حروب التطهير التي لا تنتهي

حروب التطهير التي لا تنتهي

“لحسن الحظ، أصبح الجيش الوطني الشعبي اليوم في أيادٍ أمينة” هذه العبارة التي وردت في رسالة الجنرال الهارب خالد نزار ترددت كثيرا خلال السنوات الأخيرة على ألسنة السياسيين الذين ناصروا رئيس الأركان الراحل الفريق أحمد قايد صالح، وحتى قبل أن تنطلق الثورة السلمية بسنوات كانت وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالصفحات التي تتحدث عن “التطهير” الذي يشهده الجيش، ولم يكن خافيا أن السلطة الفعلية كانت وراء تلك الصفحات، وإنها روجت لتلك الأطروحة على ألسنة من كانوا يقدمون أنفسهم كضحايا قيادة الجيش في التسعينيات.. سوق لهذه الأطروحة النقيب أحمد شوشان، ورددها بعض قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ مثل علي جدي وعبد القادر بوخمخم، وتبناها أيضا قادة أحزاب مثل حمس فضلا عن الأذرع السياسية والإعلامية للسلطة.
بالنسبة لخالد نزار تكون الأيادي أمينة عندما تنتصر للجنرال توفيق ومن يحسبون عليه وتكون غير ذلك عندما تقف ضد هؤلاء وتبعدهم عن المشهد، لقد جعل من رفاقه في قيادة الجيش في التسعينيات رموزا للمقاومة، في حين سمحت قيادة الجيش في عهد الفريق أحمد قايد صالح بوصفهم كخونة ومتآمرين، ورغم أنها لم تصل إلى حد محاسبتهم على أفعالهم السابقة في فترة توليهم القيادة، فإنها شجعت جميع الذين حملوهم مسؤولية تدمير البلاد بعد انقلاب جانفي 1992 الذي أجهض التحول الديمقراطي في البلاد.
قامت الخطة على تغطية صراع العصب داخل السلطة بمبررات إيديولوجية، وقد بدأت اللعبة مع عمار سعداني عندما قررت قيادة الأركان فرض العهدة الرابعة رغم مرض بوتفليقة وعجزه، وهكذا تم تقديم إبعاد الجنرال توفيق على أنه خطوة نحو بناء الدولة المدنية ( بمفهوم عمار سعداني الذي كان سباقا إلى استعمال هذا الشعار دون أن تنزعج قيادة الجيش).
اليوم يقول خالد نزار “عمليات التطهير الجارية حاليا تزعج بقايا القوى غير الدستورية. هذه المجموعات تحاول إعاقة عمل الرئيس ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي من خلال تغذية الغموض وبمحاولة تضليل الرأي العام”. بإمكان أي جزائري أن يجد مقاطع من خطابات رئيس الأركان الراحل تتطابق تماما مع هذه الجملة المقتبسة من رسالة نزار الأخيرة، كما يمكن العثور على فقرات مماثلة في خطابات وتصريحات لسياسيين ناصروا رئيس الأركان الراحل، وكانوا يقصدون بكل تأكيد من يصفهم اليوم نزار برموز المقاومة وعلى رأسهم الجنرال توفيق ونزار نفسه.
إنه نفس النموذج يلجأ إليه النظام لتفسير ما يحدث، لا فرق بين ما يقوله نزار وما كان يقوله أحمد قايد صالح إلا في الجهة المتهمة بالتآمر والسعي إلى ضرب استقرار البلاد، نفس النقاط الأربع التي تحدث عنها نزار في رسالته والتي تلخص المؤامرة الخارجية نجدها عند الفريق الآخر، ومن موقعه يعتقد نزار أن القيادة الحالية غيرت خط السير الذي كانت عليه القيادة السابقة، وفي الخلاصة لا يملك النظام إلا تفسيرا واحدا جامدا لما يجري يتم استعماله بشكل متناقض من طرف عصب متقابلة تتصارع من أجل السلطة وتتبادل الاتهامات كما تتبادل الأدوار.
