حتى لا نقع في الفخ…فلنحذر سلاح الاستبداد الفتاك “التطرف الإيديولوجي”
يجب أن نزرع الأفكار التي نحتاج وتصنع المستقبل الذي نريد، أما إحياء الأموات، فلا فائدة تُرجى منه..ويبتعد المؤرخون عن الحقيقة كلما اقتربوا من السياسة…وعندما يتحقق السياسيون من الغرق يُمسكون بحبل الفلسفة والتبرير.. ولهذا، كان هذا وقت يجب أن تغيب فيه الأفكار الجزئية وجدل التاريخ، وتعلو فكرة واحدة وحجة متماسكة قوية تساعد الجميع على الصمود والوحدة في هذا الصراع الطويل المرير…
إذ لم تكن لحظة الثورة، قط، وقتا لتهارش ونبش، وإنما هي لحظة ترتقي فيها الأمة لتتجاوز عقبة الاستقطاب الإيديولوجي والمذهبي والرايات الجزئية، وبعد نهاية المعركة سيأْرَز كل فريق إلى أيديولوجيته، فالانحياز الإيديولوجي ميل طبيعي، والمتربصون يستعجلون “الحسم الإيديولوجي” لنغرق في أعماقه فتغيب عنا فكرة وقضية المعركة الكبرى ضد الاستبداد والطغيان، فنُستدرج لمعارك استنزاف داخلي.
ومن حكمة الثورة وذكائها حسن التعامل مع سلاح الخصم والمتربص، وإلا وقعت في الفخ وأصبحت جزءا من اللعبة…وقد أثبتنا للعالم أننا خرجنا من دون السلاح الأيديولوجي الذي تعرفه السلطة وتخيف الناس منه، وهذه الإستراتيجية صحيحة ونجحت، وكانت عفوية إلى حد كبير، وهذه حالة من الأحوال الأيديولوجية فقط، وهو التخلي المؤقت عن نفسها لتُعلي من استجابة لتحدٍّ أكبر منها، لكن السلطة الآن استطاعت أن تستخدمه (السلاح الأيديولوجي) بقدر من النجاح، فلنحذر من سلاح فتاك بأيدي بارعين في توظيفه وتقسيم الصفوف به..
ولنتذكر، جميعنا، أن سُمّا داخليا كان يفتك بالجسم السياسي والأخلاقي والروحي للبلد ويحطم روح الشعب، قبل 22 فبراير، ولم يزل، والكل يتحدث عنه ولا يجتمع لمواجهته، ثم كانت المواجهات الصغيرة والإهانات وتراكم المظالم ومصائب العهد القديم المتجدد هي التي قدحت نيران المواجهة العظمى (ثورة 22 فبراير) وسبقتها كل الإرهاصات، وأسست للمواقف الفكرية والثقافية العامة…فلا أيديولوجيا محددة، ولا يوجد زعيم ملهم، ولا تنظيم قاد حراكنا الشعبي السلمي، فلنتذكر كل هذا، وثورتنا ليست شبيهة بالثورات الفرنسية والروسية والإيرانية (وكلها حركتها إيديولوجيات قاسرة)، ولم تكن تماما هذا ولا ذاك، بل كانت ثمرة للوعي المتراكم والقهر السياسي المحطم، وثمرة لخير ما في الأيديولوجيا، ولكنها لم تردد الأيديولوجيا…
ولنتذكر، جميعنا، أن الذين خرجوا في 22 فبراير من شتى الأطياف كان لكل منهم قضيته، ولكل أيديولوجيته الخاصة، غير أنه كانت لهم قضية واحدة جامعة، فاستطاعوا تأخير الخلافات وتقديم الأولويات، والأولوية في مجتمعنا مواجهة السم الذي يفري في القلوب والعقول والاقتصاد والسياسة والكرامة وهو “الاستبداد”..
ولهذا كان على درجة من الوضوح والقبح بحيث لا يقدم أحد على شرّه شرا، فكان مَجمع الخبائث وسر التعثر، وكان التركيز عليه أساس النجاح، وغلبت فكرة خلاص الإنسان المقموع الغائب الذي لم يسمح له أن يشارك من قبل في شيء، وهذا موقف عميق يستعيد الأفكار الحية، ولا يسخر نفسه للمذاهب والمدارس، وربما في لحظة تاريخية نادرة نضجت الأيديولوجيات فوصلت لغايتها من المرحلة الأولى، وعقلت فأزاحت أطرافها الحادة، واجتمعت على الاهتمامات الكبرى..
فالقضية الكبرى تقتضي التعاون للإنجاز الذي لا يتم إلا بتجاوز القطعيات الحادة، ولهذا كان على الفئة الواعية العاقلة مواجهة التطرف الأيديولوجي، لأنه طعام الاستبداد اليومي. وحتى تستمر الثورات لتنجح، فلا بد لها أن تخفف من تطرفها ومتطرفيها مستقبلا لتستطيع تحقيق غاية الأفكار المعتدلة الجامعة..
صحيفة الأمة الالكترونية