الزهايمر.. أعراض نهاية نظام
“إن ما يُنشر عن جلسات المحاكم من أشكال الفساد الذي يعدّ من أسباب سقوط الدول، يكشف عن درجة الانحلال الأخلاقي، وعمق الضرر الذي لحق بمؤسسات الأمة، وثرواتها ويفسر في ذات الوقت حدة أزمة الثقة القائمة بين الحاكم والمحكوم”.
هذا التوصيف الذي نقله بيان مجلس الوزراء المنعقد أمس عن تبون يشمل البرلمان الذي ستسند إليه مهمة مناقشة وتزكية مشروع تعديل الدستور قبل إحالته على الاستفتاء الشعبي، وفي نفس البيان نقرأ أيضا ” كان الواجب يقتضي تسبيق التعديل الدستوري، لأنه ليس من المعقول أن نجدد الهيئات المنتخبة بقوانين مرفوضة شعبيا”، وتختزل العبارتان المأزق الذي وقعت فيه السلطة بإصرارها على فرض الانتخابات الرئاسية لـ 12 رغم الرفض الواسع لها.
نسيت السلطة بسرعة أن القوانين المرفوضة شعبيا هي التي استعملت لفرض تبون في منصب الرئيس، وإذا لم تكن تلك القوانين صالحة لانتخاب برلمان جديد فإن الأولى أن لا تعتمد لاختيار رئيس يمنحه الدستور صلاحيات أكبر بكثير من صلاحيات البرلمان، ويمنحه منصبه سلطة توجيه البلاد في مرحلة بالغة الحساسية والتعقيد، ثم إن السلطة ماضية في إنكارها وقد برمجت “نسيانا” مسبقا بإصرارها على منح البرلمان الذي يطعن تبون في شرعيته، استنادا إلى شهادات طليبة ونجل ولد عباس، صلاحية تمرير الدستور الجديد وتمرير القوانين الجديدة التي ستنظم العملية الانتخابية.
لا يتعلق الأمر هنا بركاكة التعبير، أو رداءة من توكل لهم مهمة تحرير البيانات الرسمية، وهو أمر لم يعد بحاجة إلى إثبات أو تذكير، بل يتعداه إلى انكشاف طريقة عمل نظام الحكم وخيارات السلطة الفعلية. لطالما اعتبرت السلطة أن منصب الرئاسة هو الأهم على الإطلاق وأن تثبيت شخص في ذلك المنصب سيجعلها تتفرغ للتفاصيل دون ضغط، وقد حدث هذا مع زروال وبوتفليقة من بعده، غير أن ما يفسد الأمر اليوم هو وجود حركة شعبية غير مسبوقة دفعت بتناقضات النظام إلى الواجهة، ولا يبدو أن السلطة الفعلية استوعبت حجم الزلزال الذي ضرب نظام الحكم وزعزع أركانه.
لا تملك السلطة إلا خطة عمل واحدة اعتمدتها خلال عقود، خطة تقوم على أساليب من عصر ما قبل ثورة المعلومات وتعتمد بشكل كلي على الشبكات الإنسانية التي ضربتها الثورة التكنولوجية في مقتل. هكذا تم اعتماد خيار الانتخابات بشكل آلي، وبعده المرور إلى تعديل الدستور مع محاولة معالجة الأزمات المزمنة في مختلف القطاعات باستهلاك مزيد من المسيرين والإطارات التي دفعتها أقدارها إلى الواجهة، وبالاعتماد على وسائل دعاية منعدمة التأثير تفضل السلطة أن تستمع إلى رجع صدى الضجيج الذي تصدره بدل الاستماع إلى صوت المجتمع والحقيقة، مع الأمل في فرض أمر واقع جديد سيثني الجزائريين عن سعيهم إلى تغيير جذري لمنظومة الحكم.
نزعت السلمية ورقة الوقت من يد السلطة وحشرتها في الزاوية فارتكبت الأخيرة خطأ استراتيجيا عندما اعتقدت أن المسألة ستحل بمجرد تنصيب رئيس جديد، فسرعان ما تبين أن الإمعان في تحميل بوتفليقة وبعض رموز عهده مسؤولية الخراب الذي حل بالبلاد رهن كل الخطوات اللاحقة حيث لم تجد السلطة غير شبكات بوتفليقة المشكلة أساسا من زبائن قدامى للسلطة الفعلية يحترفون الخدمة في كل المراحل مهما بدت متناقضة، لبناء جزائرها الجديدة، ولأنها عاجزة عن بناء شبكات جديدة وتجنيد مزيد من الجزائريين فإنها وجدت نفسها تنتج نفس خطاب المرحلة البوتفليقية بل وتعيد طرح كل أفكاره وخارطة طريقه التي نجدها في المقترحات التي جرى تقديمها تحت عنوان “لم أنوي قط الترشح لعهدة خامسة” عندما أنهى الجزائريون حكمه عمليا في 22 فيفري. أكثر من هذا تحاول السلطة أن تغطي حقيقة أن من يسوق اليوم لمشروع الجزائر الجديدة يستحيل فصله عن بوتفليقة والأدلة موثقة بالصوت والصورة وراسخة في أذهان الملايين.
مهما تكن الخطوات اللاحقة للسلطة فإن أزمة الشرعية ستتعمق أكثر وتزداد تعقيدا، ولن تعود هذه الأزمة إلى الواجهة من خلال نقاشات نظرية أو جدل سياسي، بل ستعود من خلال الفشل اليومي في التسيير، والعجز عن مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والفضائح التي تعري يوميا النظام القائم وتجعل تفكيكه أولوية تتصل باستمرارية الكيان الجزائري.
إن تخبط السلطة الذي يظهر في الخطاب والممارسة يشبه إلى حد بعيد أعراض الزهايمر التي ترتبط في العادة بالشيخوخة، مرض لا أمل في الشفاء منه.
الصحفي نجيب بلحيمر