الواقعية بعين مهزوم
مع كل قرار ظالم، مع كل خطوة تخطوها السلطة على الطريق الخطأ يخرج علينا العقلانيون والواقعيون بمحاكمات لا تقل قساوة عن تلك التي تعرض لها معتقلو الرأي.. بسرعة تصدر إدانات ببيع “الوهم” وتسفيه أحلام من ظنوا انهم سيغيرون النظام بمسيرات “استعراضية” تخرج مرة في الأسبوع.
يظن مقدمو هذه الدروس بأنهم أحاطوا علما بما غاب عن غيرهم، يذكروننا بموازين القوى المختلة لصالح السلطة دوما، ويسردون علينا تجارب الأمم في بناء الدولة ويتكرمون علينا بدروس مجانية في كيفية بناء الديمقراطية، كل هذا لا جديد فيه، لحظات الإحباط تجعل الحدود باهتة بين الهزيمة والعقلانية، تماما مثلما تجعل اللحظة الثورية من الصعب تبين الخطوط التي تميز الشجاعة والإقدام عن التهور، وفي لحظة الغضب التي نعيشها اليوم ستتأرجح الرسالة “الواقعية” الموجهة إلى خالد درارني أو محمد تجاديت أو عبد الله بن نعوم أو وليد كشيدة بين “هذا الشعب لا يستحق تضحياتك” و “أنت تدفع ثمن إيمانك بقضية لم ينضج حاملوها كفاية”.
لم ينتظر الجزائريون أحدا ليأمرهم بالخروج يوم 22 فيفري، لم تأت الفتوى من أي جهة، والذين استمروا في الخروج، وأولئك الذين سيخرجون يوما ما لم يفعلوا ذلك لأنهم اشتروا وهما من حساب على فيسبوك، بل فعلوا ذلك انتصارا لكرامتهم وصونا لوطن مهدد بالتفكيك.
يصبح الحلم ملاذ الخائفين من المستقبل، وأولئك الذين يضحون بحريتهم ومسارهم المهني وهم اليوم يقبعون في السجون، اعتنقوا حلم السلمية ومضوا قدما إلى الأمام، هؤلاء عندي أكثر الجزائريين شجاعة وواقعية، وهم من أدركوا بأن استمرار النظام يعني نهاية الوطن، ومن لم يدرك هذه الحقيقة فعليه أن يراجع كل ما يجري في البلاد منذ فيفري 2019 فعلامات الانهيار أوضح من أن تحتاج إلى شرح أو تفسير.
السلمية بطيئة وطويلة النفس وقد أخرجت من تناقضات المجتمع ومنظومة الحكم ما كنا ننكره، والبديل عن هذه السلمية هو طريق العنف والانهيار.. نعم قد يبدو هذا الأمر موغلا في المثالية لكنها الحقيقة العارية التي لا يمكن أن تغطي عليها نظريات نشوء الدولة وبناء الديمقراطية على مدار قرون. كان أمرا مدهشا استمرار المظاهرات السلمية لأكثر من سنة وكان المكسب الأهم هو الإدراك العميق لخطورة استمرار هذا النظام.
يمارس المترفون فكريا هوايتهم القديمة في النظر إلى المجتمع من عل، يضعون الأصبع على مواطن الضعف ويسخرون من قلة الحيلة وانحطاط المستوى، وهم إذ يفعلون ذلك قادرون على التعايش مع كل الأوضاع، ففي بطون الكتب يجدون تفسير الذل ويحولون الاستبداد إلى نتيجة منطقية للتخلف وينسون بسرعة انهم كانوا قبل حين يسفهون “الحالمين” بالتغيير الذين يحملون شعارات “جوفاء” عن الحرية والكرامة.
لن أعود إلى تاريخ الجزائر القريب أو البعيد حتى أثبت أن “حالمين” و “مجانين” بالأمس كانوا سببا في أن يتعلم المتحدثون اليوم معنى البراغماتية والواقعية وينتقدون غياب مشاريع المجتمع، بدلا عن ذلك سأتجه إلى المستقبل بالكلية لأعلن يقيني بأن هذا النظام انتهت صلاحيته ولا يملك مقومات الاستمرار، العلم يقول هذا، والتكنولوجيا تقول هذا، والعصر الذي نعيش فيه يقول هذا أيضا، أما سراب الدعم الخارجي فلن ينقذ هذه الآلة الصدئة، فالدول التي تسقط أنظمة دفاعا عن مصالحها تحمي أنظمة أخرى دفاعا عن هذه المصالح أيضا ولا يهمها أن ينتهي الأمر بخراب الأوطان، وهذا وضع يفزعني لأنه ينذر بتفكيك الوطن.. من هذا الفزع سأحتمي بحلم السلمية الذي يبقي الباب مفتوحا لإنقاذ الجزائر من الزوال.
أعتذر لكل المعتقلين، ورفاقهم الذين مروا عبر السجون انتقاما من نضالهم من أجل الحرية، على كل ما يصدر منا من لغط بلا قيمة لتبرير انهزاميتنا وتقاعسنا.
الصحفي نجيب بلحيمر