نظام السلطة في الجزائر، مراحله وإكراهاته
يمكن فهم، بل حتى تفسير، قضية الجنرال وسيني بوعزة، من خلال التحليل النسقي الذي يقوم على مسلمة مفادها أن الفاعل الذي لا يلتزم بقواعد النظام؛ يقوم النظام بالتخلص منه. هكذا هي جدلية النسق (=النظام) والفاعل التي تُهيكل العلاقات بين المسؤولين، وبين مؤسسات السلطة في الجزائر، والتي توجد قيادة الأركان في مركزها. هذه الأخيرة هي قلب النظام، وتذكرنا سلطتها بمجلس الشيوخ الروماني الذي كان يتكون من ناخبين كبار. علاوة على تمتع النظام بعقلانيته الخاصة فإن له تاريخا رسم له مختلف مراحله. وهو يستمد انسجامه من مبدئه المؤسس: أسبقية العسكري على المدني. كانت مرحلة حرب التحرير بالنسبة للنظام بمثابة فترة الحمل، ليولد فعليا مع انقلاب جوان 1965، الذي رمى ببن بلة، أول رئيس للجزائر المستقلة، إلى السجن. لقد رفض بن بلة التخلي عن السلطة الفعلية التي كان العقيد الهواري بومدين، وزير الدفاع، يريد الاستيلاء عليها. بومدين هو مؤسس النظام الحالي القائم على احتكار الشرعية السياسية من طرف الجيش الذي يقوم باستزلام مدنيين يُكلّفهم بتسيير الإدارة الحكومية.
ميلاد ونمو نظام: 1965-1979
تشكل النظام الحالي الذي يسعى الحراك إلى تفكيكه، مع انقلاب 1965 الذي كرس بومدين كزعيم سياسي وعسكري وصاحب سلطة مطلقة في الجيش. كانت مرجعية بومدين السياسية هي الشرعية التاريخية لجيش التحرير، والذي عمل جاهدا في احتكاره من أجل التمكين لسلطته. رغم هذا، لم يكن بومدين يثق في الضباط المنحدرين من جيش التحرير، حيث قام بتحييد عدد كبير منهم، مباشرة بعد المحاولة الانقلابية التي قادها العقيد الطاهر زبيري (1967) الذي عارض ترقية ضباط فارين من الجيش الفرنسي إلى رتبة رائد. كان موقف بومدين بخصوص هذا الموضوع مخالفا تماما لموقف زبيري، لقد رأي في هؤلاء الضباط مجرد تقنيين لا يتمتعون بشرعية سياسية، ولا قدرة لهم على منافسته أو الانقلاب على سلطته. بعد فشل الانقلاب الذي قاده زبيري وهروبه إلى الخارج، قام بومدين بوضع يده على منصبه كقائد للأركان، ليضيفه إلى قائمة المناصب التي كان يتمتع بها من قبل: وزير الدفاع، رئيس الدولة، رئيس الحكومة ورئيس مجلس الثورة، المجسد للسيادة الوطنية. على هذا الأساس، كان بومدين يوكل سلطته لمسؤولي الحزب الواحد الذين عينهم. ليتمكن في بضع سنوات من بناء نظام مركزي، مهيكل حول شخصه وشخصيته الكاريزمية.
