ضمانات إنجاز دستور الجزائر الجديدة

كتب البروفيسور عمار جيدل

(( ضمانات إنجاز دستور الجزائر الجديدة ))

مقدمات أساسية :
=========
1- علاقة الدستور بالشعب :

إنّ القول بأنّ” الدستور فوق الشعب” لا يمكن أن يصدر عن تصوّر واضح لمفهوم الدستور، ويكفيك أن دستورية الدستور مبناها في المقام الأوّل، الإرادة الشعبية السيّدة، إذْ الدستور الذي لا يعبّر عن الإرادة السيّدة للشعب ليس دستوريا، لأنّه لم يعبّر عن إرادة صاحب الحق الأصيل(الشعب)، ولم ينتج سلطا ومؤسسات وفق إرادته السيّدة، ولم يختر اختيارا سيّدا شكل نظام الحكم الذي يريد، فكيف مع كلّ ذلك، يقال بأنّ الدستور فوق الشعب؟
ولعلّ مصدر الخلط هو الاشتباه في المقامات، بالنسبة للذي للمرافع عن دستور فوق الشعب، فخلط بين مقامين، أو عدم التمييز بينهما على الأقل، أوّلهما: مقام بناء الدستور، والثاني: مقام حاكمية الدستور، فمقام بناء الدستور، واضح فيه أنّ الدستور لا ينبثق إلاّ عن الإرادة الشعبية السيّدة، ومقام حاكمية الدستور شأن آخر، فهو سياق يؤكّد فيه أنّ الشعب إذا وضع دستورا بإرادته السيّدة، ينبغي أن يُلْزَمَ به ويُلْزِمَ به، لكن بشرط أن ينبثق عن إرادته السيّدة المُعبَّر عنها بطريقة شفافة .

2- علاقة الدستور بالقيم :

يعبّر الخبراء عن إرادة المالك الأصيل لوضع الدستور، فهم ليسوا المالك، بل معبّر عن إرادته، ولهذا لا يتقدّم الخبير على رأي الشعب وإرادته السيّدة، ومن ثمَّ فإنّ القول بأن الدستور ليس بحاجة إلى القيم، يُعَدُّ تجاوزا صريحا لصلاحيات الفني (الخبير)، وتجاوزا بَيِّنًا لوظفيته، وهو استحواذ على التعبير عن إرادة الشعب بغير سند من صاحب الحق نفسه .
تتلخّص مهمّة الخبير في التعبير القانوني عن الإرادة الشعبية لا أن يكون إرادة بديلة عنها، ومن مَالَ إلى هذا المسلك يريد أن يكون صاحب الإرادة النافذة في وضع الدستور وشكل الحكم، وبالتالي كأنّه يقول لا حاجة إلى الإرادة الشعبية ولا للقيم، وهو كسابقه يعتبر الخبير فوق الدستور، لأنّ الدستور ملك يده، يصوغه على وفق ما يريد، ولو سلّمنا بهذه المقولة ولم نردّها، لقبلنا بدستور غير دستوري، وهذا بلا شك، غير الدستور المتعارف عليه دوليا، وهو ليس الوثيقة التي يُلزم فيها الشعب السلطة بإرادته السيّدة، بل هو على العكس من ذلك تماما.

3- علاقة مؤسسات الدولة بالدستور:

الدستور وثيقة تُقَيِّدُ إرادةُ الشعب بموجبها كلّ السلط والمؤسسات، وهذه السلط والمؤسسات لا يمكن أن تنبثق إلاّ عن طريق الإرادة السيّدة للشعب، بمعنى أنّ كلّ السلط السابقة عن التفكير في وضع دستور للجزائر الجديدة، ينبغي أن لا تكون عبئا على الدستور الجديد، لأنّها إن تدخّلت وفق المسالك القديمة في وضع الدساتير وتعديلها، فإنّها لن تتجاوز مطبّات غير الدستورية التي رافقت عملية الدسترة منذ عرفت الجزائر الاهتمام بالدسترة .
إنّ ممارسة الشعب حقه السيّد في وضع شكل نظام الحكم والمؤسسات والسلط، ينبغي أن لا يُشَوَّشَ على إرادته السيّدة بسلط قائمة على الدستور السابق، لأنّها ستأثّر سلبا على إنفاذ إرادته السيّدة في تصوّر الدستور الجديد الذي تنبثق عنه سلط وفق تصوّره للدستور الدستوري.
إذ السُلَط تولد بعد تَكَوُّن الدستور لا قبله، فلا يصح منطقيا أن تلد الأَمَةُ ربَّتها، فكأنّ السلطة الواقعية تملي نوع الدستور الذي يحكمها، هذا ترتيب غير سنني، وإلاّ سنعود إلى الأساليب القديمة التي تتضمّن الأمالي المبطّنة للاختيارات المجبر عليها، لأنّ مجرّد تدخّل السلط المُكَوِّنة لنظام الحكم الفعلي في إبداء الرأي مؤثّر على حرية الإرادة في وضع الدستور وتعديله. من هنا كان لزاما على سلط الواقع التحفّظ لا المسارعة إلى إبداء الرأي. طبعا إذا كنّا نرغب في ولادة سننية لدستور يقيّد السلط بإرادة الشعب وفق قيمه.
عوامل مساعدة على إنجاز دستور حقيق بهذا الاسم :

