شاخ حكم الرعب والتجسس والملاحقات
ليس هناك من مستبد يقبل سماع حقيقة أن الدكتاتورية وقرار الأقلية المتغلبة المتفردة بالسلطة هو ما أوصلنا لما نحن فيه من حال سيء ومستقبل مخيف… والمستبد مهما رأى أنه يملك أزمة الأمور فإنه سرعان ما يفقد كل شيء، يفقد كل سلطة وكل احترام، ويكون نقطة سوداء قاتمة في تاريخ الأمة أي أمة..وبمقدار ما يرى نفسه محترما معصوما صائب الموقف والقرار، يكون الرد عليه يوم سقوطه غاية في احتقاره..
وكلما ابتعد الحكم عن الواقع غرق في وهم أن العالم كله ضده واستبد به الهوس بالمتربصين.. فالتأييد الأعمى، الذي يفرضه، سرطان يفتك بالعقل والخلق والسياسة وكل شيء، ويورث تسلطا أعمى.. ويوهمه ضعفه أن التجسس والتحكم والسيطرة على المجتمع هو الذي يضمن له البقاء والمحافظة على السلطة…
وتلجأ الحكومات المنهارة في زمن شيخوختها إلى التجسس، وترى أنه هو الذي يحفظ كيانها ويرصد أعداءها، فتضخم من هذا الجهاز وتعلي من شأنه وتفتح أمامهم الأبواب الواسعة، ويصير المجتمع وكأنه مكتب للتحقيق، فالكل متهم، والكل خائف.. وفي مثل هذا الأجواء المسمومة، تصبح حرية الرأي أخطر من أي سلاح أو مخدر، وكل القرارات المهمة ضدها..
وهناك حقيقة تاريخية تغفل عنها الحكومات ولا يجرؤ أحد على ذكرها في غمرة طغيان الملاحقات وترميم جدار الخوف، ألا وهي التناسب العكسي بين زيادة ونفوذ الجاسوسية وقوة الحكم، فكلما زاد عدد الجواسيس وقوي شأنهم ودورهم في المجتمع، كان زمن انهيار الحكم قريبا، لأنهم يكونون سلطة داعمة للحكم في البداية، ثم مشاركة مؤثرة في قراراتها في المرحلة الثانية، ثم تستبد بالأمر في المرحلة الثالثة..
فيغيب المنطق السياسي ويطغى العقل الأمني، فتنعدم الثقة بين الناس ويسود الرعب مع الأجهزة الخفية وانتشار المراقبين، ويكره الناس العمل لأنفسهم وبلدانهم، وتهون القضايا لديهم ويمقتون أوطانهم وتقل نزعة الحمية عندهم، لأنهم يشعرون بأنهم مطاردون ومسحوقون فيها، ذلك لأن أجهزة الجاسوسية لا تبني مكانتها لدى الحكم إلا بعد إخافته وإذلاله وإشعاره بالحاجة الدائمة لهذا الجهاز الذي يبعده يوما بعد يوم عن الواقع، فتصبح سمعه وبصره وعقله، ليغرق في وهم أن العالم كله ضده، تخيفه وترهبه حتى يأتي الزمن الذي تسلبه الحكم نهائيا أو تحتفظ به رمزا فارغا وتكمل مشوارها في ممارسة السلطة الفعلية.
ص أ إ