أمة ما قبل 22 فبراير لن تقبل أبدا العودة إلى ما بعده
نشهد سباق محمود ضد الساعة…خطوات متسارعة، متضاربة، لاهثة، متسترة وعلنية في آن.
هل لانتشال البلاد من أزمتها الصحية؟ كلا؛ كل الإشارات لا توحي بذلك.
هل لترميم النسيج الوطني الذي تعبث به أقلام وأصوات الحقد والكراهية، وتسعى إلى تمزيقه؟ كلا؛ العكس هو الحاصل.
أو لإنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي المحدق، في ظل تعفن مستشري على كافة الأصعدة؟ كلا؛ بل غيوم داكنة ملبدة، تلوح في الأفق، في ظل تجاهل واستهتار والسير نحو سراب الوعود.
لا ذا ولا ذاك ولا كل ما قد يتخيله إنسان سوي، إن ما نشهده مخالف تماما، إنه سباق مجنون وإجرامي، بوصلته وجهته واحدة متعنتة وشرسة. ما نشهده، هو أن السلطة الحاكمة (العصابة المتغلبة على نظيرتها المعتقلة)، تستغل فراغ الشوارع من المواطنين، على إثر الهدنة الصحية التي التزمها الشعب بوعي ومسؤولية، مستعملة كافة السبل والحيل لاعتقال أكبر عدد ممكن من شباب وشابات، من رجال ونساء الحراك، في محاولة منها الحيلولة دون عودة الحراك بعد انتهاء الحجر الصحي، مع العمل في الوقت نفسه، بخبث ودهاء، في استعمال كل طرق الاستفزاز، من تضييق وتنكيل وقمع، أثناء عمليات الاعتقال، بغرض دفع المواطنين إلى ردود أفعال عنيفة، قصد إخراج مسار الحراك من سلميته، المهمة التي فشلت في تحقيقها طيلة أكثر من سنة من عمر الحراك المتواصل، وتسعى اليوم استئناف محاولاتها، لتبرير تدخلها العنيف لإنهائه بحجة حماية النظام العام واستتباب الأمن ووجود رئيس “منتخب”.
يتجلى يوم بعد يوم، أن السلطة توظف الظرف الحالي، للعودة إلى ما قبل 22 فبرار، للانتقام من شعب باغتها وأفقدها صوابها وكشف عورتها، لذا تسعى بكل ما أتيت من وسائل قمع ودهاء، لتعيد له الأصفاد التي قيدته بها ربع قرن من الزمن، تريد ترميم جدار الخوف الذي أنشأته على مر 3 عقود وكبلت به عملاقا، تحكمت فيه من خلال مجموعة من الأساطير والأكاذيب والتضليل، تريد العودة إلى شعب ما قبل 22 فبرار، تريد ترويض الشعب الذي تجاوزها وحطم الحصن الذي شيدته لاستحكام نقودها، تريد أن يختفي إلى الأبد 22 فبراير من حاضرها ومستقبلها، تريد لهذا الشعب الذي أيقظتها من نومها الدافئ أن يختفي، لا تريد أن يستمر من كشف كل حيلها وأفشل حبائل سحرتها، وحرمها من هناء سنوات العسل التي تمتعت بها عندما كان هو يكابد سنوات الجمر والدم. لماذا يرعبها الحراك؟ لماذا أصبح 22 فبراير، شبح وغول يسكن جسدها وأحلامها؟ الأسباب كثيرة، نذكر منها:
– لأن انهيار جدار الخوف، الذي أتى عليه حراك 22 فبراير، مكّن الشعب من إدراك قوته في وحدته وفعالية إرادته، في مواجهة عملاق من ورق، احتال على الشعب بالتضليل والتخويف والترهيب؛
مكّنه من الجرأة المشروعة على استعادة مجاله وفضائه وحقوقه التي حُرِم منها في عهد ما قبل 22 فبراير؛
– خروج 22 فبراير حطم مزاعم السلطة التي ما فتئت تروج وتدعي بأن أقلية قليلة فقط “من الشرذمة” هم الذين يريدون الفوضى (الاسم الرسمي الذي تطلقه كل دكتاتورية على حركات التغيير ومحاربة الفساد)، فاكتشف كل مواطن، كان يرغب في وضع حد لمنظومة الفساد، ويخشى أن يكون وحده، ومن دون سند، حتى تبين له في ذلك اليوم الموعد أنه ليس معزولا، ولا بالمئات، بل بمئات الآلاف، والملايين، عبر شتى مناطق الوطن وأدرك حينذاك، لماذا لم تكن السلطة تريد له أن يعرف تلك الحقيقة، وتوهمه بأنه مكسور الجناح، لتزرع في نفسيته الشعور بالضعف والهوان، ولا يدرك قوته.
