خطابات سامّة تقتل الحراك



هناك كلام طويل عريض كنت أريد قوله منذ مدّة ولكنني كنت متردّدًا أو لا أجد الصيغة المناسبة للتعبير عنه. ولكن مناسبة اعتقال “وليد” صاحب مجموعة “حراك ميمز” أتاحت الفرصة لقوله حتى لو لم يعجب البعض. منذ مدّة ليست بالقصيرة انتشر خطاب في أوساط الحراك، أقلّ ما يقال عنه إنه عنصري، وقِح، متكبّر، مُصادم للثوابت، ومحتقر للشعب الذي يدّعي تحريره. أصحاب هذا الخطاب في الغالب هم من الطلبة أو الشباب المتعلّمين والمتقنين للغات الأجنبية من سكّان المدن الكبرى، الذين يملكون قدرًا لا بأس به من الاطلاع (أقول الإطلاع وليس الثقافة، فالثقافة التي تجعلك تحتقر شعبك ليست ثقافة) يعني يعرف كلمات بالانجليزية، بالإضافة إلى بعض العنصريين المتطرفين، ويتّسم هذا الخطاب بعدّة خصائص، من بينها:

* احتقار الشعب، وخصوصا القادمين من المناطق الداخلية، واعتبار هذه الولايات كلّها خاضعة للنظام وسكّانها شاركوا في الانتخابات، وبالتالي يستحقون الفقر والظلم الذي يعانون منه (لاحظوا التناقض، من جهة يتحدّثون عن انتخابات مزوّرة ومن جهة يقولون إن هناك ولايات انتخبت) ويستغلّ أصحاب هذا الخطاب أيّ واقعة تحدث للسخرية من مواطني هذه المناطق.

* تقريبًا كل واحد يرتدي “قشّابية” أو ملابس تقليدية وتبدو على ملامحه علامات الشقاء وشظف العيش، فهو بالضرورة “بوصباع لزرق”، في احتقار شديد للشعبي البسيط، الذي كان هو الوقود الحقيقي للحراك وهو أوّل من يتأثّر بأية أزمة اقتصادية أو صحيّة أو إجراءات تقشّفية تقوم بها السلطة، يحتقرون المواطن البسيط الذي يدّعون تحريره، بالإضافة إلى ذلك فإن هذا المواطن الشقيان الذي يسكن الدشرة والدوّار أو الولاية الداخلية عندما تعتقله السلطات لن يجد الشبكات الإعلامية والسياسية أو المحامين ليقفوا معه عندما يخسف به النظام، ولأنّه من دون أي سند، فيُنسى في غياهب السجن.

* منذ بداية الحراك كان هناك اتفاق ضمني غير مُعلن بتحييد الأيديولوجيا وصراعات الهويّة والثوابت عن ساحة الحراك، وذلك من أجل توحيد الجهود ضد النظام الدكتاتوري وتحرير إرادة الشعب الذي له الحق وحده ليختار بوصلته ومشروعه المجتمعي والسياسي والاقتصادي، وهذا الاتفاق الضمني كان هدفه عدم تضييع الفرصة التاريخية للانتقال الديمقراطي كما حدث وضيّعناها من قبل في 1962 و1988 حين طغت خطابات الهويّاتية والاستقطاب على المشاريع السياسية الحقيقية، وكان المستفيد الحقيقي من كل ذلك هو النظام. لكن هذا الاتفاق وضعته بعض الفئات الجاهلة تحت أقدامها، ومن بينها هذه المجموعة المسمّاة “حراك ميمز”.

نعم، من حقّ الجميع السخرية من النظام ورموزه واستخدام “الميمز” والكاريكاتير وغيرها، وكل ذلك يدخل في نطاق حريّة التعبير، وأنا شخصيا فيما يتعلّق بحرية التعبير متطرّف جدًا ولا أرى أيّة حدود للتعبير عن الأفكار مهما كانت شاذة أو فاسدة، لأن إعلانها على الملأ يسمح بمناقشتها والرد عليها بالحجّة، فيما لو بقيت مختفية فسيصنع ذلك مجتمعًا منافقًا.

لكن بالنسبة لمجموعة “حراك ميمز” بالذات، لأنه محسوب على “الحراك”، وبالتالي فعندما تصنع “ميمز” تستهزئ بالدين أو بالذات الإلهية، فإن هذا الخطاب ليس محسوبًا عليك شخصيًا بل هو محسوب على “الحراك” كلّه، وهذا يُعطي للنظام ولمتملقيه هديّة على طبق من ذهب للطعن في الحراك واعتباره حراكًا إلحاديًا علمانيًا كافرًا…إلخ، وفي الوقت نفسه، فإن هذا الخطاب المعادي للثوابت يجعل كثيرا من المحايدين والمتخوّفين، والذين لم يحسموا قرارهم (الذين من المفروض أن نكسبهم ونضمّهم إلى صفوفنا) يتّجهون إلى صفّ النظام تلقائيًا أو إلى المعسكر المحسوب على الجيش: لأنع ببساطة، صدّقني أن المعسكر المحسوب على الجيش لن تجد فيه أي إشارة أو تلميح أو نكتة أو “ميمز” تستهزئ بالدين وثوابته.

وإذا كنت متضايقًا من أن المجتمع الجزائري يجل الدين ويعتبر الاستهزاء به خطًا أحمر فأنت حر، ومن حقّك أن تناضل لتغيّر هذا الأمر بالوسائل المشروعة، ولكن من فضلك لا تستخدم الحراك لتدفع بهذه الأجندة وبالتالي تفجّر الحراك من الداخل وتجعل الكثيرين ربما ينسحبون منه بسبب خطابك السام والمتهافت.

على كل حراكي أن يعي أننا في حرب حقيقية مع النظام، صحيح أنها حرب سلمية لا مكان للسلاح ولا العنف فيها، لكنها تبقى حربًا بالوسائل السلمية كالمظاهرات والمنشورات..إلخ، والحرب تستدعي الالتزام والتضحية وبعض التنازل لتحقيق الهدف النهائي، خصوصًا إذا كانت الفرصة التاريخية كلها معرّضة للخطر.

وليس هناك حاجة لأذكّر بأنني ضد اعتقال أيّ كان بسبب منشور فيسبوكي، وأن كل من يفرح باعتقال شخص بسبب منشور أو تعليق سيكون غدًا هو أيضًا ضحية لهذا القمع الذي هلّل له يومًا، وقد شاهدنا هذه الحالات أمام أعيننا، والنظام الذي يزعجه “ميم” هو نظام أضحوكة في حدّ ذاته، ومن المؤكد أننا سنستيقظ غدًا لنجد كل الوسائل الإعلامية العالمية تسخر من النظام الذي يسجن شابًا بسبب “ّميمّ. لكن علينا النظر إلى الأمر بصورة أعمق لأن الوضع أصبح لا يحتمل، معسكر الحراك أصبح يحمل خطابات سامّة ستؤدي به -إن استمرّت- إلى الانفجار والتفكك وتضييع فرصة تاريخية أخرى على غرار 62 و88.هذه عيّنة، فقط، من الخطابات السامّة داخل معسكر الحراك، وللحديث بقية.
ع. ك

الحراك