تقدم لنا رسالة نزار خلاصة التناقضات الداخلية للنظام، فهي دليل إضافي على أن تسييس الجيش يمثل خطرا عليه، وعلى استمرارية الدولة كنتيجة لذلك، نقرأ في الرسالة :” لأنه تم رد الاعتبار لبعض رموز المقاومة فإن البقايا ( يقصد من وصفهم في موضع سابق من الرسالة ببقايا القوى غير الدستورية ) يرتعدون خوفا من المحاسبة على تزييفهم لتاريخنا، وصناعة المزور، والشر الذي فعلوه من خلال التلاعب وفبركة ملفات قضائية والاستعمال اللامسؤول للشبكات، الإنسانية والاجتماعية، لنشر الأخبار المشبوهة”. هذه الفقرة هي وعيد صريح بجولة جديدة من صراع العصب يقوم على يقين كاتب الرسالة بأن عصبته باتت في السلطة اليوم وستواصل حملتها لتحييد العصبة التي كانت محيطة برئيس الأركان السابق.
أي حاجة تبقى بعد هذا الكلام لمزيد من الأدلة على التناحر الداخلي بين عصب السلطة؟ وأي صورة أكثر قتامة يمكن رسمها من هذه التي تقدمها رسالة نزار الذي لا يجد أي حرج في القول بعد كل هذا إن الجيش لا يتدخل في السياسة وانه لم يفعل ذلك حتى عندما انقلب على الانتخابات وأجهض الانتقال الديمقراطي في مطلع 1992 . نزار يتكرم علينا بما ينقض كلامه عندما يقول في رسالته ” إن قضيتنا، أنا وإبني، ( كلاهما محكوم عليه بالسجن) سياسية. لقد تمت المتابعة بأمر من الفريق السابق في السلطة لغرض انتقامي محض وفي إطار أجندة سياسية” نعم بهذه السرعة يخبرنا نزار بأن المجموعة السابقة في السلطة ( وهي قيادة الجيش وعلى رأسها رئيس الأركان الراحل) كانت تستغل القضاء وتفبرك الملفات والقضايا للانتقام من الخصوم وتنفيذا لأجندة سياسية، وبعد كل هذا فإن الجيش لم يمارس السياسة قط. نحن الآن مطالبون بالدخول إلى عقل خالد نزار حتى نفهم منطقه، وفي الداخل نجد أن الرجل، مثل بقية من حكموا البلد منذ الاستقلال، يعتبر نفسه هو الدولة والجيش، وأن كل الذين اختلفوا معه أو وقفوا ضده، حتى وهم على رأس قيادة الجيش، هم مجرد شذوذ عن القاعدة وقوس فتح خطأ وأغلق سريعا. نزار مثل الآخرين يعتبر نفسه مالكا للحقيقة ولسلطة تحديد الأيادي الأمينة التي يجب أن تمسك بالجيش، وبالدولة تبعا لذلك، وكما جعله من يصفه بالفريق السابق في السلطة متهما فإن الفريق الجديد قد يجعله رمزا للمقاومة، وقد يعيد له الاعتبار، ولابنه وشركته أيضا.
لا يستحق حديث نزار عن شعار “مدنية لا عسكرية” أي تعليق، فمستواه الثقافي لا يؤهله للخوض في الموضوع، لكن ما قاله سيحرج خصومه الذين برروا مواقفهم المتواطئة مع السلطة ضد الثورة السلمية للشعب الجزائري، ورسالته تهدم كل المغالطات الإيديولوجية التي حاول البعض استعمالها من أجل تقديم صراع العصب على أنه بداية للتغيير الحقيقي الذي خرج من أجله الجزائريون إلى الشارع يوم 22 فيفري 2019.
بقي سؤال أخير.. هل ترد وزارة الدفاع الوطني على رسالة خالد نزار التي أكدت لنا مرة أخرى أن توريط الجيش في السياسة إساءة له وتلطيخ لسمعته وتهديد لاستقرار الدولة والمجتمع؟ أتمنى أن تفعل لأن الرسالة أخطر بكثير من بعض منشورات فيسبوك التي تم الرد عليها ببيان رسمي.

نجيب بلحيمر