الحراك السلمي… وحاجته إلى التقييم والنقد

► الحراك السلمي… وحاجته إلى التقييم والنقد ◄
◙ لقد علمتني مهنة التعليم التي قضيت فيها مساري المهني،أن النقد البناء ضروري في كل مجالات الحياة، فهو يخرج الإنسان من النرجسية، باعتباره أداة من أدوات العقل التي تساعد الإنسان على استخلاص العِبر والدروس من تجارب الحياة القاسية، بنيّة تصحيح المسار وإعادة توجيهه نحو الاتجاه الصحيح. لذا فالنقد بهذه الصفة ليس تسفيهًا للموضوع المنقود أو تنقيصا من أهميته، وإنما الغاية منه البحث عن الخلل لتصحيحه ولضمان النجاح للانطلاقة الجديدة، على أساس أن النقد هو صمّام الأمان لكلّ الجهود البشرية الهادفة إلى ترقية الحياة.
◙ ما من شك أن الحراك السلميّ يشكّل منعرجا هاما في حياتنا المعاصرة، سيسجله التاريخ بأحرف من ذهب، فقد نجح الشعب من خلاله في كسر جدار الخوف وفي إنهاء قبضة آل بوتفليقة على الجزائر وإحالة الكثير من رموز الفساد إلى العدالة. كما أنجب الحراك جيلا جديدا واعيا استطاع أن يتحدى سياسة غلق وسائل الإعلام، بواسطة الانترنيت وفضائها الأزرق، الذي وفّر فرص التواصل الأفقي بين الشباب خلافا للتنظيم الهرميّ المعهود في السابق، وهذه الصفة من صفات المجتمعات الحديثة ذات الوعي المدني الكبير. لقد فاجأنا هذا الشباب بالهبّة الشعبية السلمية الرائعة التي انطلقت يوم 22 فيفري2019م لتستمر مدة سنة كاملة دون توقف، وقد أثارت إعجاب العالم الذي غيّر نظرته إلى الجزائر بالإيجاب، بعد أن سوّد الاستبداد والإرهاب صورتها لدى الرأي العام العالمي.
◙ ورغم هذه المكاسب التاريخية الكبيرة، فإن الفرحة لم تكتمل، بسبب صمود السلطة القائمة ونجاحها في الالتفاف على الحراك – خلافا لما تدّعيه من وصل معه- لأسباب كثيرة اختلف في شأنها الرأي العام. ونظرا لتعليق الحراك بسبب جائحة وباء كورونة القاهرة، أتساءل إن لم يكن من الأنسب القيام بعملية تقييم ونقد لمسار الحراك السلميّ من طرف المشاركين فيه، قبل التفكير في الانطلاق في مرحلة جديدة من هذا النضال الشعبيّ السلمي؟ هذا ولا شك أن حظوظ نجاح عملية التقييم هذه، مرهونة بمدى شجاعتنا في النقد البناء وذلك بطرح كل الأسئلة المحرجة على أنفسنا، ليس من أجل جلد الذات أو البكاء على الأطلال، وإنما من أجل تشريح مسار الحراك لمعرفة مواطن الضعف لتلافيها مستقبلا. ومن الشجاعة أن نسأل أنفسنا – خاصة نحن المثقفين- أين أخطأنا، بدل رمي الكرة إلى ميدان الآخر متسائلين عمَنْ تآمر علينا؟ ولعل ما يزيد من أهمية ممارسة هذا النقد الذاتي بكل موضوعية وبكل هدوء ورزانة في هذه المرحلة التي يمكن أن نسميها بـ “استراحة محارب”، كون الحراك هبّة شعبية شاركت فيها جماهير غفيرة بأطيافها السياسية والثقافية وفئاتها الاجتماعية المتنوّعة،عبر مسيرات صاخبة غاضبة على السلطة المتغوّلة، دون تجربة تذكر بسبب حرمان الشعب من حقه في التظاهر السلمي لعقود طويلة. لماذا غاب دور النخب الناقد وهو ضروري للحراك في عملية الترشيد، علما أن من طبع الهبّات الشعبية الهادرة، طرحها للمطالب المشروعة في قوالب انفعالية وعاطفية أحيانا، ومن ثم فهي في حاجة إلى التعقيل وإلى إسعاف لترجمة انشغالاتها إلى أفكار سياسية واضحة، مرتّبة حسب الأولوية وحسب ظروف التدافع على قاعدة:” لا تكن ليّنا فتعصر ولا تكن قاسيا فتكسر”.
