دسترة القلق لتسيير أزمة مزمنة
تعكس مسودة التعديلات الدستورية التي طرحتها السلطة على شركائها حالة متقدمة من اضطراب منظومة الحكم دفعت بها السلمية إلى نقطة اللاعودة.
تختصر الصفحات الثلاث عشرة التي جاءت تحت عنوان عرض الأسباب الحدود التي رسمتها السلطة لهذا التعديل، وتضع هذا المشروع ضمن منطق “البناء على الباطل” بجعل هذه التعديلات استمرارا لتعديلات سابقة طالت دستور 1989 الذي تجاوز نظام الحزب الواحد، ولا تدعي الوثيقة في أي موضع انها جاءت لتؤسس لنظام جديد بل تشير بوضوح إلى أن “اللجنة لا تعتقد بأن لها مهمة تأسيسية تسمح بمراجعة الأحكام المتعلقة بالنظام الدستوري، ولا بما يتعلق بالمبادئ التي يتضمنها النص، والتي كانت نتاج الإضافات المتتالية منذ الاستقلال” ص 2، ويتعارض هذا الإقرار بشكل واضح مع ادعاء السلطة بأن الهدف من تعديل الدستور هو إحداث تغيير عميق في النظام السياسي والذي يعبر عنه الخطاب الرسمي باستعمال عبارة ” النظام السابق” لوصف فترة ما قبل 22 فيفري.
لقد اختارت اللجنة أن تركز على جوانب تقنية من قبيل تحقيق المطابقة مع المعايير مثلما تشير في الصفحة الثالثة إلى أن عملها تركز على ” اثراء نص الدستور حتى يكون منسجما مع متطلبات دولة القانون، واستنادا إلى المبادئ العالمية التي يقوم عليها النظام الدستوري اليوم، وكذا الاتجاهات والتجارب المعتمدة على المستوى الدولي، مع ضرورة التقيد بما يفرضه الواقع السياسي والاجتماعي للجزائر”. وهذه المهمة التي تكفلت بها اللجنة التزمت برسالة التكليف التي قيدت بوضوح عمل الخبراء ووضعت الحدود التي لا يمكن للتعديلات تخطيها.
في أول مقابلة أجراها تبون مع ممثلي الصحافة بعد نحو شهر من تنصيبه قال بأن الدستور الجديد ليس دستوره بل سيكون ثمرة اقتراحات لجنة الخبراء ومقترحات المعنيين الذين ستقدم لهم المسودة، وهذا الالتزام أفرغ من محتواه برسالة التكليف التي سيتضح من خلال المسودة أنها منعت من إدخال تعديلات للحد من هيمنة الرئيس ولعل أبرز مثال على ذلك ما جاء تحت عنوان الفصل بين السلطات وتنظيمها بصفة عقلانية ومتوازنة، وتحت هذا العنوان تطرح مسألة الازدواجية داخل السلطة التنفيذية، ورغم الثناء على التغييرات السابقة فان المسودة تشير إلى ان التنظيم الجديد انحرف عن أهدافه وأدى إلى اعتماد نظام رئاسوي مفرط.
تشير الوثيقة في الصفحة 5 إلى نقاش واسع داخل اللجنة تناول تقييد سلطات رئيس الجمهورية من خلال أربعة مقترحات، لكن العبارة الأهم هي “وقد خلصت اللجنة بعد هذا النقاش الى أن اعنماد مثل هذه القيود سيؤدي إلى تغيير طبيعة النظام السياسي وهو ما يخرج عن محاور رسالة التكليف” وتكشف هذه العبارة بوضوح مدى محدودية التعديلات التي سمح للجنة باقتراحها، كما انها تحمل إشارات ضمنية الى أن التناقضات التي كشفتها الممارسة لا يمكن أن تعالج إلا من خلال إعادة النظر في طبيعة النظام السياسي بما يحيلنا حتما على عمل تأسيسي ما زالت السلطة مصرة على تحريمه.