أولا: استعادة الشعب الكلمة في حق تقرير نظام الحكم وطريقة اختياره ومراجعاته وتعديله :

أهمّ مؤشرات الرغبة الصادقة في وضع دستور دستوري، أن نُرْجِع الكلمة إلى الشعب (كلّ الشعب)، لأنّ كلّ الدساتير تنص على أنّ الشعب مصدر كلّ سلطة، فهل السلطة الموجودة مصدرها إرادة الشعب السيّدة التي لا وصيّ عليها؟، وإلى الآن ليس في بلدنا من الحريات ما يسمح بالتعبير الحقيقي عن نبض الشارع كما هو، لا كما أَرَادَتْه السلطة أو تريده، نحن بعيدون عن هذا المستوى الذي يسمح بتأطير حقيقي للمجتمع، وإدارة المسألة السياسية باقتدار.
كما تنص النصوص أيضا على أنّ السيادة الوطنية ملك للشعب وحده، فما مظاهر امتلاكه وحده لهذه السيادة، ما الأطر الموضوعية التي يمكن من خلالها التأكّد من أنّ الممارسات التي تسوّق على أنّها بدرت منه، هي كذلك في حقيقة الأمر.
تضمنّت نصوص الدستور عبر مختلف العهود أنّ السلطة التأسيسية ملك للشعب، ولم نر لهذه المادة القانونية أي أثر منذ لحظة الاستقلال إلى يوم الناس هذا، فقد كانت السلطة وما زالت صاحبة السلطة التأسيسية تقرر ما تشاء، ومن خالفها خوّنته، وسلّطت عليه وسائل الإعلام، وكتبة شُرَّاح ما تريده السلطة من الشعب، وقد عاصرت شخصيا تشهيرا
بمخالفين في الرأي السياسي أو مناهضين لاختيارات السلطة، لم يشفع لهم ماضيهم النضالي وتضحياتهم الوطنية الجسيمة، فمجرّد الاختلاف في الرأي، يعرَّض صاحبه لسيل من الاتّهامات التي تنأى الجبال عن حملها.
هل اختارت الجزائر في أي مرحلة من مراحل بناء الدولة الوطنية طريقة سننية (موضوعية) للممارسة الشعب سلطته التأسيسية؟ لا أعرف هذا في الجزائر المستقلة. كلّ الفترات عرفت مسلكا واحدا ووحيدا، سلطة تريد شعبا على المقاس، ومن خالفها اعتبرته عدوا للشعب والوحدة الوطنية و…والواقع أنّه مخالف لمسلكهم في وضع الدستور وتسيير الحياة السياسية.
لا يُرى في تصرفات السلطة ما يدلّ على الرجوع إلى الشعب في التصوّرات والتصرّفات، فلا الدستور رُجِع فيه إلى الشعب فعليا، و لا هم احترموا الدستور – الذي وضعوه – عندما جدّ الجد. ويكفي للكشف عن ذلك التدقيق في الأسماء التي تعرّضت لتشهير حينا والإهمال حينا آخر بالرغم من وزنهم الوطني نضالا وعلما ومواقفا. كانت اللغة المحبّذة هي القوة القاهرة ولا شيء غيرها، والاحتقار والإهمال والنفي من المشهد السياسي، و…
