عودة على بدء…
حتى “الوطن”، قد يجدون لها تبريرا يرقيها إلى مصاف المصلحين
لم يتوّقف اصحابنا عن بيع معزوفة “هذه السلطة غير التي كانت قبلها، وأنها وطنية وحريصة على مصلحة الشعب وقيمه وعمقه الحضاري” وواجب عدم مآخذتها بجريرة ما فعله اليناريون المتورطين في جرائم العشرية، وتبرئتهم من مسؤولية الفساد العارم الذي ادى بنا إلى ما نحن عليه. نزلت هذه المعزوفة فور إسقاط جزء العصابة، واعتقال بعض رموزها، لتتبوأ العصابة المتغلبة مكانها، وتبيع سراب التقطه البعض وعض عليه بالنواجد.
بعد ترقب وانتظار ما ستتمخض عنه العملية، جاء موعد الانتخابات الرئاسية ليوم 12 ديسمبر (بعد إسقاطها من قبل الشعب مرتين)، وتقديم قائمة المترشحين للرئاسة. شهدنا أولا إقصاء من مجموعة الـ 22 مرشحا، جل من كان يعوّل عليهم أصحابنا، باعتبارهم (في نظرهم) يحملون مشعل التطهير والوطنية، لكن لم تصادق اللجة “المستقلة” سوى على 5 مرشحين، المعروفين بملازمتهم نظام “العصابة” المطاح بها؛ فاجتهد أصحابنا، وانتقلوا إلى خيار “أقل الضررين” من بين الفاسدين، ووضعوا بيضهم في سلة أقلهم “التصاقا” بالعصابة الحاكة، الذي اغدقوا عليه مواصفات النوفمبرية البادسية، رغم كونه ركن ركين في منظومة توفيق منذ 94 عندما كان يترأس المجلس الوطني الانتقاليCNT (المجلس المعيّن من طرف الانقلابيين لملء مقاعد المنتخبين من الشعب الذين جز بهم في السجن ومعتقلات الصحراء او تصفيتهم جسديا)؛ وكان أصحابنا ينظرون إلى تبون باعتباره أكثرهم التصاقا بالعصابة، وآخر منْ يتوقعون ترأسه جزائر ما بعد بوتفليقة، وجاءت النتيجة مخيبة، فعكس توقعاتهم واستشرافهم وأمانيهم، (وواقعيتهم)، فاز تبون، الأكثر ملازمة لمنظومة بوتفليقة باعتراف العديد منهم، فاز الذي شكل جزء من منظومة الحكم على مر أكثر من4 عقود، من رئيس دائرة، إلى والي، إلى وزير إلى رئيس حكومة في دولة بوتفليقة.
اعتقدَ “الواهمون” مثلي، أن هذا مؤشر كفيل ليجعلهم يعيدون قراءتهم وتقييمهم للوضع، ويدركون أن الأمر لم يكن أكثر من تصفية حسابات بين عصب، حربٌ لا دخل لها بالوطنية ولا التطهير ولا بادسية او نوفمبرية، لكن الهروب إلى الأمام بات سيد الموقف، بحيث شهدناهم يراجعون نزتهم لتبون، وعتبرونه، بقدرة قادر، ممثلا للبادسية النفمبرية ومصلحا محاربا لمنظومة الفساد وللدولة العميقة (التي لم يوضحوا لنا ملامحها، ولنا أن نسأل منْ تكن هذه الدولة العميقة إن لم يكن تبون أحد أركانها الأساسيين؟) فراحوا يلمعون صفحاته ويبلعون دون أن يرف لهم جفن، كل ما قالوه فيه من قبل، ويدينون طبعا كل من ينتقد مساره وطريقة تعيينه في انتخابات اللكازيرنا.
لم تتوقف القضية عند هذا الحد، بل بدأنا نشاهد عودة وجوه ملطخة أيدها بدماء العشرية، تعود إلى أعلى مناصب السلطة، وليس أقلهم إجراما، جزار لخضرية (الجنرال مجاهد)، صاحب مقولة ” حبطوا…للواد” لكن، هنا أيضا اكتشف اصحابنا، فجأة، أن هذا “المستشار الأمني لدى رئيس الجمهورية” بريء بل مفترى عليه. والغريب، أنهم أصبحوا ما إن يتم تعيين ّأحدهمّ، يغيرون رؤيتهم فيه، ويبررون الخطوة “المباركة”، حتى وإن كان المستقدم معروف بسجله الدموي، ويحاضروننا في الضرورة التي تقتضي عودته للاستفادة من خبرته، وهو ما يذكرني باستعانة العقيد بومدين بالفارين من الجيش الفرنسي DAF، الذين أوغلوا في سفك دماء الجزائريين إبان حرب التحرير، عندما كانوا في صفوف جيش الاستعمار، وكان تبرير بومدين آنذاك، ان الاستعانة بهم ضرورة نظرا لخبيتهم، علما أنهم كان جلهم عرفاء (كابرانات في جيش فرنستا)، ليتساءل المرء عن أي خبرة يتحدثون، لكن فالحقيقة، هي أن بومدين اعتقد أنه يستفيد منهم ويوظفهم ضد خصومه دون خشية عليه، كونهم مدانون له بما يفرض ولاءهم التام، متجاهلا أن الأعمار بيد الله، فعاجله الموت في عز شبابه (قبل أن يغلق عقده الخامس)، فوجدت دفعة لاكوست المجال فسيحا، لتصل إلى أعلى هرم السلطة وتفعل بالجزائر ما بدأه أسيادهم.
مسلسل تبريرات أصحابنا لم يتوقف، لكن أسألهم اليوم، وهم الذين لم يوفروا صحافة الاستئصال نقدا وتجريما على ما اقترفته هذه الصحف من جرائم، وباعتبارها عاملا أساسيا في مآسي العشرية الدموية، وكان أصحابنا يحملونها الجزء الكبير منها، يعتبرونها امتدادا لحكم فافا، وهذه الصحافة بالفعل كذلك، بل اعتبرهم شخصيا من بقايا الأقدام السود من الانديجين، والسؤال لأصحابنا، الآن، وقد التحقت هذه الصحف علينا (لأنها لم تنفصل يوما)، بسفينة تبون، وأصبحت تمجد حكمه وتلمعه، هل ستتحوّل هذا الصحف بدورها، هي أيضا إلى ضرورة، ولما لا اعتبارها نوفمبرية بادسية؟ أسأل فقط.
وهل يجهل أصحابنا أن هذه الصحف التي أنشِئت في معظمها في دهاليز توفيق، وموّلت بمباركات فوزي من إعلانات l’ANEP كرشوة Pour services rendus، هذه الصحف، كانت على الدوام إلى جانب السلطات المتتالية، أي العصبة المتغلبة في الحكم، ولم تكن يوما إلى جانب الشعب، والسبب بسيط، لأن وجودها مرهون بالسلطة، وتعلم أن الفرق بينها وبين الشعب، كالفرق بين الليل والنهار، ولو اعتمدت على ما تبيعه من نسخ إلى الشعب، لما استمرت أشهر معدودة، ولأعلنت الإفلاس والعوز، لله يا محسنين.
رشيد زياني شريف