يعيد هذا التناقض إلى الواجهة السؤال الأساسي وهو “من يضع الدستور”؟ سؤال فرضته السلمية، وتعيد طرحه المسودة التي تعبر عن نية السلطة التي أظهرتها رسالة التكليف التي حلت محل الإرادة الشعبية وكلفت مجموعة من الخبراء والتقنيين الذين سمحوا لأنفسهم بالقول في الصفحة السادسة من الوثيقة “كما استبعدت اللجنة فرضية النظام البرلماني الذي لا يشكل بديلا حقيقيا بالنظر إلى السوسيولوجيا السياسية للجزائر” خلاصة لا تستند إلى أي نقاش أكاديمي أو مجتمعي حر، ولم تكن موضع اجماع سياسي ولا محل استشارة شعبية في أي فترة من فترات التاريخ الوطني.
على هذه الخلفية لم يكن غريبا أن تتحول المسودة الى جملة من الاقتراحات مضروبة بطابع أزمة عميقة يمر بها نظام الحكم، فقد تم سد الثغرات التي اظهرتها فترة تعامل السلطة مع السلمية ومحاولة احتوائها، فتم اقتراح منصب نائب رئيس معين يمارس صلاحيات رئيس منتخب في حال خلافته للرئيس، وبصرف النظر عن إشكالية الشرعية التي يطرحها هذا التفصيل فإنه يعكس الحرص على وضع آليات تمكن السلطة من تسيير حالات التأزم والاضطراب المتوقعة في المستقبل، بل انه يمنح هوامش واسعة لترتيب الأوضاع الداخلية للسلطة دون العودة مباشرة الى الشعب، وسيكون بالامكان تسيير فترات أطول من الفراغ حتى تحقيق التوافقات الداخلية لإيجاد البدائل وتمريرها عن طريق الانتخابات.
إن هذا التوجه يوحي بوجود قلق عميق داخل منظومة الحكم المأزومة يجعل سلطة القرار تركز على التحضير لنسيير الازمات المتوقعة على فترات زمنية أطول، وهو ما يجعل المسودة استجابة لأزمة ومحاولة لوضع آليات لتسيير ارتداداتها وهذه ليست مهام الدساتير في الأصل، وسنجد في إعطاء المحكمة الدستورية صلاحية تمديد الفترة التي يتولى فيها رئيس الدولة مهامه في حال تعذر إجراء الانتخابات في آجالها محاولة لتجاوز المأزق الذي وقعت فيه السلطة بعد إلغاء انتخابات 4 جويلية 2019.
يضاف إلى هذا كله الإصرار على دسترة الخطاب الرسمي حيث يمكن أن نقرأ في الديباجة ص 23 من الوثيقة ” يعبر الشعب عن حرصه على ترجمة طموحاته في هذا الدستور بإحداث تحولات اجتماعية عميقة من أجل بناء جزائر جديدة والتي عبر عنها سلميا منذ الحركة الشعبية التي انطلقت في 22 فبراير 2019 في تلاحم تام مع جيشه الوطني الشعبي” وتلخص هذه الفقرة كل التناقضات التي اخرجتها السلمية إلى السطح، فالحديث عن جزائر جديدة مع الإقرار بعدم تغيير النظام يجعل المسعى كله محاولة للالتفاف على مطلب التغيير الذي رفعه 22 فيفري، ثم يأتي فرض ثنائية الشعب/الجيش من خلال استعارة خطاب السلطة القائمة متناقضا بشكل جوهري مع روح الدستور الذي يحدد صلاحيات الجيش الوطني الشعبي، وليجعل من حالة استقطاب عابر بين الشارع وقيادة الجيش حول كيفية معالجة أزمة منظومة الحكم قضية تحتاج إلى حل يتم تضمينه في نص الدستور.
قد يستغرق كثير من المختصين والجمهور الواسع في مناقشة التفاصيل القانونية للتعديلات المقترحة لكن من يهمه التغيير الحقيقي والعميق سيكفيه الإطلاع على عرض الأسباب ليستنتج أن ما يعرض هو جزء من مساعي احتواء السلمية وإفراغ مطالبها من محتواها، وفرض خارطة طريق السلطة التي أخرجت الجزائريين من دائرة المعنيين بهذه الوثيقة واستعاضت عنهم بأحزاب مقطوعة الصلة بالمجتمع وبرلمان مطعون في شرعيته وتمثيليته.
نجيب بلحيمر