هل تنجح فرنسا في توريط الجزائر عسكريا في مستنقع حرب مالي والساحل؟



هل تنجح فرنسا في توريط الجزائر عسكريا في مستنقع حرب مالي والساحل؟
ثمة إشارات توحي بأن باريس تستدرج الجزائر إلى المستنفع المالي، وقد تغري الحكم عندنا بالدعم السياسي مقابل تخفيف العبء الحربي عنها في مالي…هذا أمر خطر، يمهدون له في دستورهم “الجديد”، فهل تنتقل الجزائر إلى التورط في معارك غيرها خارج حدودها؟

يشارك في عملية “برخان” التي تلت “سيرفال” منذ أوت 2014، 4500 عسكري فرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، والتي تمتدّ على مساحة توازي مساحة أوروبا، وذلك لدعم الجيوش المحلية التي تحارب التنظيمات الجهادية المسلحة. وحتى إن كان لدى جيش فرنسا قاعدة دائمة في مالي، إلا أن توسيع نطاق عمله ليشمل منطقة الساحل والصحراء فيما تسمى “عملية برخان” ضاعف مهمته “بعد سبع سنوات من بدء عملية سرفال التي فشلت في تحقيق هدفيها، إذ لم تستعد سيادة مالي في الشمال ولم تحد من انتشار “التهديد الجهادي”.

وقد تكبدت قوة “برخان” الفرنسية المتمركزة في مالي لمواجهة المسلحين المتمردين في الساحل الأفريقي خسائر كبيرة منذ انتشارها هناك سنة 2013، ما دفع فرنسا مؤخرا إلى التهديد بسحب جيشها وتسليم مهامه إلى الجيوش المحلية. ولا يقتصر التحدي الذي تواجهه قوة كهذه على مالي، ففي بوركينا فاسو المجاورة ما زالت قوات الأمن عاجزة عن وقف تقدم المقاتلين المناهضين للحكومات.

وتشير تقارير إلى أن الجيش الفرنسي حوَل مالي إلى ساحة معارك، دفاعًا عن استثمارات “سياحية ودبلوماسية واقتصادية” بقيمة 750 مليون يورو، ولذلك تسعى باريس لفرض هيمنتها في هذه المنطقة وحماية مصالحها الجغرافية السياسية واحتواء التهديدات المسلحة. وتركز نشاط المقاتلين المتمردين في المناطق الحدودية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو أو وسط الساحل، والذي يطلق عليه (مثلث ليبتاكو غورما)، في منطقة أصبحت مركز نشاط مجموعات العنف العابر للحدود حاليا.

وفي الوقت الراهن، تعد حملة “برخان” هي الأكبر لقوات الجيش الفرنسي خارج حدوده، والأكثر مجازفًة بمال فرنسا وسمعتها وجيشها، إذ نشرت فرنسا فيها 3 آلاف جندي من الجيش الفرنسي في البداية، إلا أنها لم تحقق أي تقدم، فرفعت باريس العدد إلى 4500 عسكري، غالبيتهم في قاعدة “غاو” (1700 عسكري) مع قاعدتين في كيدال وتيساليت (في الشمال الشرقي) على بعد 120 كم من الحدود الجزائرية، إضافة إلى قاعدتين في ميناكا وجوسي.

ولا يقتصر مسرح عمليات حملة “برخان” على المستعمرة الفرنسية السابقة، وفقط، بل يشمل خمس دول في منطقة الساحل هي: النيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا، فضلًا عن مالي، إذ يتسم الوضع السياسي في منطقة الساحل عامة بالهشاشة وتمتد صحاريها من موريتانيا غربًا إلى السودان شرقًا، وهو ما ساعد جماعات العنف المسلح على أن تتخذ منها قاعدة تحرك لها.

