الديمقراطية المزاجية
كتب بواسطة :د. عمار جيدل / باحث وكاتب
قدّمت الدولة فرنسا -في كلّ مراحلها الحديثة والمعاصرة- والمعجبون بها أوضح مثال على التعامل المزاجي مع المعاني الراقية، وصلت بهم تلوين المعاني الكبيرة بالألوان التي يريدها هؤلاء (فرنسا والمعجبون بها)، وقد وُفِّقَ الأستاذ الفضيل الورثلاني (رحمه الله) في اختيار عنوان رئيسي لمقاله ألحق به عنوانا فرعيا دالا، فكان العنوان الرئيس للمقال: “نموذج من ديمقراطية فرنسا في الجزائر”، واختار له بعدها عنوانا فرعيا واضح المعنى وبيّن القصد، فقال: “مهداة إلى أصدقاء فرنسا”، أي أنّ ما ورد في المقال يمثّل هدية لخدَمِها وأتباعها في الوطن.فرنسا والمعجبون بها يتعاملون مع المعاني العظيمة التي ينزلها العقلاء منازل معنوية عالية، يعاملها هؤلاء وأسيادهم معاملة مخصوصة تدلّ على معاملتهم المزاجية مع المعاني الإنسانيةـ فيتحوّلون (الصيغة تدلّ على استمرار التعامل بها) بها عن مفهومها الصحيح المتّفق عليه بين النزهاء من مكوّنات الأسرة الإنسانية، فتحوّلت من أعلى مقامات ترتيب المعاني والقيم الإنسانية إلى أدرك دركات البهيمية المبنية على الإقصاء والإلغاء والنفي، فكانت الديمقراطية التي يسهرون على تسويقها قائمة على نقائض قصدها، تأسست في التعامل مع المخالف على النفي والإقصاء، فلا حقّ لك في أن تُشْرَك في التصورات، فضلا عن أن تكون صاحب حق في وضع تصوّر مستقل عن رغباتهم.
وقد عبّر عن هذا المعاني الأستاذ الورثلاني، أبلغ تعبير وأدق تصوير، فقال: “لقد أصبحت المعاني في هذه الأيام (وهي مستمرة بتقديرنا)، مثل البضائع والمصنوعات تماما، بحيث تختلف باختلاف موادها الخام، واختلاف جودة الصنف وزيفه، وما أشبه ذلك، فنايلون الإنكليز مثلا، يختلف عن نايلون الأمريكان، ودبابات إيطاليا تختلف عن دبابات تشكوسلوفاكيا، وهلم جرا، فكذلك الديمقراطية، والاشتراكية، والحرية، والعدالة، إلى غير ذلك من المعاني، فإنّها تختلف كلّها، باختلاف صانعيها، ومروجيها، …”.
ففرنسا والمعجبون بها نموذجهم الخاص في الديمقراطية، فرنسا “العريقة” واضعة حقوق الإنسان، تسقط أمام امتحان بسيط في التعامل مع حقوق الإنسان، وهو ما يفسّر موقفها وأتباعها من القضايا ذات الصلة بالإسلام، وتشتد عداوتهم إذا كان هذا الدين مظنة انبثاق فكر تحرري حقيقي.وقد عمل المعجبون بها على رفض كلّ رأي مخالف، وفق طريقة فرنسا في التعامل مع الإسلام، فبعد سقوط فكرة تجفيف منابع الدين الإسلامي في فرنسا، وبعد فشل ربط الدين الإسلامي بـ”المجاري الفكرية” (مصدر القذرات الفكرية)، وبعد محاولات عبثية لتحديث الإسلام بإفقاده أهمّ ميزاته، وخاصة مركز العناية بالامتثال العملي الذي يقدّم أجوبة آنية لمشاكل الناس في شعاب الحياة، فأريد له أن يتحوّل إلى معارف جافة، بعيدة عن نشر البُعْد الإنساني، مُقْصى من التدافع الحضاري السلمي، بل كانت الرغبة ملحّة في إدخال الإسلام في بوتقة التساؤلات النظرية المغرقة في إبعاده عن أن يكون مبدأ للانخراط في خدمة الخلق مرضاة للحق.
