الجزائر الجديدة 177
من ايث اسماعيل إلى الابيض سيدي الشيخ:
الوحدة الوطنية هي الحرية..
من بجاية إلى الابيض سيدي الشيخ، مسافة أكثر من ألف كليومتر، من بحر الناصرية إلى رمال البيض، ومن بجاية الحماديين إلى البيض المقاومة وبوعمامة، من بجاية الشيخ الحداد والطريقة الرحمانية إلى الابيض سيدي الشيخ ومريدي الطريقة الشيخية.
المسافة بعيدة من قلب الصومام إلى عمق الجنوب الغربي، لكن القلوب واحدة موحدة بماضي وحاضر المقاومة وزوايا القرآن والعلم، وأحلام المستقبل التي يحملها الشباب، هذا الشباب الذي حول شبكات التواصل الاجتماعي إلى فضاء لاختصار المسافات، ففي ثواني معدودة عرف الجزائريون والجزائريات منطقة تسمى أيث اسماعيل ببجاية، أمس، عند استقبال السجين عبد الوهاب فرساوي، كما أنهم تابعوا ما حدث، اليوم، في الابيض سيدي الشيخ المعروفة بالشيخ بوعمامة. من محاكمة لمناضل حقوقي يسمى العربي الطاهر ومناضل لأكبر حركة اجتماعية في الجنوب وهي حركة البطالين هو بوسيف محمد بوضياف، واللذان دخلا في إضراب مفتوح عن الطعام منذ الخميس الماضي..
فرساوي.. يوحد قريته ويفتخر بجزائريته
عبد الوهاب فرساوي من مواليد 1979، وهو آخر أبناء والدته التي ازدادت سنة 1935، وكانت أمس تطلق دموع الفرحة لرؤية ابنها، بعدما كانت تخشى أن تغادر الدنيا دون أن احتضانه، خاصة وأن عبد الوهاب كان في زنزانة الحراش، ولم يحضر جنازة أحد أقاربه الذي غادر الحياة وهو من جيل الثورة التي حررت أرض الجزائر من براثن الاستعمار.
عبد الوهاب فرساوي لما خرج من السجن اخذ صورة معبرة مع زميله في الزنزانة براهيم دواجي أصيل مستغانم، صورة أخرى لجيل لا يعترف بأية عصبية تشل الفرد، وتهدد وحدة النسيج الاجتماعي.
عبد الوهاب فرساوي أب لثلاثة بنات، أصغرهن احتفلت بعيد ميلادها الأول ليلة الإفراج عن والدها الذي تعرفت عليه بصعوبة، لأن وجهه غاب عنها منذ سبعة أشهر.. سبعة أشهر كانت قاسية على جميع الجزائريين والجزائريات بسبب منظومة لازالت تعتقد أن السجن والعنف والقمع والاقصاء هو أسلوب حكم!
عبد الوهاب استقبل، أمس، استقبال الزعماء والأبطال في قريته، التي توحدت قلوب أبنائها حول الحرية وحول أحد رموزها عبد الوهاب، وهي صور كافية لإدانة النظام، لأن عبد الوهاب أرسل صورة وحدة الجزائر من سجن الحراش رفقة رفيق زنزانته دواجي، رغما انهما متهمان بتهديد الوحدة الوطنية!!
جيل المقاومة والبناء في مواجهة سلطة القمع والإقصاء..
