التعليم ومشروع إنتاج قطع غيار بشرية
كتب بواسطة :د.عمار جيدل / كاتب وباحث
برامج التعليم ومؤلفاته البيداغوجية وطرق تبليغها ومسالك اكتشاف مستويات تحصيلها، المعبّر عنه بمنظومة التربية والتعليم، تُعَدُّ التربة الخصبة لتهيئة الظروف الموضوعية للخروج من دائرة التخلف والسير بالمجتمع في أفق التنمية المعنوية والمادية، كما يعتبر حال عدم الاستدراك عليه في جملة مكوّناته مرتعا سهلا للعلل النفسية والاجتماعية والفكرية، لأنّ التعليم هو المؤسسة التي تصاغ فيه شخصيات الأفراد المرتبطة بالذات الثقافية للأمة أو المستقلة عنها أو المستقيلة فيها، وهو المعبّر عنه بمقاصد العملية التربوية والتعليمية للمنظومة نفسها، ولا شكّ في أنّ لأسباب تأخر الأوطان عموما صلة وثيقة بأسباب منزلة العلم والعلوم والتعليم في المنظومة السياسية ومنظومة القيم الاجتماعية، فضلا عن أنّ التعليم وسيلة لجعل المتعلّم مشروع منخرط في بناء الوطن أو تخريبه.
ونظرا لما للعلوم والتعليم من أهمية وخطورة على حاضر الأمة ومستقبلها، يُعَدُّ التفكير في الاستعداد العلمي -عند العقلاء- مهمّة إستراتيجية ليست مما يُعْهَدُ للقيم التي تتبناها السلطات الوقتية المتنافرة المتنافسة على مقدّرات الوطن، بل يتعيّن أن تكون بمنأى عن ذلك ومعبّرة عن قيم المجتمع بشكل جليّ، لربط المتعلّم بالوطن وقيمه، تصوّرا وتصرّفا، وبهذا نمنع صناعة مواطن” قطعة غيار” عولمي يصلح للانخراط في أي مشروع حتى ولو كان فيه حتفه وتدمير وطنه والاستبداد في بلده.
من هنا، فإنّ التعليم بوصفه مزرعة المستقبل، وبوصفه حق الأبناء والأحفاد على الآباء والأجداد، أو أمانة الآباء والأجداد وأمانة الأمة في وجودها المستمر، يتعيّن أن يكون التفكير في الاستعداد له(التعليم) يفوق الاستعداد السياسي والحربي.
وبهذا الصدد، ورد على لسان رئيس مجمع ترقية العلوم البريطاني: “يجب نزع الحوايل السياسية التي تقف في سبيل العلم ذلك السبب الحقيقي الذي يضعف رجال العلم ولا يجعل لهم صوتا تسمعه الأمة أو تبالي به الحكومة، وإذا طلب أحدهم شيئا؛ فإنما يطلبه منفردا من تلقاء نفسه لأنّه ليس للعلم عندنا صوت عام، وليس في الأمة جماعة منتظمة تتكلم بلسان أهل العلم وجمهور ساستنا قلّما يعلمون شيئا عن مقدار ما للعلم من الشأن في ترقية الأمة ويحسبون أن لا شأن لغير الأمور السياسية والمالية،على أنّ الحكومة يجب عليها أن تنظم جيوشا للسلم كما تنظم جيوشا للحروب والمدارس لها ضرورية كالبوارج لابد أن ينفق عليها سواء”.
وتظهر أهمية التعليم في النفع المنتظر منه، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمم، إذ الأصل فيه أن يعبّر عن الوظيفة الحضارية للمجتمع فيما يعلّم فيه المجتمع أبناءه(التعلم)، فليس التعليم حشوا للرؤوس بمعارف فحسب، بل يعد مصدر صناعة أنموذج الإنسان الذي رسمته المنظومة التعليمية والتربوية، أي الإنسان الذي يريده المجتمع، لا ما تريده السلطة، إلاّ إذا كانت السلطة منبثقة عن المجتمع بطريقة سننية، فليس للسلطة بوصفها سلطة أن تتجاوز المالك الأصلي للسيادة وقيمه، فإن تجاوزتها تحوّلت إلى سلطة أمر واقع، لا تلبث أن تذهب إن آجلا أو عاجلا، فالسلطة المناقضة في مقاصدها الشعب (الأصل) في قيّمه وأصالته ستنتهي بطريقة سننية، مفادها أنّ قوّتها من قوّة الجهة التي انبثقت عنها، أو هي حيّة بما تستمده من الأصل، فإن عَدِمَت رابط المدد(قطع الصلة بالشعب وقيمه) بالحياة ماتت بطريقة سننية.