◙ رغم أهمية الحراك السلمي في نشر الوعي السياسي والمدني، فلا أحد ينكر الخيبة العارمة التي عمّت الوطن، جرّاء نجاح الثورة المضادة في إيقاف مدّ الحراك قبل تحقيق مطلب تغيير المنظومة السياسية الجائرة. لذلك من واجبنا أن نتساءل بوعي عن مواطن الخلل في مسار الحراك، هل يكمن ذلك في تبني طابع المجابهة بدل تبني أسلوب المرونة مع ممثلي النظام القائم؟ هل يكمن الخلل في رفع سقف المطالب عاليا ورفض ما دون القطيعة التامة مع السلطة القائمة؟ هل أخطأ الحراك حين صرفَ نظره وسكت عن بعض الشعارات النابية المستهدفة لمسؤولين كبار، بدل الاكتفاء برفع شعارات ذات محتوى سياسي؟ هل يكمن الخلل في عدم اختيار ممثلين للحراك يخطّطون له ويسيّرونه كما حدث في انتفاضة لعروش بمنطقة القبائل سنة 2001؟ هل يمكن اعتبار تعدد الرايات المرفوعة سببا من أسباب نجاح السلطة في إحداث ثغرة في وحدة صفّ الحراك؟ هل أخطأ الحراك حين رفض التعامل مع أحزاب المعارضة،كرفضه لأرضية عين بنيان(6 جويلية 2019)السياسية التي قدّمتها مجموعة من الأحزاب والنقابات والشخصيات الوطنية المنضوية تحت تسمية (فعاليات قوى التغيير من أجل نُصرة مطالب الحراك)، وكذا رفض أرضية أحزاب المعارضة الأخرى المنضوية تحت تسمية (الباد)، وعدم التجاوب مع أرضية المجتمع المدني المنجزة في شهر أوت 2019؟. وهناك من يتساءل هل أخطأ الحراك حين رفض المشاركة في الانتخابات الرئاسية يوم 12/12/2019 رغم ظروفها الصعبة؟. أم أن الخطأ كامن في عدم تفطنه إلى تصدع جبهة الحراك بفعل الصراع القائم بين الأطياف السياسية المختلفة أثناء تنظيم المسيرات، بدل توحيد جهودها من أجل تغيير النظام أولا، ثم تأتي المنافسة الشرعية لاحقا بعد بناء منظومة سياسية ديمقراطية جديدة؟.