إضافة إلى هذا، قام بتزييت النظام بالأيديولوجية الشعبوية التي كان هو شخصيا تجسيدها الفعلي، بحيث منع عن أي كان الحديث باسم الشعب. اعتبر أنّ كونه مكلفا بمهمة تاريخية –تنمية البلاد-، يُبرر حيازته كل السلطات بين يديه، مانعا في موازاة ذلك ممارسة السياسة خارج أطر الحزب الواحد. لقد كانت الأيديولوجية الشعبوية والأمن العسكري وحدهما كفيلان بردع أي نقاش أفكار، وكبت كل تعبير سياسي في الفضاء العام. نجحت عملية تأميم الموارد الطبيعية، الثورة الزراعية، التصنيع، التمدرس الواسع ومجانية العلاج، في رسم صورة عن بومدين كرمز للكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية. لم يكن بومدين يريد أصلا أن يكون رئيسا منتخبا؛ كان يريد أن يكون هو الأمير العادل الذي يحكم باسم الشهداء. الدولة بالنسبة له هي مجرد إدارة في خدمة الشعب، يراقبها ويحكمها الجيش. كما كان يزدري القانون، ويعتبره واحدا من اختراعات البرجوازية لحماية وتبرير مصالحها. لقد استمر النظام بعد وفاته، في ديسمبر 1978، لكن من دون الطموح اليوتوبي الذي كان يحمس الجماهير، ومن دون الكاريزما التي تعطي الانطباع للجموع بأن هناك من يمثلها في أعلى هرم الدولة.
مرحلة الصراعات بين الرئيس والقيادة العسكرية: 1979-1999
جرى في جانفي 1979 تعيين خليفة بومدين من خارج الحزب والدستور. حُسمت المسألة في اجتماع مغلق جرى داخل مدرسة عسكرية، حضره عشرة عقداء. وتقرر اختيار العقيد الشاذلي بن جديد –الغائب عن الاجتماع- لمنصب رئيس الدولة على أساس معيار بعيد كل البعد عن أن يكون شكل من أشكال الثناء: الضابط الأقدم في الرتبة الأعلى. يبين اختيار الشاذلي، وهو الضابط الخجول والمتواري، أنّ النظام لم يكن يريد قائدا في مستوى مؤسسه. هنا تحديدا، ظهر الفصل بين السلطة الشكلية للرئيس ووزراءه من جهة، والسلطة الفعلية التي تعينهم وتمنحهم السلطة من جهة أخرى. بتحوله إلى رئيس مدني، فقد الشاذلي حصته من السلطة الفعلية التي استمر زملاءه أصحاب الزي العسكري في حيازتها. ولتعويض هذه الخسارة قام بتعيين العقيد العربي بلخير، الذي سيصبح لاحقا عميدا، في منصب حساس هو مدير ديوان الرئاسة. لكن هذا الاخير قام في جانفي 1992 بخيانة من عينه، ليلتحق بزمرة الجنرالات الذين اشترطوا على الرئيس تقديم استقالته لأنه أدبى استعداده -بعد الانتخابات التشريعية في ديسمبر 1991- مشاركة السلطة مع وزير أول اسلامي. من سخرية القدر أن الجنرالات الأكثر إصرارا على مواجهة الشاذلي، ضابط جيش التحرير، هم من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي. تمكن هؤلاء، خلال التسعينيات وبعدها، من السيطرة على القيادة العسكرية عبر احتلال مناصب عليا: خالد نزار وزيرا للدفاع، محمد العماري قائد أعلى لأركان الجيش، فضيل الشريف قائدا العمليات البرية، الخ. لكنهم بقوا من دون شرعية تاريخية تخولهم الوصول إلى منصب رئيس الدولة.
