دخان الأرقام لخنق حرية الصحافة
قبل أيام جاء العربي ونوغي بأرقامه وكشف عن مبالغ تصفها “بقية” الصحافة بأنها خيالية، وبدل أن يتحدث عن الوكالة التي يديرها، والتي يقول انه وجدها في حالة متقدمة من الخراب، تحول إلى متحدث باسم أخلاقيات المهنة، ونصب نفسه سلطة للضبط وأعلن عن المعايير الـ 15 التي تحكم الاستفادة من الإشهار.
كل التفاصيل التي قيلت بلا قيمة، فالأموال التي جرى تبذيرها نهبت من المال العام، وهي في حالات كثيرة تراكمت كديون على مؤسسات عمومية مثقلة بسوء التسيير، لكن هناك حقيقة واحدة يدور حولها حديث الإعلام، المليارات التي صرفت وتصرف بالعملة المحلية والصعبة هي ثمن إخضاع الصحافة وتحييدها. هذا هو الهدف الأساسي الذي تسعى إليه السلطة بوسائل تترواح بين إخضاع الصحافيين بالابتزاز والتخويف والتجويع، وشراء الذمم، وتسليم المهنة لمنتحلي الصفة، وتحويل وسائل الإعلام العمومية إلى أبواق للدعاية الحكومية.
يعرف كبار الموظفين الذين تداولوا على منصب وزير الاتصال هذا الهدف جيدا ويسعون إلى بلوغه كل بحسب موهبته الخاصة، ولأن السلطة في كثير من الأحيان تتدخل بصفة مباشرة لمنح المكافآت أو تسليط العقوبات فإنها استهلكت كثيرا من وزراء الاتصال دون أن يتغير الوضع.
قبل نحو عشرين سنة كان محي الدين عميمور وزيرا للاتصال وقد كتب إلى بوتفليقة رسالة يشرح فيها خطتها لترويض الصحافة الخاصة، تسربت الرسالة واتهم الوزير في مجالسه الخاصة بعض مساعديه الذين لا يستطيع السيطرة عليهم لأنهم يتبعون السلطة الأقوى، وانتهى الأمر بإقالة الوزير. لخصت الرسالة مهمة وزير الاتصال كما فهمها عميمور، وكان ذلك أهم من حديثه عن البطاقة الوطنية للصحافي التي تحولت إلى مشروع حمله من تعاقبوا على المنصب دون أن يفضي إلى شيء.
في مرحلة لاحقة أسندت الوزارة لحميد قرين الذي جعل مهمته تجفيف مصادر تمويل الصحافة الخارجة عن السيطرة، وقد كان التهديد الصريح لكبار المعلنين الخواص (شركات استيراد السيارات ومتعاملي الهاتف المحمول خاصة) بالعقاب إن هم نشروا إعلاناتهم لدى الصحف “التي تسب رئيس الجمهورية” كما قال، خلاصة عجرفة السلطة وعنفها وتخليها عن آخر الشكليات التي توحي بوجود حكومة وثقافة دولة. راهن قرين على معرفته بالصحافيين والناشرين، فقد سمحت له تجربته في إدارة الاتصال في شركة جيزي باختبار هشاشة هؤلاء فتعامل من موقع العارف المهيمن. ورغم الفظاظة التي تعامل بها فقد ظل يلوك خطابا فارغا عن الاحترافية وأخلاق المهنة طيلة فترة توليه مهمة الترويض والخنق.
اليوم يتولى عمار بلحيمر المهمة. جاء إلى المنصب يجر معه تجربة صحافية طويلة كممارس للمهنة وكأحد الذين سعوا إلى الدفاع عنها وتنظيمها في خضم أحداث أكتوبر وما تلاها، مع تجربة قصيرة في النشر تم وأدها في المهد. ويضاف إلى هذا المسار درجة عملية مرموقة كأستاذ للتعليم العالي في القانون. رغم هذه السيرة الذاتية الحافلة فإن الموقف السياسي لبلحيمر يكون قد رجح على التفاصيل الأخرى، فقد جاء إلى الوزارة من باب لجنة الحوار التي وفرت الغطاء السياسي لفرض انتخابات 12/12 وقد تحول بعدها إلى الهجوم بشراسة على السلمية وروج لنظرية الاختراق. نحن هنا أمام مقاربة مختلفة في ترويض الصحافة، تقوم على إعطاء الهدف بعدا سياسيا يتجاوز الرهانات الداخلية. يوظف بلحيمر ثقافته العالمة ليشرح للعامة كيف يمكن لموقع الكتروني مثل مغرب إيمارجون أن يكون أداة من أدوات “القوة الناعمة” التي تستعملها قوى خارجية للتأثير على الجزائر أو احتوائها. نعم بوسع البروفيسور أن يكون مبهرا وهو يستعرض ثقافته الواسعة، وسيكون مرتاحا وهو يتحدث عن الصحافة فلا أحد يزايد عليه في معرفته بالإعلام، ثم إنه قادر على عقد المقارنات وطرح الجوانب القانونية باقتدار، لكنه يعلم في الحقيقة أن إشكالية الصحافة في الجزائر سياسية في المقام الأول، وأن مهمته لا تختلف في شيء عن مهمة أسلافه الذين سبقوه إلى المنصب حتى وإن بدت مقارباته أكثر احتراما وعمقا، مقاربات، للأسف الشديد، تطيح بها قرارات من قبيل حظر مواقع الكترونية، والتلويح بالعقاب المالي، وتبرير سجن صحافيين، أو السكوت عليه، والتنازل عن صلاحيات التعيين في وسائل الإعلام العمومية.
لا تحتاج الصحافة الجزائرية اليوم إلى ندوات وملتقيات، وهي ليست بحاجة إلى قصف عشوائي بالأرقام، هي بحاجة إلى الحرية التي لا يمكن أن تمنحها سلطة تتخذ الصحافة عدوا وفي أفضل الأحوال خصما يجب ترويضه وإخضاعه بكل الوسائل، ولن تأتي هذه الحرية من قطاع خاضع بصفة كلية، بل ستأتي كنتيجة طبيعية عندما يحسم المجتمع معركة الحرية التي يخوضها في مواجهة نظام منتهي الصلاحية.
نجيب بلحيمر