لا ندع الصور المغلوطة تلهنا عن جهور الإشكالية
لا بد من توضيح نقطة في غاية الأهمية، تخص “العلمانية”، لأنه كثيرا ما نُتهم بأننا أصبحنا نوالي من يعاد الوطن وقيمه، وأننا تخلينا عن مبادئنا ومرجعيتنا، وأصبحنا “نلعب” في مربع من تسببوا في خراب البلاد والعباد، في إشارة إلى الاستئصاليين العلمانيين. أولا، لن نكل ولن نمل من التذكير والتركيز على أن مشكلتنا الجوهرية هي مع منظومة حكم فاسد تستغل الجميع وتوظف الجميع لخدمته، ولا تقبل مشاركة أي طرف مشاركة فعلية، ولا تسمح لكل من يخدمها سوى بدور الخادم التابع الذي يؤتمر فينفذ، ولا نفوذ له. ثم لا بد من أن نصحح ونذكر (الوقائع تثبت ذلك لمن خانته الذاكرة)، أن الذين حاربوا خيار الشعب وشرعنوا سفك دمه لم يكونوا فقط من عتاة لعلمانيين. أجل لا ينفي أحد أن هذه الفئة من العلمانيين المتطرفين شكلوا فعلا قطب الرحى في الحرب القذرة، لكن، لم يكونوا وحدهم، بل كان المتواطئ مع الانقلاب من كل الأطياف، ونظرة خاطفة إلى قائمة أعضاء الوزراء في الحكومات المتعاقبة بعد الانقلاب، وأعضاء المجلس الوطني الانتقالي (برلمان الانقلابين المعينين) والمجالس البلدية والولائية وغيرهم من كبار المسؤواين، تبين هذه الحقيقة، وتثبت أن الجامع بينهم كلهم، هو معارضتهم لخيار الشعب وسيادته وإقصائهم من قبل المواطنين.
ثانيا، لا بد أن ندرك ونقر ونقبل أن العلمانيين، كأيديولوجية موجودون، ولهم الحق مثل غيرهم في التعبير، دون أن يُكرِهوا غيرهم على رؤيتهم أو فرضها في دهاليز لسلطة، بما يسمح للجميع بحقهم في التعبير تماما، ولم تكن يوما مشكلتنا مع الأيديولوجية العلمانية، كفكر وتوجه، لو لم يستغل طرفٌ من هذا الفصيل الظروف لركب الدبابة لقهر الشعب، ومن هذا المنطلق لم نغير موقفنا فيهم، لم نكن يوما من المطالبين بإقصاء التوجهات الفكرية والسياسة فقط بناء على اختلاف فكري أو أيديولوجي. لكن، المشكلة الحقيقية هي مع من يقصي غيره قهرا ويفرض توجهه مستخدما أجهزة الدولة لقهر خصومه، مثلما شهدناه مع الاستئصاليين في التسعينات، ونشهده منذ انطلاقة الحراك، من صرخات لأتباعهم وبقاياهم، الذين يركبون كل أنظمة الاستبداد ويوظفون دباباتها ويوجهون فوهاتها لقتل خصومهم، بعد إدراكهم أن لا حظ لهم بين المواطنين في إطار خيار حر ونزيه.
كل المؤشرات والمتابعين المستقلين، سواء من العرب أو الغربيين، يقرون بأن العلمانية القهرية (بنكهة فافا) انتهى زمانها في العالم العربي والإسلامي، لأنها لا جذور لها في ثقافة الشعوب ووجدانها، ولا تزال تمثل أقلية، صحيح أنها متنفذة بسبب ارتباطها بالدولة الاستعمارية ونظم ما بعد الاستعمار لكن الوجدان الشعبي لا يرضى بهذه العلمانية القهرية التي تعيش على هامش المجتمع، في ظل الاستبداد الذي يشكل محيطها الطليعي وغذاءها الذي لا يممنها الاستمرار من دونه، بما يفسر محاربتها طموح الشعوب في الحرية والكرامة.
رشيد زياني شريف