تم بعد ذلك استخلاف الشاذلي ببوضياف الذي يتمتع بشرعية تاريخية، أراد الجنرالات وضعها في مقابل الشرعية الانتخابية التي كان ينادي الاسلاميون. قَبِل بوضياف بمقترح تسيير الدولة التي يعتبر نفسه أحد أباءها بوصفه واحدا من الآباء المؤسسين لجبهة التحرير. لكنه لم يكن هو أب النظام، الذي ولد بعد لجوئه إلى الخارج، ولم يكن يتحكم في منطق اشتغاله. سيدفع حياته ثمنا لمحاولة تغيير النظام دون موافقة الفاعلين الرئيسيين فيه والذين أراد تنحيتهم. سيُغتال الرجل الثوري من طرف عسكري شاب ينتمي للجيش الذي ساهم هو في تأسيسه. بعد فترة مؤقتة أشرف عليها علي كافي، قام الجنرالات بتعيين واحد منهم، الجنرال ليامين زروال، لشغل منصب رئيس الدولة. معرفة الرجل بميزان القوى داخل القيادة العسكرية، دفعته لمحاولة وضع يده على مصلحة الأمن (DRS) عبر تعيين أحد المقربين منه مكان الجنرال توفيق مدين. لكن الشخص الذي كان مخططا له شغل هذا المنصب، توفي إثر حادث مروري في الصحراء، حيث تسير القليل من السيارات. لحماية نفسه، ولمنع القيادة العسكرية من تقليص صلاحياته الدستورية، قام الرئيس زروال بتعيين أحد أوفى أصدقاءه، الجنرال بتشين، كوزير مستشار في رئاسة الجمهورية. لكنه ورغم استماتة هذا الأخير في المقاومة، فلقد اضطر الرئيس إلى رمي المنشفة واعلان التنحي عن منصبه بعد الضربات المتتالية التي تلقاها من الجنرالين التوفيق واسماعين، اللذان كانا يعارضان اتصالاته مع مسؤولي الفيس. إدراك زروال لعدم قدرته فرض خطته للخروج من الأزمة، دفعه لتقديم استقالته في مرحلة شابها الكثير من التوتر وشهدت مقتل المئات من القرويين على أبواب العاصمة. في 1999 انتهت المرحلة الثانية التي بدأت في 1979، والتي ميزتها الصراعات بين الجنرالات والرئاسة، وكانت حصيلتها رئيسين دُفعا الى الاستقالة (الشاذلي وزروال) وثالث تم اغتياله (بوضياف).
انتصار السلطة الفعلية: 1999-2019
شهدت المرحلة الثالثة (1999-2019) انطلاقتها مع تعيين بوتفليقة، الذي اختير بدعوى معرفته بالعلاقات الدولية في مرحلة كانت تعاني فيها الجزائر من عزلة ديبلوماسية. أوهمه العسكر بأنه سيكون رئيسا كامل الصلاحيات وليس مجرد ثلاثة أرباع رئيس، ونجحوا في ترويضه من أجل إحكام سيطرتهم النهائية على الرئاسة. عكس ما تروج له دكاكين الدعاية، لم يكن بوتفليقة، غريب الأطوار، يتمتع بأي سلطة خِلاف سلطة إثراء زبانيته وسرقة المال العام. عرفت ميزانية الدولة بدء من سنوات حكمه الاولى فائضا سيتزايد سنة بعد أخرى بفعل الارتفاع المتواصل لأسعار البترول، الأمر الذي سمح بإبرام صفقات عمومية بمبالغ معتبرة. ليتمكن أصدقاء الرئيس والمستفيدين من حماية الجنرالات من اقتطاع عمولات وصلت إلى ملايين الدولارات. كان أخ الرئيس الشاغل لمنصب مستشار في رئاسة الجمهورية، محطّ تملق وتودد أفراد متعطشين لارتقاء اجتماعي سريع. تولت الصحافة تقديمه بوصفه ثاني أهم شخصية سياسية في البلد، في حين لم يكن ينتمي في الواقع إلا إلى هامش النظام. بلغ النظام مع بوتفليقة، سرعته القصوى وأعلى درجات الفعالية، بفضل ثروة نقدية افتراضية قادرة على الخفض من منسوب الاحتجاج الاجتماعي. لقد فرض الجنرالات سلطتهم، وصار بمقدورهم تجديد عهدات رئيس مُهتم بأناه أكثر من اهتمامه بأوضاع البلد. في الوقت الذي كانت فيه الكوليرا تقتل المواطنين على مشارف العاصمة، في سبتمبر 2018، كان التلفزيون الرسمي يذيع صور الطائرة التي أقلت الرئيس إلى سويسرا حيث اعتاد العلاج هناك.