زنزانة السجن وبرودتها، ودموع والدته، والليالي الشاقة لزوجته وأبنائه، لم تغير من قناعات عبد الوهاب الذي يمثل جيلا جمع بين المقاومة من أجل القطيعة مع منظومة الفساد والاستبداد، والبناء من أجل تأسيس مؤسسات الوساطة الاجتماعية والمشاركة في رسم السياسات العامة، وهو الذي يرأس جمعية شبانية حولها إلى فضاء للنقاش والحوار بين الجزائريين والجزائريات من جامعيين ونقابيين ومحامين وسياسيين، وهو ما لا تحبه السلطة، فقبل أن يعتقل ويحاكم كانت أجهزة البروباغندا قد سبقت بحملات كراهية وتخوين وتخويف وتشويه استهدفت عبد الوهاب والجمعية التي يرأسها.. وهي حملات أكدت مرة أخرى أن منظومة الحكم لا تريد أي بناء جديد ومستقل، ومشروعها هو اعتماد جمعيات أخرى من الموالين الذين يصفقون ويؤيدون ويهللون لكل خيارات السلطة، وهو منطق الجزائر القديمة، جزائر القمع والولاء والاقصاء..
صور المئات من الجزائريين والجزائريات الذين كانوا في استقبال فرساوي ودواجي، أمس، والملايين على شبكات التواصل الاجتماعي الذين تابعوا هذه الصور هي إدانة للقضاء وللسلطة التي يخضع لها، لأن اتهام فرساوي ودواجي بتهديد الوحدة الوطنية تكذبه هذه الصور، إلا إذا كانت السلطة تقر بأن كل الشعب الجزائري يهدد الوحدة الوطنية وهي إدانة مضاعفة تضاف لباقي الادانات..
الابيض سيدي الشيخ …السجن سنة ونصف بسبب منشورات فايسبوكية!
على بعد أكثر من ألف كيلومتر من بجاية، ومن المحكمة الابتدائية الابيض سيدي الشيخ، اختارت السلطة وفي ذكرى 19 ماي 1956 وفي ليلة القدر، أن تحاكم جامعيا يسمى بوسيف محمد بوضياف وهو في ربيع العمر 22 سنة، وهو الذي كان رضيعا لما فرض العسكر بوتفليقة في الحكم سنة 1999، محمد بوضياف كان أصغر معارض لعهدته الرابعة سنة 2014، كما أنه منسق لأكبر حركة اجتماعية في الجنوب وهي تنسيقية البطالين، كما حوكم رفيقه العربي الطاهر رفقته.
العربي الطاهر 52 سنة أب لعشر أطفال، وهو يعرف السجون لأنه دخلها في تسعينيات القرن الماضي بسبب تنديده بانقلاب 11 جانفي 92 واثاره، كما دخلها في عهد بوتفليقة مرات عديدة لأنه أختار الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان للدفاع عن المقهورين في الجنوب الغربي، وهو ما سبب له الكثير من المتاعب، وعاش جزءا من عمره في السجون وعانى حر الصيف وقر الشتاء فيها، لكنه بقي واقفا شامخا رافضا كل المساومات، وبقي يواجه سلطة مركزية متعنتة وسلطة محلية متحالفة مع الإقطاعية المحلية..
محاكمة اليوم مهمة، فرغم قساوة الحكم وهو عام ونصف العام نافذة، إلا أنه بالنسبة للعربي الطاهر تبقى مهمة، لأن السنوات الماضية كان يحاكم في صمت بسبب الخوف والرعب، ولم تكن تأتيه المساندة إلا من العاصمة والأغواط، من علي يحيى عبد النور والمحامي نورالدين احمين، ومصطفى بوشاشي، أما اليوم فقد التحق بهؤلاء الشعب وجيل جديد من المحامين، و لذلك فقد تمت المحاكمة تحت صيحات العشرات من مواطني لبيض سيدي الشيخ الذين طالبوا بالحرية ونددوا بالاعتقال، ورددوا كل شعارات الحراك الذي يطالب بالدولة المدنية والرافض للعسكرة وقمع الحريات.. كل الحريات، كما تابع المحاكمة وأخبارها عبر شبكات التواصل الملايين من الجزائريين من كل ولايات الجمهورية.