اشتملت النصوص أيضا على نص رائع مفاده:” يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها”، واللفظ الأخير (يختارها) عليه مدار كلّ المساعي غير الدستورية لأجل بناء دستور، ما مؤشرات الاختيار وما آليات التعبير عنه عمليا، إلى يوم الناس هذا، السلطة تختار من يحكم وتختار من يعارض، وترفض كلّ من خالفها، فهل يمكن أن يقال للناس أنّهم يختارون، ولا يحق لهم أن يختاروا إلاّ ما سمحت به السلطة، طبعا في إطار القانون، وهي الصيغة المشهورة للاستدراك على من لا يروق؟ والجملتان متناقضتان، لا يُجْمَعُ بينهما إلاّ يتعسّف في التعامل مع الإرادة الشعبية، ومع حقّ المخالفين في إبداء الرأي؟
مثلا: يُقال لك اختر ما شئت من المؤسسات، واختر من شئت إليها، ولكن ليس لك ما تختار ما هو خارج العلبة؟ وهذا يذكّرني بالجبر الناعم على اختيار ما تختار لك السلطة؟ لأنّها هي من تختار الموالف والمخالف (المعارض).
وهذا عين التلاعب بالنص القانوني:” يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها”، إذ لا اختيار له، وفي أحسن الأحوال يُخْتار لك ما منه تختار، فكيف يمارس هذا الحق.؟
ومما يذكر في تلك النصوص”يمارس الشعب أيضا هذه السيادة عن طريق الاستفتاء وبواسطة ممثليه المنتخبين”، ما آليات التعبير عن هذه السيادة، وما دليل أنّ المنتخبين يعبّرون عن الإرادة الشعبية بالفعل، فيكفيك مطالعة تصريحات مسؤولين سابقين في الدولة لتعرف مشكلة الثقّة في انتخابات في ظلّ السلطة، وهل بمقدور السلطة أن تقبل بأن تكون نتيجة إرادة شعبية سيّدة، وهناك أمارات وشواهد لا تخطئها العين المجرّدة، أنّ بعيد المنال، وأوّل أماراتها الانفتاح الحقيقي على الآراء الموجودة في الشارع الجزائري، والشعب هو الذي يقرر ولا يمكن أن يقوم مقامه غيره في تحديد الصالح والطالح من الأقوال والآراء.
وقد أشارت تلك النصوص إلى حقّ رئيس الجمهورية في اللجوء إلى إرادة الشعب مباشرة، وهذا نفسه ينبغي أن يكون صادرا عن إرادة الشعب، فهل الشعب هو من أعطاه هذا الحق؟ وهذا لا تفرضه سلطة، بل ينبغي أن يعرف من الشعب نفسه وفق آليات متّفق عليها من قِبَل القوى الحيّة في المجتمع، خاصة في ظل تفرّد السلطة الوقتية بحق إنشاء الدستور وتعديله عبر العصور، فلم نعرف انتخابات حرّة ونزيهة وشفافة، فكيف نعرف في ظلها ما يريده الشعب ؟