– أهم الأسباب التي جعلت السلطة تبذل قصارى جهودها لكي لا يجتمع المواطنون فيما بينهم، هو منعهم من الحديث إلى بعضهم البعض والتعرف مباشرة على بعضهم بعض دون تدخل وسطاء كانت مهمتهم الأساسية تعميق الشقة بينهم لهدف تمزيق لحمتهم عن طريق تضخيم الفوارق والتحريض بين مختلف الفئات بنشر الأباطيل والافتراءات، ولاستعداء البعض ضد البعض، بما يمكنها من التفرد بهم والتحكم في الجميع بحجة أنهم غير مؤهلين للجلوس معا حول طاولة ومناقضة قضايا مصيرية، تخص بلدهم، حتى جاء الحراك ليفند هذه الأكذوبة المضللة، ويبين، أن الشعب يهمه مصير بلده وسلامته، قبل كل شيء آخر، ويمكنه تأجيل مناقشة القضايا الأخرى التي تهمه، قي ظل دولة القانون التي تضمن حقوق الجميع في التعبير والاختيار الحر المتبصر.
– 22 فبرابر فضح كذبة السلطة التي دأبت على وصف المواطنين بالعنف، لتبرر منعهم من التجمع والمسيرات، بذريعة حفظ الأمن، حتى خرج الشعب في حراكه، الذي استمر أكثر من سنة، ملتزما بسلوك حضاري قل نظيره، لم يكسر خلاله زجاجة واحدة ولا أحرق عجلة، ولا أتلف ممتلكات، إلى درجة أصبح مضربا لمثل بين الأمم ونموذج يحتذى، هذا السلوك الراقي هو ما أقلق عصب الحكم وجعلهم يحاولون مرارا وتكرار دفعه نحو العنف، بلا جدوى، من خلال مضاعفة استفزازاتهم في حملات الاعتقال والتنكيل.
– 22 فبراير أكد للمواطن، أنه ليس من حق أي جهة أن تحرمه من حقه في ممارسة السياسة، والتعبير عن رأيه، والتجمع وتنظيم صفوفه، بعد أن رسخت السلطة طيلة عقود، وسط المواطنين، الاعتقاد بأن مجرد التعبير عن الرأي، “جريمة سياسية” يعاقب عليها القانون، ومن منا لم يتذكر تلك التهمة الشنيعة التي كانت توجه لأي مواطن يحتج ويطالب بحق من حقوقه، فيقال لنا “إنه يمارس السياسة” وكأن ذلك يكفي لإدانته، حتى جاء 22 فبراير ليثبت حق المواطن، ويبطل خديعة السلطة، ويجسد حقه المشروع الذي لم تتمكن من حرمانه منه هذه المرة، فخرج من دون اذنها واستعاد ذلك الحق، الذي تريد اليوم، سلبه منه من جديد، تحت غطاء الكورونا وحملات اعتقال النشطاء، والعودة بالشعب الحر إلى ما قبل حراك 22 فبراير، مقض مضجعها والمؤذن بنهايتها.
هذه صيرورة تاريخ شعب حر، كبلته العصب المتآمرة، فاستعادة قوته، وذاق طعم حريته وكرامته، وغير مستعد للتخلي عنها.
رشيد زياني شريف