لقد ساهم كل من الانتصار العسكري على الاسلاميين الذي توج باتفاق الدياراس-الأيياس في 1999، والارتفاع الكبير لأسعار البترول بعد 2001، ساهم في تقوية النظام وجعله في منأى عن الصعاب الآتية من الاسلاميين، أو من الاحتجاجات الاجتماعية، أو من الصراع بين مختلف أجهزة الأمن. لكنه وفي سنة 2013، وعلى إثر هجوم تيقنتورين، سيخرج الصراع بين قيادة الأركان والدياراس إلى العلن. شكّل هذا الهجوم خطرا كبيرا على النظام بحكم استهدافه للمصدر الأول للعملة الصعبة في البلد. عابت قيادة الأركان على الدياراس عجزه عن حماية المنشآت الاقتصادية الاستراتيجية، برغم حيازته لعدد كبير من الضباط وتمتعه بميزانية غير محدودة. مثّل هذا الهجوم الارهابي فرصة لوضع حد نهائي للقوة السياسية للدياراس ولقائدها الجنرال توفيق. لقد تمكن هذا الأخير بالفعل من اكتساب وزن سياسي معتبر، جعله مستقلا عن باقي الجنرالات لجهة مكافحة الاسلاميين خلال عقد التسعينيات. بين 1995 و2015، كان الجزء الأكبر من السلطة بين يدي توفيق مدين والجنرالات المحيطين به. لقد كان يمارس سلطة على المجتمع، على الدولة وعلى العسكريين الذين صاروا يخافون تهمة التعاطف مع الاسلاميين، ولا مجال لأي ترقية إلى الرتب العليا من دون الضوء الأخضر للدياراس. كان عقداء ورادة الوحدات العملياتية تحت رحمة تقرير يكتبه ملازم أول من الدياراس. من ناحية أخرى، يحتل ضباط الدياراس العاملين أيضا وسط المدنيين، بما فيهم رجال الأعمال والولاة، مواقع استراتيجية ضمن سلسلة توزيع ونهب الريع. وفي الوقت الذي تسكن فيه عائلة العقيد المنتمي للوحدة العملياتية شقة ضيقة في مستغانم أو قالمة، يمتلك ملازم أول الدياراس العديد من المشاريع التجارية، شقتين وقطعة أرض في إحدى المدن الكبرى.
استشعار قيادة الأركان لهذا الغضب لدى ضباط الفرق القتالية دفعها لاستغلال الفرصة التي أتاحتها أزمة تيقنتورين من أجل فصل الأقسام الثلاثة للدياراس، وتحويل كل واحدة منها إلى مديريات مستقلة عن بعضها البعض. أولى هذه المديريات هي المديرية المركزية لأمن الجيش (DCSA)، المكلفة بحماية الثكنات من التأثيرات السياسية والايديولوجية. كما تسهر أيضا على احترام كل المستخدمين العسكريين لسلطة قيادة الأركان. وتتكفل المديرية بارسال تقارير إلى القيادة بخصوص سلوكيات العسكر المنافية لتوجيهات قيادة الأركان. تنتهي الاعتقالات التي تقودها هذه المديرية دائما إلى المحكمة العسكرية. إنه جهاز الأمن الأكثر قوة، فوق كل أجهزة الجيش والدولة. القسم الثاني هو مديرية التوثيق والأمن الخارجي (DDSE)، وهي الجهاز الكلاسيكي للجوسسة ومكافحة الجوسسة. تشرف على مراقبة السفارات ونشاطات الأجهزة الاجنبية التي من شأنها الإضرار بمصلحة الوطن. لا تهتم هذه المديرية بالمواطنين إلا في حال تورطهم في قضايا جوسسة لمصلحة بلدان أجنبية. القسم الثالث هو المديرية المركزية للأمن الداخلي (DCSI) التي تشرف على مهمة حرجة هي تأطير “المجتمع المدني”: الأحزاب، الصحافة، النقابات، الخ. هذه المصلحة هي بمثابة شرطة سياسية، تدافع عن مصالح النظام وليس عن الوطن. مهمتها الأساسية هي خنق كل رأي سياسي من شأنه تهديد النظام، باستعمال الحيلة أو القمع. يشغّل هذا الجهاز لحسابه، اسلاميين مزيفين، نقابيين مزيفين، ديمقراطيين مزيفين، بربريستيين مزيفين، شيوعيين مزيفين…، من أجل إضعاف المعارضة ومنعها من التوحد حول مشاريع جامعة. إن هذا الجهاز غير شرعي بحكم مهمته الأساسية، وغير قانوني بحكم ممارساته الظالمة المنافية للدستور.