ولعلّ من أهمّ أسباب عجز السلطة عن تأطير المجتمع أن يكون نظامها التعليمي المفروض مناقضا لقيم المجتمع أو محايدا في شأنها، لهذا فمصيرها التلاشي في الزمن (ليس مرّة واحدة)، لأنّه نوع من الكذب، والكذب مهما طالت حباله فهي قصيرة، فضلا عن كون هذه المنظومة مانعة من جلب النفع المنتظر من التعليم، سواء تعلّق بالنفع على مستوى الأفراد، وخاصة فيما يتعلّق بالوجود الحقيقي للأفراد والمجتمعات، إذ تتمايز المجتمعات في وجودها الحقيقي بالنظر إلى قيّمها لا بالنظر إلى الوجود المجازي، وهو الاشتراك في المأكولات والملبوسات والمركوبات، و… لا ينكر أنّ للتعليم فوائد دنيوية وأخروية، والمطلوب من التعليم أن يؤسس للعمل للآخرة بتعمير الدنيا، وهذا يفرض الإحاطة بآخر ما جادت قرائح الخلق من علوم وتطبيقاتها (الصناعات) تيسّرا للحياة، ولكن يَبْعُدُ أن تكون الوسائل(المصنوعات المتطوّرة) مصدرا للقيم الباعثة على تعمير الدنيا بالخيرات.
لهذا كان وسيبقى استبعاد القيم في التعليم سببا في ضياع الإنسان وتهيئته ليكون قطع غيار بشري في منظومة القوى لمهيمنة على حاضر الأسرة البشرية. ومجرّد الانخراط في التعليم المحايد، يمنع من التفكير في استجلاب نفع التعليم على مستوى الأمة، وسيكون مانعا من إنتاج قادة للأمّة في دينها ودنياها، وسيكون وسيلة فعّالة لاستئصال فسائل إنشاء أمّة مستقلة، وبهذا نضيّع فرصة جعل التعليم مرتقى الأمّة وراسما لمستقبلها. فعالية الجزائري الأصيل تتجلى في تلبية حاجات المجتمع الفكرية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية و…وهذا لا يمكن أن ينشأ في حاضنة (مدرسة) محايدة، ولا يمكن انتظار صناعتها في حاضنة أسسها الاستبداد ورعاها، وجعلها وسيلة لصناعة إنسان الخنوع والتبعية للقوي الوقتي المحلي أو الغالب (غ) الدولي (د) الوقتي (و) الراهن (ر) (غ، د، و، ر).
النظام التعليمي المحايد، مؤسسة لتكوين الإنسان المحايد بالنسبة لقضايا المصير، قضايا القيم، والتاريخ، والوجود الحقيقي للمجتمعات، هذا النمط من التفكير في مسألة التعليم، يؤكّد أنّ هذه النظرة للمسألة التعليمية قاصرة وفهمها سطحي، فهل من العقلاء المنصفين من يمكنه أن ينفي أنّ أساس التدافع الحضاري، هو الصراع على المنظومة التربوية، فإذا هيمنت العَمَالة للغالب الدولي الوقتي الراهن على المشروع، فستنشئ هذه المنظومة جيلا متطبِّعًا بقبول سلطة الأمر الواقع، سواء كانت محلية أو دولية، من الناحيتين النظرية والتطبيقية، بمعنى يصبح الغزو أمرا عاديا، لأنّ هذه المنظومة أَفْقَدَتْ المتعلّم الحَمِيَّة الوطنية والقيمية، وجعلته قطع غيار هُيِّئ للاندراج في أي سياق كان، فلا يهمّه السياق بقدر ما يكون مسكونا براتب أو وظيفة يسترزق منها، بينما الاندراج في سياق قيم المجتمع يدفعه للاستقلال الحقيقي، وهو ما يفرض توسّع التعليم ونموه المستمر، مما يستدعي التفكير الجاد في تطوّر التعليم والعلوم، وفق ما ينسجم وتحقيق القيم المجتمع. يرتبط تحقيق المقاصد النبيلة للتعليم المنبثقة عن المجتمع بضرورة انصباغ الفعل التعليمي والاجتماعي بالإخلاص لله تعالى ثم للوطن، ذلك الإخلاص الذي يسمو بالفعل العادي إلى مصاف العبادة، ويجعل العمل متعدِّيَ النفع، فيكون خيره عميما، لهذا فالتعليم يحقق رغبة من يطلب الآخرة كما يحققها لمن يرغب في الدنيا.
