فرنسا والسلمية.. التاريخ يوصي بالحذر
يضع المؤرخ الفرنسي بنجامين سطورا في كتابه “عودة التاريخ.. الجزائر بعد بوتفليقة” حراك 22 فيفري 2019 ضمن سياق تاريخي يمتد إلى الحركة الوطنية وثورة التحرير، وهو ما يجعل الكتاب يبدو قراءة هادئة لحدث فرض نفسه منذ نحو سنة ونصف وما زال مادة للقراءات الأكثر إثارة وتناقضا.
يكرس سطورا كتابه في معظمه لتلخيص الخلفيات التاريخية التي تجعل 22 فيفري تعبيرا عن حركة غير مسبوقة نزلت بالسياسة إلى الشارع، ومن هذه الزاوية فهو لا يهتم كثيرا بالمعلومات “السرية” التي طبعت بعض الكتب التي تناولت الموضوع سواء صدرت هنا في الجزائر أو في فرنسا.
على مدى 160 صفحة يلخص المؤرخ الذي تخصص في تاريخ الجزائر والمنطقة المغاربية، التراكمات التي أفضت إلى هذه الحركة الشعبية التي لا يتردد في وصفها بالثورة، ويضعها ضمن ” رزنامة لحظات القطيعة الكبرى التي طبعت تاريخ الجزائر المعاصر، تماما مثل الثامن ماي 1945 و الفاتح نوفمبر 1954 وصيف 1962″، ومن خلال الفصول الستة يقدم صورة ما يجري باعتباره استمرارا للتاريخ الذي نراه في المسيرات ( كما يشرحه الفصل الثالث الذي يحمل عنوان التاريخ في المسيرات)، أو من خلال قراءة تاريخية للعلاقة مع فرنسا وموقفها مما يجري (الفصل الرابع).
لعل أهم ما يثير الانتباه في قراءة سطورا للثورة السلمية هو الحذر الذي يطبع تناوله لمآلات هذه الحركة الشعبية، حذر يبرر الموقف الفرنسي الرسمي الذي يميل أكثر إلى دعم استمرار الوضع القائم، ويلخص سطورا في الفقرة التالية التي وردت في الصفحة 97 كل التعقيدات التي تفسر هذا الحذر إذ يقول:
” هنا، في فرنسا، يشعر ملايين الأشخاص – بمن فيهم كثير من المغتربين الجزائريين- بالقلق بدرجات متفاوتة من تطور الأزمة هناك. وبالمثل ، يلاحظ الجزائريون باهتمام ما يحدث على الجانب الآخر من البحر المتوسط. إنهم على مفترق طرق بين ثلاثة عوالم، العالم العربي وأوروبا وأفريقيا. والجزائر بطريقة معينة، تمثل قطبا مرجعيا في المنطقة المغاربية، كما هو حال مصر في الشرق الأوسط. هناك بالتحديد تجري، بأكبر قدر من الحدة، المعركة بين التقليد والحداثة، بين الإسلاموية السياسية islamisme politique والجمهوريانية الإسلامية républicanisme musulman لذا فإن الأزمة الجزائرية حاسمة، حيث أن نتيجتها يمكن أن تثير سلسلة من ردود الأفعال في الدول المجاورة. هل نريد تهدئة العلاقة بين الإسلام والغرب أو جعلها أكثر حدة؟ وفي هذا الصدد ، لا يخلو موقف فرنسا تجاه الجزائر والجزائريين من عواقب”.
يمثل موقف سطورا رأي جزء من النخبة الفرنسية “الخبيرة” بالشأن الجزائري، وهو رأي له أصداء قوية في دوائر الحكم الرسمية، ويقوم هذا الرأي على ضرورة التعامل الحذر مع ما يجري في الجزائر باعتبار صعوبة قراءة المآلات بسبب التناقضات التي يخفيها الحراك الشعبي الذي يؤجل، بحسب رأي سطورا، الحسم في قضايا أساسية بقيت معلقة منذ الاستقلال، ويزيد غياب تنظيم الحراك وجهة تمثله من ضبابية الرؤية في فرنسا، وفي أوروبا والغرب بشكل عام مما يجعل مسايرة الوضع القائم خيارا أكثر أمانا.
هذه النقطة يشير إليها سطورا بوضوح في الصفحة 155 من الكتاب حيث يقول “إذا كانت الحركة الشعبية التي تتميز بالعفوية والإيجابية والأفقية والسلمية، تريد حقا أن تستمر وتقوم بعملية إعادة بناء الدولة مع تغيير للجمهورية، فلا بد لها من هياكل وتمثيل (…) ثم إن كون الجزائر دولة جيوبوليتيكية بإكراهاتها الأمنية يعقد أكثر إمكانية إصلاحها من الداخل.
مع البحر المتوسط من جهة والصحراء من جهة أخرى، والمغرب، وموريتانيا، ومالي، والنيجر، وليبيا وتونس كجيران، تعلب الجزائر دورا أساسيا. استمرار التحديات الدولية الكبرى، مثل الإرهاب أو الهجرات، يدفع إلى البحث عن الاستقرار، ويجعل مختلف الفاعلين أقل ميلا إلى تجريب معجزة القطيعة الجذرية”. خلاصة قد تكفي لفهم نبرة التفاؤل التي ميزت تناول الكتاب للانتخابات وإمكانية إيجاد مخرج إذا استطاعت السلطة في الجزائر أن تجسد الوعود التي قدمها تبون في حملته الانتخابية وكان جادا في مد اليد إلى الحراك.
هذه القراءة الجيوسياسية والتي تعتمد على خلفية تاريخية عميقة، ويجري توسيعها إلى جوانب ثقافية تتعلق بالنموذج الذي يمكن أن يفرزه أي تغيير عميق في منظومة الحكم تلقي ضوء كثيفا على الموقف الفرنسي ( والغربي عموما باعتبار أن فرنسا ما زالت تمثل مرجعا لمعظم الدول الغربية عندما يتعلق الأمر بالجزائر) من الأحداث التي جرت منذ 22 فيفري، بعيدا عن الغرق في تفاصيل العلاقات الثنائية التي يضعها الكاتب ضمن رؤية أرحب تلعب الذاكرة دورا حاسما في صياغتها وتوجيهها.
نجيب بلحيمر