ثانيا: الشعب والصلاحيات الممنوحة :

عطفا على ما سلف، فإنّ الرئيس بشر، ومهما كان صلاحه ونباهته، فإنه لا يمكن أن يتجاوز طور البشر وما يحيط به من الضعف والقصور والتقصير، وهنا هناك أسلئة جوهرية عليها مدار التحليل:
– ما الذي يمنعه من أن يستغل هذا الحق لتصفية خصومه، والقيام بضربات دستورية استباقية ضد خصومه أو من صُوّر له أنّهم خصومه؟
– ما الذي يمنعه قانونا من أن يتفرّد بالسلطة، فَيُسَلَّطُ بالقانون على رقاب المخالفين؟
– ما الذي يمنعه من أن يقع تحت طائلة الضعف البشري الذي يستمرئ بموجبه عنفوان السلطة، فينسى وظيفته (العقد بين وبين الشعب)، وخاصة إذا أُحيط بمن لا ينصح للوطن، بل لا يُقدم إلاّ على ما يحفظ له الرغيف والوظيف؟
الدستور يحمي الرئيس بإرادة الشعب من جملة الاحتمالات الممكنة،والتي يمكن تلخيص بعضها في الآتي:
– حماية الرئيس من نفسه لصالح الوطن.
– يحمي الرئيس من التغوّل المحتمل على الدستور أو الشعب.
– يحمي الرئيس من إمكان الوقوع تحت طائلة الكذب على الشعب، فيصوّر إرادته على خلاف ما هي عليه في الواقع وحقيقة الأمر.
لهذا فإنّ الدستور الدستوري ( أي الذي يضعه الشعب ويعدّل وفق آليات متّفق عليها) هو الذي يؤطر الرئيس بقيود عدم التغوّل الفعلي، فيضع ضمانات واقعية تمنعه من التفكير في التغوّل بالفعل، هذه الضوابط التي تحرّر الرئيس من الضعف وتحميه منه، لا يمكن أن تكون بخبراء تختارهم السلطة، بل ينبغي أن يختاروا وفق آليات توافقية، وهذه لا تتحقّق بغير مؤسسات لها سند شعبي حقيقي.
هذه الضوابط التي تحرّره من إمكان الخضوع لضعفه أو قبول المساومة في شأن الوطن، وهي التي تسعفه لاختيار حاشية صادقة مع الوطن قبل أن تكون صادقة مع الرئيس، لأنّ الحاشية المُسَبِّحَة بِحَمْدِ المسؤول لا تهمّها غير الوظيفة والرغيف المحسّن، وهي التي تحبّ نفسها أكثر من حبّها للوطن .
الحاكم ليس إلها ولا نصف إله، وهذا ما يؤكّد منع استفراده بوضع الدستور واقتراح تعديلاته، ويفرض اجتهادا بسند شعبي لمنع التغوّل وإنتاج دستور متوازن السلط .
لعلّ من أهمّ مسوّغات هذا المقترح أنّه قد وقع بسبب هذه المادة القانونية أن الرئيس- والذي هو من السلط التي ارتضاها الشعب ويحكمها الدستور- مطلق اليد في مقترح الدستور وتعديله، فما الذي يمنعه من استعمال هذا الحق في غير ما جُعِلَ له، وما أساس هذا الحق؟، هل هو السند الشعبي، فمن أعطاه هذا الحق.؟ قد يقال : الانتخابات، نقول : في معرض تزاحم الموقف يَعْمَد العقلاء إلى المسالك التوافقية في إنشاء الدستور، لبناء دستور وفق المسالك السننية، يعبّر فيه الشعب عن إرادته السيّدة في إطار قيمه الجامعة.

ثالثا:

وردت في نص الدستور عبر مختلف الحقب: “يختار الشعب مؤسساته”، لا أعرف طريقة موضوعية عولج بها هذا الإشكال، كانت المنظمات الجماهرية، واللجنة الدائمة للحزب، في عهد الحزب الواحد معبّرة عن رأي بمن يده زمام السلطة، فلم يعبّر الشعب بطريقة سيّدة وشفّافة عن المؤسسات التي يريدها في دستوره منذ ذلك العهد إلى اليوم، بل كان التعامل بشيء من الغلظة والشدّة مع المخالف في الرأي.
والأدهى أن يُلْغَى المُخَالِفُ، وخاصة إنْ كان شديد المراس غير متنازل عن رأيه، فَيِنْزَل عن رتبته التي يعرفها الداني والقاصي، لمجرد الاختلاف في تقدير الأولويات، فلا ينزل رتبته إلاّ بعد موته، أمّا وهو حي، فلا قيمة له لأنّه خالف توجّهات السلطة، فلا يشفع لدى السلطة ماضيه النضالي، ونصاعة صحائفه في خدمة الوطن، وترى في الوقت نفسه عناية وتكريما لمن لم يبلغوا عُشُرَ معشَار ما بذله أمثال هؤلاء للوطن، هذا هو الواقع، ولا ينكره إلاّ مكابر.
كلّ الشعوب السيّدة الحرة غاية نظامها الدستوري المحافظة على السيادة والاستقلال الوطنيين ودعمهما، فما حظّ هذه المعاني من الاستقلال التربوي والتعليمي، وما حظ اللغة الرسمية في الدوائر الرسمية المالية والإدارية؟ للأسف لا توجد آليات التفعيل عمليا، وإن وجدت النصوص، عُطِّلَت يألف حيلة وحيلة.
النظام التعليمي ينبغي أن ينبثق عن القيم التي بُنِي عليها الدستور، إنّه نصّ في أصل الوضع قائم على المحافظة على الهويّة والوحدة الوطنيتين، ودعمهما، وغايته تحقيق الازدهار الاجتماعي والثقافي للأمة.