جماع الخير في سياسة الدول المحترمة أن يجتمع في الأمة رجال العلم والسياسة على كلمة سواء يتوخون فيها أصالة الأمة وقيمها في كنف واقعية متأصّلة، ولاشك أن معمل إنتاج مثل هذه الكفاءات هو التعليم الراشد المسترشد بموروث الأمة والمتفاعل إيجابيا مع آلام الأمة وآمالها. هذه هي الطريقة الموضوعية لاستقلال الأوطان وإنتاج أمة مستقلة والحفاظ على استقلالها، وهي نتيجة عمل علمي رصين يبدأ باستقلال رجال العلم والسياسة في قراراتهم وتطلّعاتهم، وأوّل مراحل المطالبة بالاستقلال العمل على إحداث إرادة الاستقلال والرغبة فيه لدى أفراد الأمة، وبيّن أنّ أول مراحل الاستقلال اكتشاف عناصره في الموروث الثقافي أولا، ثم العمل على تجسيده في مشاريع ثقافية واجتماعية واقتصادية ثانيا، وصياغته في منظومة تربوية ثالثا، وطريق تحقيق ذلك المرغوب التعليم المواكب لروح العصر والمرتبط بأصالة الأمة في روحه وصياغته، وكل ذلك مبناه تفعيل الاستعداد والملكات التي خلقنا الله مزوّدين بها، فلا يستثنى أحد من قوله تعالى: “إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”، خُلِقْتُم قادرين، ففعّلوا هذه القدرات والملكات والإمكانات، ولا تهملوها.
ولاشك في أن سبيل تحقيق الرقي، يبدأ حتما بتحقق إرادة الرقي والقدرة على تحقيقه بواسطة التعليم الأصيل المتطوّر المستجيب للإكراهات يشحذ الهمم على تحقيق الرغبة في النمو بتزويد العقول بالأدوات المنهجية والعلمية المساهمة في تحقيق المطلوب.
الذي يطمع في أن يكون التعليم المحايد باعثا لإنشاء أمة مستقلة، تجعل التعليم مرتقاها وقارب نجاتها وراسم مستقبلها، رام المحال، ومثله كمثل ينتظر العسل من البصل، أو أن تلد البغلة، لأنّ التعليم المحايد وظيفته الأساسية إنتاج بشر يعدّون قطع غيار بشرية، يقبلون التوظيف والاستغلال في كل السياقات حتى وإن كان فيها حتفه المعنوي وتدمير أمّته، ومبعث قبول مثل هذه الأصناف من المنظومات التربوية هو استرضاء الغرب والاحتماء به من الشعوب، والابتعاد عن الشعوب والتحايل عليها بمنعها من حقّها في وضع قوانينها الأساسية الضابطة للسلطة بإرادة المالك الأصلي (الشعب)، ومسلكها السياسي مبناه منع المجتمعات من اعتماد حركات سياسية وفكرية بشكل حرّ وسيّد، فسلطة الأمر الواقع تريد للشعب، وتصم آذانها عمّا يريده الشعب، فالشعب يريد الاستقلال وأوّل مظهره تعليم ينتج إنسان الاستقلال المطعّم ضد التبعية، والمانع من تحوّل إنسان هذا المنظمة إلى قطع غيار بشرية.