ولعله أن يطرأ تغير في الموقف الجزائري في رفض جميع الضغوط التي مارستها فرنسا على الجزائر لزيادة تعاونها العسكري والأمني مع دول الساحل وغرب أفريقيا إلى مستوى مشاركة ميدانية لقوات الجيش الجزائري في العمليات القتالية، واقترحوا نصا في دستورهم الجديد يسمح للجيش بالمشاركة في عمليات عسكرية خارج الحدود، وهذا لأول مرة منذ عقود من الزمن. إذ إن فرنسا غرقت في المستنقع المالي، ومنطقة الساحل عموما، وتبحث لها عن مخرج ومنقذ، ووجدت في الجزائر الخيار المغري لتخفيف العبء عنها، إذ إن الجيوش الوطنية لدول الساحل ضعيفة وهشة ومترهلة، وأدركت باريس أنه لا يمكن التعويل عليها في تحقيق أي نصر عسكري حاسم، لذا تضغط على الجزائر لتقحمها في لعبة الحرب المدمرة على أراض متحركة وبلا أي إستراتيجية واضحة، وتورط الجزائر يعني فتح جبهة تهديدات من تنظيمات العنف المسلح، وقد يعيدنا إلى مربع الصراع العابر للحدود مع حركات التمرد، وهي تقوى ويتعزز نفوذها في المنطقة ووصلت إلى السيطرة على مناطق واسعة وحتى بوركينا فاسو.
ومنذ تدخل فرنسا في مالي في عام 2013، قتل 41 جنديًا فرنسيًا على الأقل، بينهم 17 في عام 2019، لتتكبد فرنسا بذلك ثاني أكبر خسارة بشرية لها منذ حرب الجزائر، كما قتل عشرات آخرين خلال هجمات مماثلة في بوركينا فاسو المجاورة، الأمر الذي يكشف جانبًا من شراسة المعارك الدائرة، دون أن تنال تغطية إعلامية مناسبة لحجم الأحداث هناك. وبسبب صعوبة التضاريس والمناخ في منطقة الساحل، فكرت فرنسا في إنشاء قوات أفريقية من خمس دول، تسند إليها مهمة “محاربة الإرهاب” بالتنسيق مع قوات “برخان”، وأعلنت السعودية والإمارات عن المشاركة في هذه الحرب عبر مساهمات مالية لدعم القوات الفرنسية في مواجهة التنظيمات المسلحة في منطقة الساحل.

لكن هذا التورط بلا إستراتجية سياسية، ويبقى تابعا منقادا لفرنسا، يخدم مصالحها، فحتى إن كان ثمة إستراتيجية عسكرية لفرنسا في منطقة الساحل، وهي متعثرة،، إلا أنه لا وجود لإستراتيجية سياسية، ولو افترضنا وجود إستراتيجية سياسية، فلا وجود أصلاً لسلطات حاكمة لديها من الشرعية ما يخوّلها الدخول في مسار يقود إلى “إعادة بناء الدولة” في مالي. ثم إن الجيش الفرنسي خسر الحرب منذ فترة طويلة، وهو ما أقر به رئيس أركان القوات المسلحة، فرانسوا ليكوينتر، قائلا: “كنا متفائلين بشكل مفرط، تصورنا في عام 2013 أن كل شيء سيتم حله، وأن النصر على الجهاديين سيكون سريعا وسوف يترجم على الفور إلى نجاح سياسي، أما اليوم فشروط زعزعة الاستقرار في المنطقة مجتمعة”.

والمؤكد أن هذه العملية لا تحقق النتائج المتوقعة، وفي هذا أشار أحد الباحثين في شؤون المنطقة إلى أن التهديد قد لا يكون تم تقديره حق قدره، والبلدان التي تدور فيها الحرب فقيرة للغاية، وبالتالي ينضم كثيرون إلى صفوف الجهاديين بدوافع متنوعة، كالحصول على دخل لتلبية احتياجات الأسرة.

ومنطقة غرب أفريقيا والساحل، منطقة ثرية اقتصادياً من حيث النفط والغاز واليورانيوم… والشركات الفرنسية حاضرة فيها بقوة، لكنها تجد منافسة من نظيراتها الأوروبية العالمية، وأي تسابق على الاهتمام بالمنطقة ستكون بوابته حتماً المجال الأمني. ثم إن قوة “برخان” هي سابع عملية عسكرية فرنسية في أفريقيا، منذ 2006، وقد تدخلت فرنسا في أفريقيا حوالي 50 مرة منذ 1960، تاريخ استقلال معظم بلدان غرب أفريقيا والساحل. ولهذا السبب، يرى جزءٌ من الرأي العام في المنطقة أن أيّ تدخل عسكري في المنطقة هو أقرب إلى استعمار جديد منه إلى طرد شبح “الإرهاب”.

وتعمل باريس على حماية مصالحها الجغرافية السياسية والاقتصادية، ذلك أن منطقة الساحل الأفريقي تعد بمثابة مخزن من الثروات المنجمية الجاهزة للاستغلال. وقد تدخلت فرنسا أيضا لحماية إمدادات اليورانيوم من النيجر، والتي تلبّي 30% من احتياجات المحطات النووية في فرنسا. ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 50% قريبا، وهذا ما يفسّر تمركز العشرات من قيادة العمليات الخاصة الفرنسية على مقربة من مناجم مدينة أرليت وأكوكان، التي تستغلها شركة “آرافا” الفرنسية. وكان تقرير برلماني فرنسي، نُشر سنة 2015، قد أشار إلى أن التدخل العسكري الفرنسي في مالي يسهم في تحسين “جودة التجهيزات العسكرية الفرنسية، وتعزيز فرص صناعة الأسلحة الفرنسية والأوروبية الموجّهة للتصدير”.
جريدة الأمة الإلكترونية