الأمر اللافت في إعادة الهيكلة التي تعرضت لها الدياراس في 2015، هو إلحاق المديرية المركزية للأمن الداخلي بالرئاسة. كان لزاما على المسؤول الأول على هذه المديرية حتى 2019، الجنرال بشير طرطاق، نزع البذلة العسكرية ليرتدي مكانها بدلة موظف سامي مدني يشغل مكتبا في الرئاسة. هل حقا بوتفليقة هو من قرر هذه الاصلاحات كما روجت لذلك الصحافة؟ على الأرجح لا، لأن وضعه الصحي لم يكن ليسمح له بإجراء تغييرات على هذه الدرجة من الأهمية في أجهزة الأمن. لا يمكن اعتبار توطين مديرية الأمن الداخلي في الرئاسة تغييرا كبيرا في ذاته، على اعتبار أن الرئاسة كانت دوما تابعة لوزارة الدفاع. تقوم الأخيرة بإرسال التوجيهات والأوامر إلى الأولى، التي تتكفل بتوزيعها على الوزارات المعنية، وكذا على الأفلان والأرندي في حال تعلق الأمر بتمرير مشروع قانون على المجلس الوطني الشعبي. يشتغل النظام وفق حلقة مغلقة على شكل جبل جليدي، حيث يصدر عن الجزء غير المرئي تدفقات تحرك الجزء المرئي. لقد استقر الجبل الجليدي بعد إعادة هيكلة الدياراس، وكان يستعد لتجديد عهدة بوتفليقة للمرة الخامسة رغم مرضه. كان لدى البعض شكوك حول هذا المسعى، متسائلين حول مدى قدرة بوتفليقة على تسيير البلد، لكنهم لم يدركوا أن النظام يشتغل من دون رئيس منذ وفاة بومدين. ومع ذلك أحبط الشارع رغبة النظام، وعبّر عن رفضه لرئيس دولة يعاني الشلل، يظهر على كرسي متحرك، وكثير السفر إلى الخارج بغرض التداوي في المستشفيات الأوروبية.
