المعرفة والحكم
نبه المؤرخ الفرنسي بنجامين سطورا عبر صفحته على فيسبوك إلى أنه لا وجود للجنة مختلطة فرنسية جزائرية تتولى بحث ما يسمى قضايا التاريخ والذاكرة، وأشار إلى أن مهمته تتمثل في تقديم ملاحظات شخصية وأفكار طلبتها الرئاسة الفرنسية حول فترة الاستعمار وحرب التحرير الجزائرية. التنبيه جاء بعد التصريحات التي أدلى بها عبد المجيد تبون لجريدة لوبينيون الفرنسية يوم 13 جويلية والتي أثنى من خلالها على سطورا الذي كلفه ماكرون بملف التاريخ والذاكرة، وقد صرح تبون بأنه سيتم تعيين نظير سطورا من الجانب الجزائري خلال 72 ساعة ( الأجل الذي انقضى يوم 16 جويلية دون احتساب الفارق الزمني بين يوم إجراء الحوار الصحفي ويوم نشره).
هذا التفصيل يكشف لنا مسألة في غاية الأهمية تعودنا على التعامل معها باستخفاف كبير، يتعلق الأمر بالدور الذي يلعبه الخبراء والمختصون في صناعة القرار من خلال تقديم المشورة، وكيفية أداء هذا الدور. فقبل أن يتحدث تبون عن سطورا ونظيره المنتظر، كان المؤرخ الفرنسي المختص في الجزائر قد جلس إلى الرئيس الفرنسي يشرح له ما يجري في الجزائر بعد انطلاق الثورة السلمية ( يميل سطورا إلى وصف ما يجري بالثورة)، ويضع ما يجري في حديثه ضمن سياق تاريخي ( وهو ما فعله في كتابه الصادر مطلع السنة الحالية : L’Algérie après Bouteflika retours d’histoire. Bayard 2020)) وقد ظهر ماكرون وهو يدون ملاحظات سطورا على دفتر، وعندما أعطى المؤرخ رؤيته لما يجري في الجزائر علق ماكرون بالقول “أنا أتقاسم مع سطورا تحليله مع مراعاة الإكراهات المفروضة علي، أنا متفق معه من الناحية الفكرية، لكنني في موقع مختلف بالنظر إلى المؤسسة التي أمثلها”. وهذه العبارة تلخص كيفية الاستفادة من رأي الخبير والمختص والعالم في عملية صناعة القرار، وكيف يمكن تسخير المعرفة في صناعة سياسة تخدم مصلحة الدولة، مع التنبيه إلى أن هذا الحديث بين المؤرخ والرئيس كان قبل تكليف سطورا بتقديم رؤيته لملف التاريخ والذاكرة في العلاقة مع الجزائر.
في الحالة الجزائرية نلاحظ أن المسألة بدأت من حيث يفترض لها أن تنتهي، فقد تحدث تبون عن الأمر من وجهة نظر إدارية تختزل أولا في التعيين في منصب وهو ما جعل التركيز يتوجه منذ اللحظة الأولى ( على مستوى الرأي العام والصحافة) نحو البحث عن الإسم المرشح للمنصب والمعايير التي ستحكم اختياره، في حين أننا لم نسمع باللجوء سابقا إلى مختصين في التاريخ للاستئناس بآرائهم حول كيفية تسيير هذا الملف والاستفادة منه في بناء علاقة أكثر توازنا مع فرنسا. يحيلنا هذا الأمر على قضية مهمة وهي الدور الذي يلعبه المستشار في صناعة القرار، فخلال السنوات الماضية تحول منصب مستشار في الرئاسة إلى مكافأة تقدم إلى أشخاص، أو إلى نوع من التعويض عن عدم التعيين في مناصب تنفيذية، ويتجاوز الأمر منصب مستشار لدى الرئاسة إلى المستشارين على مستوى مؤسسات الدولة الأخرى، حيث يتم منح هذه المناصب لأشخاص لا يقومون بأي عمل وينالون امتيازات تتعلق بالمنصب. أما التفصيل الآخر فهو الخلط الحاصل بين الشهادة الجامعية وصفة الخبير التي لا يمكن أن تحصل إلا بالعمل البحثي والميداني المتخصص لسنوات طويلة مع الاحتكاك بقضايا تمنح القدرة على اتخاذ القرار أو تقديم المشورة لصانع القرار من خلال توفير المعطيات مع بدائل مفصلة والكلفة المحتملة لكل بديل.
لم يحدث أن سمحت السلطة في الجزائر بنقاش مفتوح حول تاريخ الحركة الوطنية وثورة التحرير، أو العلاقات مع فرنسا، وقبل فترة قصيرة تحدث مدير المركز الوطني للأرشيف صراحة عن رفض فتح جزء من الأرشيف أمام الباحثين بدعوى أن ذلك قد يستغل لإحداث فتنة، كما أن الرواية الرسمية للتاريخ هي التي ظلت مفروضة في المقررات المدرسية، ويتم الترويج لها في وسائل الإعلام وعن طريق الخطاب الرسمي. هذه الخيارات أضعفت الموقف الرسمي وحرمت الجزائر من أوراق مؤثرة لإدارة علاقتها مع القوة الاستعمارية السابقة، وأقصت المؤرخين من لعب أي دور في صناعة القرار، بل إنها حولت المؤرخين، أو من يسمون (الخبراء) إلى مجرد أبواق تردد الدعاية الرسمية عندما يتم استدعاؤهم للإدلاء بآرائهم في وسائل الإعلام التي تتجند في فترات الأزمات الدبلوماسية والحروب الإعلامية.
لقد طوع الاستعمار المعرفة من أجل بسط سيطرته على الشعوب والأوطان التي أخضعها بالقوة، وما زالت تلك الدول التي ورثت الامبراطوريات الاستعمارية تستعمل نفس الأساليب في التعامل مع الدول، في حين يخضع القرار عندنا لمزاج من يمسك بالسلطة والذي في العادة يختزل العالم في أشخاص من يحكمون الدول بالطريقة التي أخبرنا بها ثناء تبون على شخص ماكرون النظيف النزيه.
نجيب بلحيمر