جناية الإداري على السياسة

جناية الإداري على السياسة

كتب بواسطة :د.عمار جيدل / كاتب وباحث


عرفت الجزائر منذ استقلالها أزمة شرعية النظام السياسي القائم، وبالرغم من تعدُّد  المحاولات الجادة من رجال مخلصين لأجل إرجاع الأمور إلى نصابها، فإن كلّ تلك المحاولات لم تزد النظام الحاكم إلاّ تشبّثا بالأساليب القديمة الممعنة في التفرّد بالقرارات المصيرية، التي تهم حاضر الوطن ومستقبله، فكانت البداية العرجاء، باستقالة فرحات عبّاس من المجلس التأسيسي ودفعه إليها الرغبة الملحّة للاستفراد بالسلطة، ثم كان الإقصاء الناعم والخشن لكلّ من سوّلت له نفسه التنبيه إلى خطورة الحكم الفردي على الاستقرار السياسي والاقتصادي، بل خطورته على حرية الإنسان وكرامته..

وكما ورد في بيان الأربعة الأفاضل (رئيسا الحكومة المؤقتة الجزائرية، السيدان: فرحات عباس، ابن يوسف بن خده، والشيخ خير الدين محمد عضو مجلس الثورة وأمين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وحسين الأحول أيمن العام لحزب الشعب، وانتصار الحريات الديمقراطية، وممثل الثورة في الخارج)، فإنّ مسألة الاستفراد بالسلطة داء عضال لا يطمع معه في تحقيق حرية أو كرامة، بل هو مناقض للشخصية الجزائرية التي رفضت مثل هذه التصرفات في كلّ حقب التاريخ.

لا شكّ أن الوضع الراهن في ظل حراك أسّس لوعي إستراتيجي مفاده: استعادة الشعب وخاصة الشباب وعيهم بقدرتهم على بناء الوطن وحمايته، فضلا عن وعيهم بحاجة الوطن إليهم، فالحراك بالنسبة إليهم ليس حدثا موسميا أو جُمُعَاتِيًا بل يمثّل وعيا إستراتيجيا، لا يمكن بتمكّنه من الضمير أن يقبل الشاب الجزائري تغييبه عن تقرير مصير وطنه، أمّا تَغَيُّبَه فمجرّد التفكير غير وارد.

إحداث ديناميكية سياسية حقيقية بهذا الوعي الحراكي يفرض رُشْدًا سياسيا، لا يصلح معه التعامل بعقلية إِدَارَاتِيَة، لأنّ مشكلة هذه العقلية أنّها عاجزة عن التقدير الموضوعي للتحديات السياسية، فمثلا الظن أنّ أهمّ التحديات السياسية الدستور، لا ينم عن فهم صحيح للوضع، أو هو نوع هروب إلى الأمام، فهل عبّر الشعب في أي مرحلة من مراحل الحراك عن مطلب إصلاح نصوص الدولة؟ كان الجمهور يتنادى “اذهبوا جميعا لا نريدكم”، لأنّه كان يرى فيهم ممثلين للاستبداد وهم ذاتهم من مسوّقي الفساد والمنتفعين من بقاياه، فكانت الكلمة المفتاح “كليتو لبلاد يا سراقين”.

وعدم الانتباه إلى هذا التنادي الوطني العام، يعبّر عن عقلية إداراتية في النظر إلى الأزمة. والإداراتية أبعد من أن ينتظر منها التقدير المستوعب لحجم المخاطر السياسية الداخلية والخارجية، كما يستبعد أن تكون لهذه العقلية اهتمام بالخلفية الفكرية أو الثقافية للعمل السياسي ومآلاته الحضارية، فضلا عن فهم مشكلات التوافقات وصناعة الوعي المشترك.

الإداري الذي جيء به إلى الفضاء السياسي، هو في الغالب الأعم من الذين التحقوا في مقتبل العمر بالإدارة، فكانوا أقرب إلى قبول منطق الوضع تحت التصرّف، وهي عقلية مباينة للعقلية “البيروقراطية”، إذ يشف المصطلح الثاني عن التحكّم التقني أو العلمي في ملف من ملفات التنمية، أما المصطلح الأول، فيشفَ عن طول المكوث في المناصب الإدارية بمختلف رتبها، والمكوث فيها طويلا، يترتّب عليه أحد أمرين، إما أن يكسب صاحبه خبرة، فيكون بهذا بيروقراطيا، أي عارفا بملف من ملفات التنمية، أو أن يصبح قديما في المنصب، والبون شاسع بين صاحب خبرة عشرين سنة في الإدارة، وآخر قديم في المنصب لمدة عشرين سنة.

فالأول يكون حاصل خبرته هو مجموع (1+1+1+….+1=20) السنوات التي قضاها متدرّجا متطورا ناميا في الإدارة، فيكون بهذا السعي بيرواقراطيا بامتياز، أما الإداراتي فلم يتطوّر فكانت تهيمن على عقله ذهنية السُخرة التي تحكم الإداري فكانت أقدميته جُداء (حاصل ضرب) السنوات التي قضاها في الإدارة أي السنة المكررة أي  x 1 x 1 x 1×1 1×1…. x 1=1)، وشاهد هذا، لغته الموغلة في الإدارية والبُعْد عن اللغة السياسية، تسمع تصريحات هذا النمط من الناس فستجده معبّرا عن التسلّط أكثر من تعبير عن وسائل الحلحلة السياسية..

لهذا كانت جناية العقلية الإداراتية على السياسة وخيمة، لا تقوى على تأسيس خطاب سياسي راشد متوازن يتسرّب عبر الفضاءات المستعصية الاقتحام، بل كثيرا ما يعود بها القهقري فيؤسس لغة الخشب بامتياز، إذا كان لها ما به تمتاز.

الجزائر أزمتها سياسية، وبغير الأدوات السياسية لا تحل المشكلات، وكلّ محاولات القهر والحجر على الرأي المخالف لا يحلّ المشكلة، بل يؤزّم الوضع ويؤسس لوضع لا تحمد عقباه..ووجود الوعي الحراكي يدفع العقلاء إلى التفكير الجدي في الوسائل السياسية التي بمقدورها أن تسير بالوطن في اتّجاه الحل، وليس في الاتّجاه المعاكس، وأوّل أماراتها الابتعاد عن التعامل مع الشعب بالأساليب البالية، لأنّها لا يمكن أن تكون طريقا لاستجلاب الشرعية ولا مطمع فيها لتكون باعثة على ديناميكية سياسية راشدة بقوى ناشئة وأخرى متجددة.