الحراك ضد النظام: 2019-??20
في 19 فيفري 2019، بخنشلة، إحدى المدن الداخلية للشرق الجزائري، يقوم مجموعة من الشباب بنزع صورة بوتفليقة العملاقة المعلقة على مقر البلدية ثم يدوسون عليها بأرجلهم. انتشرت صور وفيديوهات هذا المشهد على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي. الجمعة 22 فيفري، التحقت كل المدن لتطالب بإلغاء العهدة الخامسة. كانت هذه لحظة ولادة الحراك، الذي سيفسد حسابات النظام وفاعليه الذين لم يتوقعوا احتجاجا شعبيا بهذه القوة وهذا الحجم. انتاب قيادة الأركان الشك لبعض الوقت، اعتقدت أن من يقف وراء هذه الحركة الشعبية هم بعض قدامى عناصر الدياراس، المدفوعين بالرغبة في الانتقام. قام قائد الأركان، قايد صالح، الذي يحمل عيوب العسكري دون أن تكون له مميزات الجندي، بإحداث تغييرات عاجلة على رأس كل أجهزة الأمن، مستخلفا البعض بالبعض الآخر في جو يطبعه التسرع والخوف. لأول مرة، وجدت قيادة الأركان نفسها في مواجهة خصم سياسي شرس، تمكن من إفشال خططها، خاصة وأنه خصم لا يعادي الجيش كمؤسسة. لقد تمكّن الحراك حتّى من حرمان النظام من البعد الوطني، عبر استعادة شخصيات أبطال ثورة التحرير والاحتفال بهم شعبيا. كما صعّب شعار “الجيش الشعب خاوة خاوة” من مهمة استعمال الجنود لفرض النظام العام في الشارع، مخافة التحاقهم بالمتظاهرين. لهذا، قام النظام مضطرا بتقديم بعض التنازلات من خلال إلغاء العهدة الخامسة وإلزام بوتفليقة بالاستقالة. كما أُجّلت الانتخابات الرئاسية لمرتين متتاليتين. لقد اضطر الحراك النظام، للتخلي عن واجهته المدنية، لكن المتظاهرين ظلوا يرددون “هذا قليل جدا، هذا متأخر جدا”، راغبين في نهاية النظام كما تكشف عنه شعارات “الجنرالات à la poubelle” (الجنرالات إلى المزبلة) و”مدنية ماشي عسكرية”. لم ينجح توقيف وزراء أولين، وزراء ورجال أعمال، في إيقاف الحراك؛ على العكس، زادت هذه التوقيفات في حماسته وصار يطالب بالانتقال من السلطة العسكرية نحو السلطة المدنية. صار يشترط أسبقية المدني على العسكري، ونزع الطابع السياسي عن رتبة الجنرال. أكد قائد الأركان المستغرب لجرأة مثل هذا المطلب، قبوله مبدأ عملية الانتقال بشرط أن يشرف على ذلك رئيس منتخب وفق ما جاء في الدستور.
الاستراتيجية المتبناة من طرف النظام تقوم على انتخاب رئيس جديد للتمكن فيما بعد من استعادة السيطرة على الأحداث. لكن قبل هذا، وجب اختيار رئيس لن يسعى للاعتماد على الحراك من أجل السيطرة على النظام. كان عبد المجيد تبون هو المرشح المثالي، بحكم إخلاصه في خدمة الإدارة، بدء بمنصب والي إلى منصب وزير أول الذي تقلده لأسابيع فقط. ميزة تبون بالنسبة للنظام هو عدم امتلاكه لشخصية كاريزمية من شأنها جعله مستقلا عن القيادة العسكرية. بمجرد انتخابه أعلن تبون أن غايته هي تحقيق مطالب الحراك، الأمر الذي يعني إدخال تغييرات لا تمس بجوهر النظام. في أحد خطاباته الأولى، رسم صورة قاتمة عن مرحلة حكم بوتفليقة، وكأنه لم يكن وزيرا في العديد من حكوماته؛ المذنب هو بوتفليقة وعصابته، هم من أوصل البلد إلى هذا الحال، في حين لا يتحمل الجنرالات أي مسؤولية في هذا الوضع، حتى وإن كان جزء منهم هاربين في الخارج، وجزء آخر يقبع في السجن. تخلص النظام من بعض الفاعلين المزعجين، ويريد الآن اعطاء تبون صورة المسؤول النزيه الذي تخضع له –وفق صلاحياته الدستورية- كل مؤسسات الدولة بما فيها الأجهزة الأمنية. اختار الجنرال القايد صالح -الذي عينه في هذا المنصب- الموت عشرة أيام بعد انتخابه، كي لا يسرق الأضواء منه وكي لا يحرجه بوضعية يكون فيها نائب للوزير أقوى سياسيا من رئيس جمهورية. النظام لا يفكر، لكنه كائن آلي ذكي. وجب أن لا يكون لتبون مسؤول أعلى من غير الشعب. الجنرالات غير شعبيين لكن يجب أن يتمتع الرئيس بالشعبية. أعاق وباء كوفيد-19 لحظيا هذا المشروع، أما انهيار سعر البترول فسيعيقه على المدى الطويل، في حين أعاقه الجنرال وسيني بوعزة ظرفيا.
