حكم بلا قرار
لا يعرف التلاميذ والطلاب والأساتذة متى ستفتح المدارس والجامعات، لا يعرف الموظفون والمتقاعدون متى سيتمكنون من سحب رواتبهم ومعاشاتهم دون عناء، لا يعرف الجزائريون متى ستحل مشكلة التزود بالماء والانقطاع المتكرر للكهرباء وبطء الانترنيت. كل هذه التفاصيل ليست علامات أزمة كما نزعم جميعا فالأصل في الأزمة أنها تكون طارئة ويستدعي حلها تدخلا سريعا فإن لم يحدث ذلك صارت فشلا مزمنا يتطلب علاجا جذريا بخطط محكمة.
كل ما تستطيع السلطة فعله اليوم هو تحديد تاريخ الاستفتاء على الدستور، دون أي احترام للشكليات والجوانب الإجرائية، وتقديم وعود غير قابلة للإنجاز، وعود نجدها مدونة في بيانات مجلس الوزراء بصيغة “أمر رئيس الجمهورية”، ويبدو أن السلطة لا تفرق بين فعلي “أمر” و “قرر”.
يأمر تبون بحل مشكلة تدفق الانترنيت “فورا” ويخرج وزير الاتصالات ليتحدث عن توسيع حزمة الذبذبات قبل أن تعثر وسائل الدعائية على زبون محتمل للنظام يتولى مهمة تكذيب الحقائق، وخلاصة القصة أن لا أحد بوسعه أن يقول لمن “أمر” بأن ما يطالب به مستحيل التحقيق، وأن الوضع القائم اليوم هو نتيجة لـ “أوامر” سابقة مستحيلة التنفيذ من قبيل تخفيض أسعار النت بزيادة سرعة التدفق التي يستفيد منها المشتركون.
هذه عينة بسيطة من تحويل “القرار” الذي هو في الأصل بديل مدروس ومؤسس على معطيات علمية وواقعية وإحصائيات مؤكدة، إلى مجرد “إعلان” يهدف إلى إقناع الناس بأن هناك من يحكم ويتابع ويحل المشاكل الطارئة والمتراكمة، وينسى من يفعل هذا أن أثر “الإعلان” لا يمكن أن يدوم أكثر من أيام معدودات خاصة إذا كان مشفوعا بكلمة “فورا”.
نتذكر غضب بوتفليقة وصراخه في وجه وزير النقل الراحل مغلاوي عندما زار مطار الجزائر الدولي الجديد وقوله له “انت تكذب علي”، وقبله عمليات “إنهاء المهام” على المباشر وبحضور كاميرات التلفزيون العمومي قبل أن تظهر الملحقات الخاصة كما كان يفعل الوزير الراحل يحيى قيدوم، وما درج عليه الولاة بعد ذلك من سلوك مشين بالتواطؤ مع مراسلي قنوات تلفزيونية تتزلف للسلطة بإظهار الحزم الكاذب لمسؤولين فاشلين ينحرون من هم دونهم في المسؤولية لتبييض صورة قاتمة يعرفها المواطن جيدا.
لم تكن تلك الشطحات المنقولة عبر التلفزيون لتحل أي مشكلة، وعندما جاءت الأزمات الكبرى من قبيل كورونا لم تجد السلطة غير الهروب والتنصل من المسؤولية.. خطاب متناقض وغياب تام لأي خطة أو تصور مع فشل في تقديم معلومة دقيقة انتهى بالهروب من المواجهة وإلقاء الأمر كله على ما تسمى بالسلطات المحلية وعلى رأسها الوالي، نظام شديد المركزية يتذكر فجأة فضائل اللامركزية وقدرة المسؤول المحلي على تسيير أزمة كبيرة، لكن الاكتشاف متأخر ولا يمكن أن تظهر آثاره الإيجابية بالسرعة التي ترجوها سلطة عالقة في مأزق كبير، وبدل أن يحل “تكليف” الولاة المشاكل زادها تعقيدا ليكتشف الجزائريون انهم يعيشون حالة ضياع تنذر بوضع ما قبل الدولة.
على مستويات أعلى يبدو الوضع أكثر تعقيدا، السلمية أحدثت شروخا عميقة بين عصب السلطة، ومحاولات احتواء ثورة الجزائريين أدخلت تلك العصب في صراعات دمرت ما بقي من ثقة بينها، من هو في الواجهة لا يملك سلطة القرار ولا الكفاءة لاتخاذه، ومن يقف خلفه لا يشعر بالحاجة إلى المغامرة التي قد تنتهي به حيث انتهى أسلافه قبل عهد قريب، وفي الأثناء تتفاقم الأزمات وتتكاثر وتتراكم الأخطاء حتى يظهر من في السلطة بأنه لا يتوفر على الشرط الأول لممارسة الحكم وهو اتخاذ القرار وتحمل تبعاته.
يعود النظام الفاشل العاجز إلى حلوله القديمة التي لا يعرف غيرها، تنظيم مزيد من الانتخابات الفلكلورية، وتعديل الدستور، وتغيير كبار الموظفين، من يتولون هذه المهمة يعرفون جيدا بأنهم يتقدمون في مستنقع ومع كل خطوة يغرقون أكثر لكنهم لا يملكون من أمرهم شيئا، إنهم عالقون وخلفهم يد الجزائريين تمتد بآخر فرصة للنجاة.. عودوا إلى رشدكم قبل أن تهلكوا.