رابعا: آليات التعبير عن الإرادة السيّدة :

إنّ الإرادة السيّدة للشعب غير معبّر عنها بالفعل في الدساتير السابقة، والطريقة التي اقترحت بها التعديلات الحالية ليست ببعيدة عنها، فلا مطمع في إنشاء دستور دستوري إلاّ بالابتعاد عن الأساليب الموهمة، التي يدّعي فيها أصحابها التعبير عن هذه الإرادة الشعبية السيّدة، واكتشاف عدم صلتها بها يسنده دليل الواقع، فالدستور عبر مختلف الحقب بعيد عن الوفاء بالكشف عن إرادة الجماعة الوطنية، فكيف بالتعريف بها، فهي من أبعد الأمور بلوغا؟
وأؤكّد أن الأوهام والتمويه لا ينشأ دولة لها دستور، قصارى ما يحققه، هو سلطة لها دستور، وهذا لا يحّل المشكلة، بل يعقّدها، بل هو نفسه مشكلة، هذا الاختيار يضيّع فرصة تفعيل الوعي الاستراتيجي الذي مفاده استعادة الشعب الرغبة في الحضور السياسي، ورغبته الملحّة في بناء الوطن والمحافظة عليه. إنّ الحراك بوصفه وعيا استرتيجيا استعاد الشعب بموجبه وعيه بقدرته على إحداث التغيير الإيجابي، ما استرد الاهتمام بالمسألة السياسية وصناعة خريطة سياسية حقيقية، كلّ ذلك، يؤكّد أنّنا في مرحلة سانحة لديناميكية سياسية راشدة، مدخلها الأساسي الحرية لكلّ مواطن في التعبير عن إرادته السيّدة في إطار القيم الجامعة.

خامسا: المدخل الأساسي لبناء دستور يعبّر عن تطلّعات الشعب :

لا يمكن أن ينشأ دستور في الظروف العادية، فضلا عن ظروف التنازع، ما لم يكن الشعب مؤطّرا بقوى سياسية حقيقية ناشئة أو متجددة، ولا مطمع في إحداث وثبة سياسية وطنية بالقوى الوهمية أو الموهومة. فلا طريقة إلى الحقيقة إلا الحقيقة، وتخصيب الأوهام لا ينتج إلاّ وهمًّا أشدّ.
كلّ محاولات الالتفاف على إرادة الشعب، المالك الأصيل لحق مراجعة الدستور، فضلا عن وضعه، محاولات لا تفضي إلى قصد دسترة الحياة السياسية، لأنّها لا تحقق تقيّيد السلطة بإرادة الشعب، بل العكس هو الصحيح ميدانيا.
رأس ما ترمي إليه الدساتير المُنْشَأَة في الأوضاع السننية هو منع تغوّل السلطة على الشعب، ومنع تغوّل بعض السلطة على البعض الآخر، لأنّنا بذلك نجعل الوطن في خدمة بعض تلك السلطة، وليست السلطة في خدمة الشعب، وكلّ دستور يهمل منع التغوّل لا ينتج إلاّ دستورا لسلطة تقيّد به مخالفا في الواقع أو مخالفا متوقّعا، أي تقييد للشعب أو بعض قواه الحيّة على الأقل، بوجه من الوجوه، وهو أهم مؤشرات عدم دستورية الدستور، أي عدم تعبير عن الإرادة السيّدة .

سادسا: الحلول :

