فكوا قيد الجزائر
رحلت السيدة فاطمة كريم زوجة المجاهد عمارة العسكري المدعو بوڨلاز، عقيد جيش التحرير الوطني، وعضو المجلس الوطني للثورة وأحد مؤسسي القاعدة الشرقية، ومن قادة هجوم الشمال القسنطيني مع الشهيد زيغوت يوسف. ليس هذا فحسب، هي أيضا والدة السجين السياسي جمال الدين العسكري الذي يقبع في السجن منذ ثمان وعشرين سنة بعد أن قضت محكمة خاصة بإعدامه في قضية تفجير المطار رغم أنها برأته من تهمة المشاركة في وضع المتفجرات.
ألغيت المحكمة الخاصة التي أدانت المهندس المعماري جمال الدين العسكري وبقي الحكم الصادر عنها، ثم جاء ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي تنص المادة العاشرة منه: ” لا تطبق الإجراءات المنصوص عليها في المواد 5 و 6 و 8 و 9 أعلاه على الأشخاص الذين ارتكبوا أفعال المجازر الجماعية أو انتهاك الحرمات أو استعمال المتفجرات في الأماكن العمومية، أو شاركوا فيها أو حرضوا عليها”، وعلى هذه المادة يرتكز المحامون في المطالبة بالإفراج عن جمال الدين العسكري منذ إقرار ميثاق السلم والمصالحة باعتبار أن المحكمة الخاصة برأته من تهمة وضع متفجرات وأدانته بتهمة الانتماء إلى جماعة إرهابية التي كانت تلاحق كل من تم اعتقاله بسبب انتمائهم للجبهة الإسلامية للإنقاذ أو التعاطف معها. بعد ثمان وعشرين سنة لم يتغير رد السلطة.. الصمت.
السيدة الفاضلة فاطمة التي لقيت ربها وهي تكابد حنينا إلى ولدها المعتقل منذ ثمان وعشرين سنة ( اعتقل في صيف 1992 على إثر تفجير مطار الجزائر) كانت قد فقدت زوجها المجاهد الكبير عمارة العسكري في سنة 1995 الذي لم يتحمل المصير الذي آل إليه ابنه.
كنت قد رأيت المرحومة أول مرة في أروقة محكمة سيدي محمد قبل عشرين سنة عندما جاءت لحضور إعادة محاكمة المتهمين في قضية تمرد سجن سركاجي، وكان جمال الدين العسكري أحد هؤلاء حيث مثلت شهادته علامة فارقة في المحاكمة لأنها قدمت رواية متكاملة ومتماسكة حول دور الوساطة الذي لعبه المرحوم عبد القادر حشاني ومآلها، كانت بهدوء أسطوري وثبات خارق تقترب من مكان وقوف المتهمين تتأمل وجه ابنها، ظلت تحضر الجلسات التي استمرت على مدى أسبوعين، وعاشت السنوات العشرين التي تلت تلك المحاكمة بنفس الصبر إلى أن غادرت هذا العالم دون أن تجد الإجابة على أسئلتها المعلقة حول الأسباب الحقيقية التي تحول دون الإفراج عن ابنها رغم أن لا شيء يحول دون استفادته من إجراءات العفو التي تضمنها ميثاق السلم والمصالحة وهو الذي قضى كامل سنوات الأزمة الدموية سجينا.
سؤال لا أجد له إجابة، لماذا أعيدت محاكمة المتهمين في قضية سركاجي ولم تتم إعادة محاكمة المدانين من قبل محاكم خاصة تم تأسيسها في نقض صريح لأحكام الدستور؟ لقد كانت تبرئة جميع المتهمين في قضية سركاجي ( باستثناء حارس السجن حميد مباركي صدر في حقه حكم بالسجن المؤبد) ومن ضمنهم جمال الدين العسكري، دليلا آخر يطعن في نزاهة الأحكام التي صدرت في تلك الفترة.
يتم التعامل مع ملف سجناء التسعينيات السياسيين بالصمت المطبق والتجاهل، تنطفئ أعمارهم خلف القضبان، وتموت عائلاتهم في اليوم أكثر من مرة، لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فمصداقية الدولة وسمعة قضائها يتضرران يوميا بما لا يمكن جبره، وغدا ستكتشف أجيال أخرى لم يكن لها يد في اتخاذ قرارات خاطئة حجم الكارثة التي ورثتها وثمنها الإنساني الباهظ.
لدى الدولة آليات قانونية وسياسية تسمح برفع الظلم الذي يطالها ببقاء هؤلاء في السجن، ولن تكون وفاتهم، وقد توفي كثير منهم، طيا لملف ثقيل بل تعقيدا آخر سيغلق أبواب الرجعة ويحرم الدولة من تصحيح الأخطاء ومواجهة الماضي القريب بالشجاعة والقوة التي تليق بها، وسيتعين على المسؤولين، ورجال القانون، والنخب أن تتحمل مسؤوليتها في الدفاع عن سمعة الجزائر بمعالجة آثار خيارات تبين للجميع، بمن فيهم من كانوا في مناصب مسؤولية رفيعة حينها، أنها لم تكن سليمة.
رحم الله السيدة فاطمة كريم وزوجها المجاهد عمارة العسكري بوڨلاز، وكان في عون جمال الدين وزوجته وخلص الجزائر من قيد التسعينيات الذي يدميها.
الصحفي نجيب بلحيمر