◙ هل أخطأت النّخب بأطيافها المتنوعة حين اكتفت بدور المرافقة للحراك بدل قيادته إلى برّ الأمان عن طريق إنارة دربه بالنقد البناء وبطرح الأسئلة المحرجة في اللحظات المناسبة؟ وأمام إصرار السلطة على التمسّك بمنطق “سمعنا وعصينا”، هل كان من الأنسب أن تقود النخبُ الحراكَ نحو تصعيد أساليب النضال السلميّ؟ ثم هل يفسّر سكوت النخب بخوفها من ردّة فعل جماهير الحراك الانفعالية الأمر الذي قلب الوضع رأسا على عقب فذابت النخب في الصفوف بدل قيادتها للزحوف؟ أم أن النخب التقليدية قد تجاوزها الزمن ومن ثم لا بدّ من ظهور نخب تناسب عقول أجيال الفايسبوك لقيادة المرحلة القادمة؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبار غياب الوعي السياسيّ الناجم عن عقود الأحادية، مسؤولا عن سقوط النخب فأصبح الحراكيون يُشهرون سلاح التخوين ضد بعضهم البعض، بدل الاحتكام إليها وقبول الاختلاف وإقرار الحوار كوسيلة للتعاطي مع الحدث؟
◙ هذا غيض من فيض الأسئلة المحرجة التي يجب أن يجيب عنها أنصار الحراك بروية ومسؤولية،عبر تنظيم ندوات محلية وإقليمية ووطنية لتقييم مسار الحراك بكل موضوعية، من أجل تحديد مواطن الضعف والقوة فيه، ومن ثم يمكن رسم خارطة طريق جديدة ناجعة، قبل التفكير في العودة إلى جولة أخرى من النضال السلميّ في طبعة جديدة. وإذا كان الحراك الشعبي قد أكمل سنته الأولى محتفظا بطابعه السلمي، فإن وحدة صفّه قد اهتزّت لأسباب كثيرة، لذا يجب العمل خلال مرحلة التقييم من أجل ترميمها وجبرها، لأن وحدة الصف هي ثالث الأثافي في النضال السلميّ من أجل التغيير(السلمية/ الصبر/ وحدة الصّف).
◙ ومن جهة أخرى فلا بد من الإشارة إلى أنّ نخبة السلطة قد تنازلت عن عقلها وهي منتشية بتعليق الحراك بفعل جائحة كورونة، فسكتت عن التعسف الممارس ضد رموز الحراك عبر الاستمرار في اعتقالها خارج روح القانون، بدل الدعوة إلى وجوب اتخاذ إجراءات التهدئة لتمهيد الطريق أمام مشروع حوار حقيقيّ يفضي إلى حلّ توافقي يستجيب لمطالب الشعب المشروعة. وهكذا فإن هذه النخبة -مع الأسف- قد اختارت السكوت حسب قاعدة:{ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار/ فاحكم فأنت الواحد القهار}، فهل نسيت بفعل نشوة الغُنم أن واجبها هو أن تقنع أكابر القوم بأن خيار “الردع الأمني” لا يحلّ الأزمة السياسية، وبأن القوة لا تصنع الحقّ كما قال المفكر جون جاك روسو. هل غاب عن نخبة السلطة أن “ديناميكية النضال” حيّة لا تموت ولا تنكسر أبدا وإن فترت مؤقتا لسبب أو لآخر؟ فهي مخزونة في دواخل المجتمع كما يخزن الشتاءُ العواصفَ، لتعود إلى السطح بفعل تراكم الاحتقان السياسي والاجتماعي الذي يلوح في الأفق بقوة. وهل غاب عن القائمين على خلايا التفكير في الدولة أن أكابرنا هم بصدد تضييع فرصة التغيير السلمي التي صنعتها عبقرية الشعب؟
◙ في الأخير أودّ أن أعيد إلى أذهان الشباب دور الشاعر الكبير نزار قباني في ممارسة “وظيفة النقد” ضد الاستبداد في العالم العربي، وقد أكّد أن المفكّر إذا أصبح بوقا، يستوي عندها الفكر والحذاء، كما أكّد من جهة أخرى أن في النقد دواء ناجع:[ وإن أكُنْ قد كويتُ لحم بلادي/ فمن الكيّ قد يجيء الشفاء]. وقال في السياق نفسه المغني الأمازيغي المناضل معطوب لوناس:[خاسْ أوْثَضْ إڤمَا أسَاڤِي/ ثاسَاوْ اُورْتُوڤِي/ إوَاكَنْ كانْ إدِيفْرِوَسْ]. فواجبكم أيها المثقفون أن تمارسوا وظيفة النقد البناء في المجتمع برزانة لتحريك أوضاعه نحو الأفضل، كي لا تنزل العقول بنا إلى مستوى الأحذية، وكي لا نضيّع على أنفسنا فرصة التغيير السّلس التي أهداها الحراك السلميّ للقائمين على شؤون الدولة…فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
محمد أرزقي فراد