1- المدخل الضروري هو المراجعات الجماعية العميقة في ظل الأزمة المستحكمة، وتفعيل الحراك لإحداث ديناميكية سياسية تنتج وثبة سياسية وطنية شاملة، هذه الإجراءات تسعف الوطن برصّ الصفوف وتجمع كل الشعب على كلمة واحدة، أو ما يقرب منها، تقوي الدولة وتحميها من الاهتزازات الداخلية والضغوط الخارجية، وتيسّر المواجهة الجماعية للتحديات الداخلية والخارجية.
2- الحراك ليس حركة موسمية أو جمعاتية بل يُعَدُّ وعيا استراتيجيا استعاد الشعب بموجبه الحضور في ميدان المزاولة السياسية، ورغبته الملحّة في بناء الوطن وحمايته وتنميته، فتضييع هذه الفرصة هو تضييع وطن، استعاد شعبه حسّ الانتماء إلى الوطن، بعد أَنْ كاد الاستبداد والفساد أن يستأصلانه.
3- الإشكالات السابقة والتي نلخّصها فيما يأتي:
• استفراد السلطة بوضع الدستور وتعديله، وبُعْده عن التعبير عن الإرادة الشعبية السيّدة، يفرض تفكيرا جماعيا في الطريقة السننية للوصول بالوطن إلى البر الآمان بمخاطر أقل، وهذا يمكن تجاوزه بإجراءات عملية:
• تحرير الساحة السياسية من قيود إنشاء قوى سياسية ناشئة جديدة، وغالب القيود تمنع القوى العصيّة عن التأطير من الظهور بطريقة سننية، أو التي يتوجّس منها خيفة بوجه أو بآخر، وهذا لا طريق إلى دفعه بغير السماح بإنشاء أحزاب سياسية بالطريقة نفسها التي يقترح التعديل إنشاء الجمعيات الوطنية. أي تعتمد الأحزاب بمجرّد التصريح، لأنّ منع الحصول على وثيقة الاعتماد لقوى سياسية منظّمة واقعية، لا يقبرها الإنكار، بل قد يكون مفعول المنع عكسيا، فمن أَنْكَرَ قوى سياسية يشهد لها الواقع المعيش، أُنْكِرَ عليه صنيعه (تصّرفه)، وعُدَّ كمن ينكر أمورا واضحة، فينتقل إليه الشك فيه فضلا عن تصّرفه، فيتساءل الوطني العاقل : لماذا مَنَعَت السلطة هذه القوى ذات السند الشعبي من حقّها السنني في الاعتماد؟ وأغلب الأجوبة لا صلة لها بالموضوع، وتَكْفِيكَ نظرة سريعة في قائمة الأحزاب التي تقدّمت بطلب الاعتماد منذ أن عرفت الجزائر التعددية، لتعرف الأمر عن كثب، القاعدة العامة في التعامل مع الظاهرة الحزبية يؤكّد ما نحن بصدده، فلا تبطلها بالاستثناءات التي عرفها دستور 1989م.
• الانتخابات الشفافة التي تقام في ظروف شفافة يسهم الجميع في مراقبتها، ولا تكون الجهة المسددّة لأعمالها (هيئة أو لجنة الانتخابات الوطنية ) تحت وصاية سلطة تنفيذية إنشاء واستبقاءً، وكلّ محاولات التضييق على الإسهام الفعلي الجماعي في وضع هيئة مسدّدة للفعل الانتخابي، مؤشّر تزوير مسبق، ورغبة في إيجاد هيئة لا تتمتّع بسلطة قانونية ومعنوية، لها من المصداقية الوطنية المُجمع عليها، ما يُيَسِّر لها إنجاز المهمّة على أكمل وجه، ومجرّد التفكير بالتفرّد في استحداثها – بصرف النظر عن الاستدراك على التفرّد بوضع معايير الاختيار- فإنّها تضع التفكير في إقامة الجزائر الجديدة محلّ تسائل عميق، هذا إذا سلّمنا بالمعايير وتطبيقها، وتغافلنا عن صاحب الحق في وضع المعايير ثم تنزيلها في الواقع.
• تنبثق عن هذه الانتخابات وفق القواعد المشار إليها أعلاه، جمعية وطنية تشريعية ذات سيادة بواسطة استشارة شعبية حرّة، تكون لها الكلمة مع غيرها من قوى المجتمع (وفق آليات متّفق عليها، منبثقة عنها)في وضع دستور، وهو مع ما يمكن أن يرد فيه تقصير، بلا شكّ لأنّه بداية تجربة جديدة ولكنّها صحيحة إجرائيا، وهي بلا شكّ أحسن من كلّ تجارب الدساتير التي بنيت على التفرّد، مهما كان المتفرّد، لأنّ السلطة المطلقة فساد مطلق.