العربي الطاهر.. من قمع التسعينيات ومناهضة صيد الخليجيين للحبار إلى زنزانة الجمهورية الجديدة
العربي الطاهر عانى من قمع التسعينيات، كما أن مواثيق السلم التي فرضها بوتفليقة شملت كل القتلة، لكنها لم تشمله، لذلك دخل في عهد بوتفليقة السجن أكثر من مرة، غير أن الفترة الكبيرة التي قضاها في السجن كانت بعد العهدة الثانية، حيث واجه العربي الطاهر أشد العقوبات، وسجن في ظروف مأساوية، حيث فرضت عليه زنزانة ضيقة كان يقضي فيها حتى حاجاته، وقد تسابق الولاة الذين تعاقبوا على البيض على التضييق عليه أكثر، لأن العربي الطاهر ندد وناضل ضد المجازر التي كان أمراء الخليج يقترفونها في الجنوب الغربي للبلاد بصيدهم الحبار بأنواعه النادرة المهددة بالانقراض، وقد اعتبر بوتفليقة ومن جاء به ذلك جريمة لا تغتفر، لأن جزء من هؤلاء كانوا من أصدقائه الإماراتيين الذين كان يعيش في قصورهم وصالوناتهم في ثمانينيات القرن الماضي…
العربي الطاهر دخل السجن مرات عديدة، وواجه السلطة مركزيا ومحليا، وهو يواجه ضغوطا اجتماعية لا يعرف تأثيرها وقوتها إلا من عاش ويعرف سوسيولوجيا المجتمع في الجنوب الغربي الذي لا تزال الإدارة تعيد إنتاج التصورات الكولونيالية في تسييره، وهو ما يريد العربي الطاهر وغيره من المناضلين تغييره..
العربي الطاهر سيقضي عيدا آخر من أعياد الفطر في السجن، وهو المتدين المحافظ والمنفتح على منظومة حقوق الإنسان، هو لا يأبه كثيرا لهذا، لأنه يعرف أن السجن هو ضريبة دفعها ولايزال مستعدا لدفعها من أجل الحرية، لكنه يعرف أن هذا سيؤلم عائلته وأصدقاءه وجيرانه ورفاقه في النضال، لكن صور التضامن معه اليوم ومع غيره رغم الحجر الصحي والوباء، وأصوات المتضامنين معه وصلته للقاعة التي كان يحاكم فيها، وهو يعرف أن سجنه سيغشي ماغم عن كل من تشابه عليهم البقر، بأن لا شيء تغير، وبأن الجمهورية الجديدة التي يبشر بها مقيم المرادية ليست إلا خطابا، لأن العربي الطاهر سجن بسبب آرائه ومواقفه من عهد علي كافي وزروال إلى عهد بوتفليقة وتبون، وبأن عهد تجريم الاراء لا يزال باقيا، وهو من ثوابت الجزائر القديمة التي بنيت على الإقصاء والتخوين والتخويف…
العربي الطاهر – وكل المعتقلين – اليوم، يعرف ومتيقن أن صوره وصور كل المعتقلين سترفع في كل مكان وفي كل شبر من الجمهورية، كما رفعت صور المعتقلين الذين أفرج عنهم أو الذين لا يزالون قابعين في السجون، وسيكون فرساوي من اث اسماعيل ودواجي من مستغانم أول المتضامنين، لأن كل هؤلاء وكل الجزائريين والجزائريات من تبسة إلى تلمسان، ومن تيزي وزو إلى تمنراست، ومن بجاية إلى الابيض سيدي الشيخ، يعرفون أن أكبر عدو لمنطق الدولة هو القمع والاقصاء والعنف، وبأن أكبر تهديد للوحدة الوطنية هو الاستمرار في منظومة التخوين والتخويف…
صور اث اسماعيل أمس وتضامن لبيض سيدي الشيخ اليوم، تؤكدان أن الوحدة الوطنية هي الحرية والديمقراطية…
الجزائر في 19 ماي 2020
رضوان بوجمعة