أظهر الجنرال بوعزة الذي عين في منصبه على رأس مديرية الأمن الداخلي من أجل إضعاف الحراك بأي ثمن، أظهر طموحا شخصيا أكثر من إظهاره للذكاء. مستفيدا من حماية قايد صالح خلال سنة 2019، كان بوعزة واحدا من الصقور الراغبين في الإسراع في وضع حد للاحتجاج الشعبي باستعمال العنف. وبتجسيده للخط العنيف، فلقد فرض نفسه على رفاقه تحت مظلة قايد صالح. هل النظام بصدد إعادة إنتاج “رب دزاير” آخر، يخافه معارضون كما رفاقه؟ بعد الانتخابات الرئاسية لـ 12 ديسمبر، رفض الجنرال بوعزة الخضوع شكليا لسلطة الرئيس تبون. لقد ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه محمد العماري قائد الأركان الذي ظهر متغطرسا في حوار أجرته معه أسبوعية لوبوان الفرنسية في 2005. رغم كون الجنرالات أعلى سياسيا من الرئيس إلا أن منطق النظام يمنع من قول ذلك علنا. أظهر بوعزة من خلال سلوكاته قلة احترام لتبون، كاشفا عن تغطرس كبير. كان حريّا به أن يسلك نفس سلوك طرطاق الذي سبقه على رأس مديرية الأمن الداخلي، أي أن ينزع عنه البذلة العسكرية ويلتحق بمكتب في الرئاسة ويظهر في المناسبات العامة. برفضه التقيد بهذه القواعد، يكون قد خرج عن التوجيهات التي أعطتها قيادة الأركان، والمتعلقة بصلاحيات مختلف مصالح الأمن. لم يكن بوعزة يريد أن يكون قائد مديرية الأمن الداخلي التي تراقب فقط الأحزاب المصطنعة، الصحفيين المزيفين، آلاف المخبرين والذباب في مواقع التواصل الاجتماعي. لقد كان له طموح كبير، كان يتدخل في مجالات خارج صلاحياته، وتقع ضمن صلاحيات الجنرالين بن علي ومجاهد اللذين يتحكمان ويراقبان الرئاسة بأمر من قيادة الأركان. كان يعطي أوامر مباشرة لوزير العدل وللمدير العام للأمن الوطني من دون المرور على رئاسة الجمهورية. كان يساهم في إضعاف نظام يسعى لإعادة بناء نفسه كي يستمر. انتهى الأمر بالنظام إلى التخلص منه بسبب إعاقته عملية تكيفه مع الوضع الجديد الذي فرضه الحراك. سيتخلى النظام عن كل فاعل، مهما كانت وضعيته داخله، لا يحترم عقلانيته وإكراهاته. الأمثلة كثيرة بخصوص ذلك: خالد نزال، محمد العماري، توفيق مدين…
لهذه الأسباب التاريخية، وضعت الجزائر المستقلة، نظام سلطة لا يتماشى ومبدأ السيادة الشعبية التي يتم التعبير عنها عن طريق الانتخابات الحرة. ترفض القيادة العسكرية الواقعة في قلب هذا النظام، أن يكون للوطن رئيس دولة قوي بالشرعية الشعبية، مهما كانت الجهة التي سيأتي منها، أحزابا، نقابات، الجامعة أو حتى من صفوف الجيش. إنها تصر على أن يتم اختيار مسيري الدولة من طرف أجهزة الأمن، وليس من طرف الهيئة الناخبة. هذا هو النظام الذي يريد الحراك تفكيكه. هل سيقدر على ذلك؟ ما ينسجه التاريخ يعود التاريخ لفكّه.
د. عدي الهواري