وتنبثق عن هذه القوى الجديدة، مقترحات اللجان والهيئات المؤسسة لفلسفة الدستور واختيارات الشعب المنبجسة عن قيمّه الحضارية وتاريخه المجيد.
هكذا نتصوّر المدخل الموضوعي لقطع دابر نظام الحكم الفردي، وإقامة حواجز دستورية تمنع التفكير في هذا الانحراف في القابل، فضلا عن منعه فعليا. وزيادة إلى ما سلف فإنّ البداية وإن كانت متعثّرة (وهو احتمال بعيد)خير ألف مرّة من البداية الخاطئة، وهذا أولى ألف مرّة من الاستفراد بوضع الدستور.
وهذا نخلص منه إلى قاعدة مفادها: البداية وإن كانت متعثّرة أحسن من البداية الخاطئة.
• اختيار هذا المسلك يريحنا نهائيا من فكرة أن لكلّ رئيس تعديل دستوري على الأقل، والغالب عليه أنّه من قبيل المعارك السياسية الاستبقاية التي يمارسها الوافد الجديد، إمّا بتصريح منه، أو باقتراح كتبة الحواشي على رغبته، أولئك الذين يجتهدون في اكتشاف رغباته، فَيُدَسْتِرُونَها، ولا عناية لهم برغبات الشعب.
4- الدستور القائم على الإرادة السيّدة للشعب، هو الذي ينتهي باستئصال تغوّل السلطة التنفيذية على الإرادة الشعبية السيّدة إما تصويرا أو تمثيلا، كما يمنع الاستخفاف بقيّمه وهويته المتشكّلة عبر مختلف حقب تاريخه المجيد، هذه الهوية المكتملة التي كانت الأساس في مدافعة الاستدمار، و لقوّتها وتمكّنها من الضمير الجمعي لا يمكن تجاوزها، كما ينهي تغوّل النظام في وحداته المتجانسة على الشعب.
5- الحرص في الدسترة الجديدة على ضمانات تطبيق الدستور، فلا تكون تحت رحمة السلطة التنفيذية السلط المسددة المقيّمة والمقوّمة للفعل السياسي والإداري للسلطة من جهة وفائها بالإرادة السيّدة للشعب، لأنّ هذه السلطة المسددة عاجزة عن الوفاء بمهمّتها إذا كانت تحت وصاية السلطة التنفيذية، لأنّها إن كانت كذلك مُنِعَت بحكم الوصاية من ممارسة حقّها، ويكفيك تذكّر ترشّح الرئيس السابق في العهدة الرابعة، لمعرفة خطورة أن تكون السلطة المسدّدة تحت وصاية السلطة التنفيذية منفردة أو بالاشتراك الذي ينتهي إلى الاستفراد.
6- ومن توابع السلط المسدّدة سلطة المحكمة الدستورية والسلطة القضائية التي يتعيّن لأجل الوفاء بمهمّتها أن لا تكون تحت وصاية السلطة التنفيذية منفردة أو بالاشتراك المنتهي إليها ( السلطة التنفيذية) ، ومنها أيضا سلط الرقابة والمحاسبة، لأنّها لو كانت تحت سلطتها، عطّلت عن وفاء بمهمّتها إلاّ إذا أذنت السلطة أو يسّرت القيام بذلك.
7- تقييد فكرة الإنفراد بالإصلاحات الدستورية (الرئيس أو غير الرئيس) لأنّ استمراء وضع المسؤولية ينسي المسؤول مسؤوليته تجاه المجتمع والشعب، لهذا يتعيّن حماية المسؤول من نفسه التي تسوّل له نسيان المسؤولية الشعبية، فلا ينفرد بتقديم مقترح، بل يشارك غيره من السلط التشريعية والتنفيذية والقضائية والمجتمع المدني والعلماء والمفكرين والأساتذة، فيتُّفق ( وهذا يفيد أنّها تشاورية بسند شعبي ) على النِسَبِ والطرق المانعة من الاستفراد، منعا لتغوّل أي جهة على الجهات الأخرى، وقد علّمتنا الأيام أن الدساتير هي دساتير السلطة التنفيذية التي تقدّم مقترحاتها من خلال الشرّاح عبر مختلف المراحل، وليست دساتير شعب، وهذا ما يؤكّد صحّة مقترحاتنا.
8- استعمال وسائل الإعلام العمومية الثقيلة في أصل ما جُعِلَت له، وهو التعبير عن نبض الشارع كما هو لا كما تريده السلطة، وهو مدخل رئيس لاستعادة الثقة المضيّعة بسبب سوء تقدير متطلبات اللحظة السياسية الراهنة، وهو من العوامل السريعة لاستنبات قوى سياسية ناشئة لها سند شعبي حقيقي، والمحافظة على المسالك البائدة في التعامل مع الحراك الشعبي المبارك ينمُّ عن عدم وعي بأهميته بوصفه وعيا استراتيجيا، استعاد الشعب بموجبه الثقة بقدرته على إنشاء دولة وتنميتها والحفاظ عليها.