من خلال تحطيم رموزه ، ظهر في طريق الدعوة جهلة من نوع جديد، هَمُّهُم تتبع عورات المسلمين وصد الناس عن الدعاة المصلحين، وكان من آثار هذه الطائفة الباغية الغاوية رسالة كتب على ظهرها » الرد الوافي على من زعم أن ابن باديس سلفي « وهي عبارة عن تقرير حاول كاتبه أن يجمع فيه ما استطاع إليه سبيلا من أخطاء للشيخ العلامة ابن باديس، حتى يُعارض أهل العلم الذين يقولون إن ابن باديس من علماء السنة سلفي في عقيدته ومنهجه، ولو كان أهل هذه الطائفة على السنة وطريق السلف علما وعملا لعلموا أن من السنة توقير العلماء، وأن من علامة أهل البدع الوقيعة فيهم( ).
ولقد ترددت كثيرا في كتابة هذا الرد على ذلك التقرير المذكور، خاصة وأن كاتبه قد كشف عن مستواه العلمي الهابط الذي لا يؤهله للكتابة فيما هو أدنى من هذه القضية من مسائل الدين، ثم إني رجحت جانب الكتابة بعد أن شجعني على ذلك بعض الأفاضل، ومعتمدا مثل ما قرر مسلم في مقدمة صحيحه:« وقد تكلم بعض منتحلي (المنهج) من أهل عصرنا (في تبديع أهل العلم وتضليلهم) بقول لو ضربنا عن حكايته، وذكر فساده صفحا لكان رأيا متينا ومذهبا صحيحا. إذ الإعراض عن القول المطرَح أحرى لإماتته، وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيها للجهال عليه. غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء. رأينا الكشف عن فساد قوله، ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد، أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء الله »( ). ومستأنسا بقول العلامة الإبراهيمي:» تحامل المتحاملين على الجمعية والجريدة بقصد الشغب وإثارة الكوامن الدفينة فلا تتشاغلوا بهم ولا تضيعوا أوقاتكم في الرد عليهم إلا أن يكون في الرد عليهم درء لضرر محقق«( ).
وقد حرصت أن أجعل هذا البحث ردا أجمع فيه بين الدفاع عن الشيخ ضد شانئيه، وبين التأصيل العلمي الذي يقمع به كل غزاة الأعراض بالأمراض في هذا الزمان، إذ تَصَرُّف هذا الطاعن -كما سبقت الإشارة إليه- ليس إلا ثمرة وتطبيقا عمليا لفكر جديد ومنهج دخيل أريد له الانتشار ليشوه صورة الدعوة السلفية، وينفر الناس عنها ويضعف حجة أهلها وليثخنها بالانقسامات والاختلافات، وقد كان لأعداء الإسلام ما أرادوه فعلا، وما ساعدهم على ذلك إلا بعدنا عن فهم حقيقة منهج السلف الصالح في الدعوة إلى الله وفي التعامل مع المخالفين، ولاعتبارات أخرى يمكن تلخيصها في عدم تجسد فكرة التصفية والتربية في واقع أكثرنا. ولقد كان من الأمور التي حفزتني على الكتابة أيضا عزمي منذ مدة على كتابة بحث جامع لأصول الدعوة السلفية مفصلة على لسان الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى ، بعد أن كتبت من قبل بحثين حول شخصيته العلمية لم أستوعب فيها جميع أصول دعوته.
د. محمد حاج عيسى