جامع الجزائر.. صرح من ريع

جامع الجزائر.. صرح من ريع

بعد قرون من الآن قد يحتار المؤرخون في أمر الجزائر، قد يتعين عليهم الإقرار بأن جامعا عظيما قد بني في هذه البلاد، وتم افتتاحه رسميا في فترة أزمة متعددة الأبعاد وهذا ينقض كل النظريات التي تتحدث عن العمران والضحية الأكبر قد يكون ابن خلدون.
القاعدة تقول أن ازدهار العمران من مظاهر ازدهار الحضارة، وما تركته الحضارات من روائع هندسية وعمرانية أنجزته وهي في قمة ازدهارها وعادة لا يبقى لها بعد ذلك إلا أخذ مسار الانحدار، لكن ما حدث عندنا شيء آخر تماما، جامع عظيم هو خلاصة إبداع هندسي ألماني، وتنفيذ صيني، ومتابعة فرنسية دخلت على الخط عندما كانت السلطات تسابق الزمن من أجل إنجاز الجامع حتى يتمكن بوتفليقة من تدشينه. ( تم تعويض المجموعة الهندسية الألمانية بمكتب فرنسي لمتابعة إنجاز الجامع بعد أن اشتكى الصينيون من تشدد الألمان في المعايير وهو ما يجعل التقيد بآجال الإنجاز أمرا صعبا حسب الشركة الصينية التي تولت الإنجاز).
لا خلاف في أن مشاركتنا في في هذا الإنجاز الرائع لا تتعدى دفع المال الذي مصدره النفط والغاز، وحتى في هذه تم تجاوز كلفة الإنجاز بمبالغ ضخمة مع حديث صريح عن فساد لم يستثن أي مشروع في تلك الفترة، وهو ما يعني في النهاية أننا اشترينا الجامع كما كانت تشترى المصانع بصيغة “المفتاح في اليد”.
الجزائر ليست البلد الوحيد الذي فعل هذا، فدول الخليج اتجهت إلى عملية تحديث واسعة بفضل الأموال التي توفرت لها من الطفرة النفطية، لكنها في مقابل ذلك بقيت مجتمعات مغلقة بأنظمة سياسية متحجرة، وقد كان هذا التناقض الذي ظهر بفعل الطفرة النفطية موضوع دراسات وأبحاث لا تكاد تحصى منذ أكثر من أربعة عقود، ونحن اليوم نرى كيف صارت مدن الخليج، ونعرف معالمها التي غيرت وجه المنطقة ونعرف شيئا عن الذي قام بالدراسات وأنجز وتابع وهو يسير أيضا اليوم حتى ولو لم يظهر في الواجهة.
هكذا يصبح جامع الجزائر مثل ناطحات السحاب في الخليج علامة ثراء لا تعكس بالضرورة نهضة أمة ولا ازدهار حضارة، وفي حالتنا يبدو الأمر أكثر تناقضا لأننا لسنا أثرياء، إنه في النهاية علامة الريع الذي يمكنه شراء الكثير لكن ليس كل شيء.
منذ الإعلان عن المشروع قبل أكثر من عقد ونصف ثار الجدل حول أهميته وهل من العقلانية التوجه إلى بناء هذا الصرح الكبير بكلفته المعلنة بداية (1 مليار يورو)، وقد انقسم الناس بين مساند للمشروع باعتباره يمثل هوية الجزائر التي أراد لافيجري طمسها، وبين معارض يبرر موقفه بالعقلانية والبراغماتية، وكان هذا الجدل مرة أخرى جزء من تيهنا العظيم. فالذين تعاملوا مع الجامع على أنه مكان للعبادة يعامل بالقدسية التي تليق به ولا يجوز الاعتراض على إنجازه قدموا لنا صورة حقيقية على رؤيتنا الضيقة للدين الذي اختزلناه في الطقوس، وهذا أمر يعني “أنصار” الجامع و”خصومه” على حد سواء. ربما كان من الأجدر أن نطرح أسئلة أخرى تتعلق بأهليتنا لإعطاء هذه المنشأة الكبرى مضمونا ثقافيا عميقا وتحويلها إلى فضاء للإبداع والفكر، وهل سنستطيع فعلا أن نجعل هذا الجامع معلما للجزائر يرسم صورتها ويشد زوارها من الخارج؟ الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب مشروعا ضخما لا يمكن إنجازه بقرار ولا يمكن شراؤه بمال النفط والغاز فمهمة الريع انتهت يوم سلمت مفاتيح الجامع للسلطات التي طلبت إنجازه ودفعت مقابل ذلك.
معركة هامشية أخرى ثارت حول الجامع وكان موضوعها التسمية التي يجب أن تطلق على هذا الجامع، نقاش عقيم استمر لشهور طويلة جعل من المشروع سببا للفرقة والخلاف على عكس وظيفة الجامع الذي يجمع ولا يفرق. ورغم أن الجزائر لا تعاني من مشكلة طائفية فإن الإيديولوجيا تولت مهمة بث الشقاق بخصوص التسمية، ونسي الجميع أن التسمية حسمت في الوثائق الرسمية قبل أن يبدأ العمل في تجسيد المشروع، والتسمية الرسمية هي “جامع الجزائر” وهي مذكورة في جميع المراسيم التي أنشأت المؤسسة التي تسير الجامع، ومذكورة أيضا في كل الوثائق المتعلقة به.
معركة الاسم لخصت نزعة السطو على كل شيء وادعاء الاستحواذ عليه بمجرد تسميته. يظن الذين يريدون الجامع باسم شخصية تاريخية أو أخرى أنهم يحسمون جدل الهوية بالسيطرة على مبنى بدل أن يجتهدوا في صناعة المعنى، وهذه مأساة أخرى تكشف سطحيتنا وانحدارنا وجهلنا بالقضايا التي نصر على إقحامها في كل تفاصيل حياتنا دون أن نمتلك مفاتيح فهمها ومناقشتها بطريقة صحيحة ومثمرة.
جامع الجزائر معلم كبير يجب أن نجتهد في إعطائه مضمونا يليق بمظهره، أما خيارات الأشخاص فسيتولى التاريخ أمرها وقد بدأ ذلك فعلا.

على الهامش: صليت الجمعة في مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء سنة 2002 واندهشت لقلة الإقبال عليه، سألت أصدقاء مغاربة فضحكوا وقالوا لي كان عليك أن تصلي في مساجد الشعب.
نجيب بلحيمر

الجزائر