وقفة مع دلالات يوم العلم

وقفة مع دلالات يوم العلم
17/4/2020
◙ من الحِكَم النافعة التي تعلمتها في طفولتي، حكمة «العلم نور والجهل ظلام». ورغم اجتهاد المعلم لتبسيط المعنى العميق لهذه الحكمة، فإنني لم أدرك مغزاها إلاّ في سنّ الرشد. وهناك الكثير من المتوهّمين الذين يظنون أنهم أدركوا المغزى، والواقع غير ذلك، إذ لا معنى لهذه الحكمة ما لم تؤثر في سلوك الفرد، فالعبرة في ترجمة الحكمة إلى واقع معيش، يغيّر ما في النّفس وفي السلوك من جهل وجمود وانحطاط وأمّية معرفية.
◙ مازلت أتذكّر بعض مظاهر الشعوذة التي نشأنا عليها نحن الأطفال في القرية، وكنّا نمارسها بمباركة بعض الأمّهات والآباء والأقارب، منها على سبيل المثال تقبيل جدران “القبة” التي احتوت قبر مؤسّس القرية الذي عاش في القرن 15 الميلادي وهو من الأشراف المرابطين. كنّا نحن الأطفال مجبرين على تقبيل جدرانها كلّما مررنا بالحارة التي تتواجد بها القبة. وكانت أمّي رحمها الله تقدّم لي من حين لآخر حُفنة من تراب هذا القبر لأكله من باب التبرك ببركة الولي الصالح. كما أن انعدام التطبيب في قريتنا جعل تعليق “الحرز” الذي يُعدّه إمام القرية، هو الوسيلة الشائعة للعلاج والوقاية من الأمراض ومن سوء العين.
◙ لم أفهم وأنا طفل غضّ نضِر تزامنت طفولتي مع انفجار حرب التحرير، لماذا تغلّب علينا الكفار ونحن مسلمون، وقد رسّخ الكبار في قلوب الصغار أن المسلمين هم خير أمّة أخرجت للناس؟ لم أفهم لماذا كان “الرومي” الكافر فَارِهًا في مظهره أنيقا في لباسه،يأكل ما لذّ وطاب، ويركب السيارات الفاخرة؟ ونحن المسلمين محرومون من كل ذلك؟ لم أفهم لماذا دمّر الكافر بطائراته قريتنا نحن المسلمين؟ ثم لماذا أمعن الجيش الفرنسي في إذلالنا، بحشر من بقي حيّا من أهل قريتنا في محتشد رهيب حاز على أعلى درجات الجحيم؟
◙ وعندما أوقفت الحرب أوزارها، تمكّنت من الذهاب إلى المدرسة ولو في سنّ متأخرة نسبيا، وأدركت بفضل التحصيل العلمي معنى« العلم نور والجهل ظلام»، أدركت أن التخلف منجب للجهل، والعلم منجب للرقي. ومن فتوحات العلم في نفسي أنني كنت استفتي عقلي في بعض العادات الملوِّثة للعقيدة الطاهرة، وصرتُ شيئا فشيئا أميّز بين الدين الصحيح وبين التديّن السقيم الذي ضرب أطنابه في المجتمع بفعل انتشار الجهل وتراجع العلم.
◙ لقد ظهرت الحركة الإصلاحية الفكرية لتخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم، فأسّست – رغم قلة ذات اليد- المدارسَ، وأنشأت الصحافة،وشيّدت النوادي الثقافية،وبعثت فروع الكشافة الإسلامية وجمعيات موسيقية وفرقا رياضية من أجل تربية النشء وتكوينه وتنويره ثم تثويره ضد الاستكانة للاستعمار. وباختصار لم ير رواد الحركة الإصلاحية غضاضة في اقتباس أسباب النهضة من الغرب القويّ، بعد أن أدركوا أن قوة الغرب في العلم، وضعف المسلمين في الجهل، ولأن الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقّ الناس بها.
◙ ومن مقاصد الاحتفال بيوم العلم، أن نذكّر الناشئة أن المقاومة الفكرية التي قادتها الحركة الإصلاحية بصفة عامة وجمعية العلماء المسلمين بصفة خاصة، كانت تهدف إلى بعث الشخصية الجزائرية المسلمة بكل مكوّناتها(الدين واللغة والتاريخ)، وإلى بناء الجسور بين الشباب وبين تاريخ أجدادهم العتيد الذي يزخر بالأمجاد والبطولات يستمدون منها دروسا وعبرا في سعيهم إلى النضال الوطني التحرري، وإلى تطهير العقيدة الإسلامية من مظاهر الشعوذة التي لوّثت الإسلام الصحيح، وإلى تجاوز التديّن السقيم الذي ركبه الاستعمار وحوّله إلى مطيّة لنشر اليأس في النفوس عن طريق إصدار فتاوى توهم الناس أن الاستعمار الفرنسي قضاء وقدر لا يمكن تجنبه!
◙ هذا ومن الإنصاف أن أشير إلى المؤرخين الجزائريين(علي مرّاد/ محفوظ قداش/أبو القاسم سعد الله) والمؤرخين الفرنسيين (شارل روبير أجيرون/ شارل أندري جوليان/ بن يمين ستورا) الذين أكدوا أن النشاط التعليمي والإعلامي والفكري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، كان يرسم معالم الطريق نحو الوطنية. وفي الأخير أشير إلى مقال عبد الحميد بن باديس المنشور في صائفة 1937م بعنوان :«هل آن أوان اليأس من فرنسا؟» أكّد فيه أن ساعة اليأس من فرنسا قد دقّت، وهذه فقرة منه:« أيّها الشعب الجزائري! أيّها الشعب المسلم! أيّها الشعب العربيّ الأبيّ! حذار من الذين يمنوّنك ويخدعونك، حذار من الذين يأتونك بوَحْي من غير نفسك وضميرك، ومن غير تاريخك وقوميتك، ومن غير دينك وملّتك، وأبطال دينك وملّتك. استوح الإسلام ثم استوح تاريخك ثم استوح قلبك.». والخلاصة أن المقاومة الفكرية بقيادة العلماء المصلحين، والمقاومة السياسية بقيادة السياسيين الوطنيين، هما وجهان لنضال الجزائريين الذي تُوّج بثورة مطلع نوفمبر 1954 التي كُلّلت بالنصر، وكانت تاجا لملحمة المقاومة الشعبية التي انطلقت منذ أن دنّس الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر في سيدي فرج في جوان 1830م. ولا يفوتني بهذه المناسبة التاريخية أن أذكّر أن بناء المستقبل الديمقراطي المنشود يمرّ حتما عبر امتلاك ناصية العلم والمعرفة والتكنولوجية.
المؤرخ محمد أرزقي فراد