وقد نسج على منوال فرنسا كثير من المعجبين بها، فمرّوا بمراحل محاولات تجفيف الدين، و ومراحل الربط “بالمجاري الفكرية”، بل وقلّدوهم حذو نعل بنعل، فحاولوا تحديثه لتلحقه مشاكل الانحرافات التي طالت الأديان التي أرادوا التشبّه بها، ثم تشويه صورة المسلمين بتسويق نماذج من المسلمين نسبتها ديمغرافيا مهملة عند العقلاء قاطبة، ويهملون أنّ القواعد المنهجية في التحليل، تملي عليهم بناء تحليل الظواهر الاجتماعية والإنسانية على القاعدة العامة الأغلبية، ولو أسسوا النظر بطريقة موضوعية بناء على القاعدة الأغلبية لخلصوا إلى القول بأنّ الغالبية الساحقة من المجتمع الإسلامي مسالم ومثابر أمين صادق وطنبي بامتياز، ويركّزون على نماذج من المنتسبين إلى المسلمين لا تبرأ ساحة فرنسا ودوائرها واستعلاماتها من صناعتها بطريق مباشر حينا وطرق غير مباشرة في كثيرة من الأحيان.
ولعلّ من مظاهر مزاجية تحليل فرنسا الاستعمارية وخدَمُها، مسألة التعامل مع الديمقراطية، فهي عمليا تختلف عنها من الناحية النظرية، فهي في حقيقة الأمر إقامة دستور ودولة على إرادة الشعب، والشعب هو مصدر السلطة في الديمقراطية (نحن بهذا الصدد في مقام تصوير الديمقراطية، فلا تخرجبها عن السياق)، ولكن عمليا القضية مباينة لذلك تمام، بل تكون أن تكون مناقضة لها، فتستحوذ السلطة بعنوان الديمقراطية على وضع النصوص المؤسسة لدلو من غير تفويض حقيقي من الشعب ومن دون هيئات تفويضية شفافة، اختارها الشعب للقيام بهذا المهمّة، لأنّ الشعب هو صاحب الحق من خلال مفوّضيه، وأكثر المبادئ إهمالا عند فرنسا وخَدَمُها أنّ الأفراد في الديمقراطية النظرية متساوون لهم ذات القيمة وحق التفكير في نشأة الدولة ونصوصها المؤسسة واستمرارها، فضلا عن الحق في كلّ متعلّقات الدولة دون تمييز، ولكن الديمقراطية العملية تأخذ من الأفراد ما أعطتهم الناحية النظرية منها، ولعلّ شاهد ذلك معاملة السلطة الفرنسية مع كثير مما له صلة بالإسلام إرضاء لليمين، أو هو كشف ليمينية ثاوية في ضمير تيار الوسطية.
ومحاولات فهم الديمقراطية كما تعمل بها فرنسا وتسوّقها، تُبينُ عن فصل واضح بين الديمقراطية النظرية، والديمقراطية العملية، فكأن العمل ناسخ للنظرية، فالبون شاسع بين الناحيتين النظرية والتطبيقية، إذ لا يجتمعان في غير ضمير اجتمعت فيه المتنافرات، وفيه دلالة على أنّهم يربطون المصائر بالمنافع الخاصة للشخصية الفرنسية، كما أرادها تحالف المال والسلطة السياسية وخدمهم في جملة الدوائر الشعبية هناك وهنا، فمن كان ساعيا لتحقيق غلبتهم والنفث في روع الشرقيين عموما العجز؛ فهو منهم ويرافعون عنه قبل حقوق الإنسان والديمقراطية، ومن كان منافحا عن مصالح وطنه ومدافعا عن كرامة أهله راغبا في التحرر من التبعية والتأسيس للاستقلال فهو عدو بصرف النظر عن كونه متبنيا للديمقراطية أو عدمها.
وقد عبّر عن هذه المعاني العلامة البشير الإبراهيمي، فقال: “أما في التطبيق والعمل، فإن هذه الحضارة، وهي حاضنة المتناقضات، اتَّسعت لرأي ديمقراط ولرأي ميكيافيلِّي صاحب كتاب “الأمير”، فإذا أرادت التلبيس ألبست الثاني ثوب الأول”، أي أنهّم يدّعون الديمقراطية ولكن إذا جدّ الجدّ تحوّلوا عنها، لأنّهم لا يؤمنون بحق الآخرين في تقرير مصيرهم حتى “بعد استقلالهم”، لهذا قال في السياق نفسه: “لم تُظلَم هذه الكلمة (الديمقراطية) ما ظلمت في هذه العهود الأخيرة (ونحن نعيش اختطافها)، فقد أصبحت أداةَ خداعٍ في الحرب وفي السلم، جاءت الحرب فجنَّدها(لديمقراطية) الاستعمار في كتائبه، وجاء السلم فكانت سرابًا بقِيعةٍ، ولقد كثر أدعياؤها ومدَّعوها والدَّاعون إليها، والمدَّعي لها مغرور، والداعي إليها مأجور، والدعيُّ فيها لابسٌ ثوبَيْ زور. أصبح استعمار الأقوياء للضعفاء ديمقراطية، وتقتيلهم للعزل الأبرياء ديمقراطية، ونقض المواثيق ديمقراطية. لك الله أيتها الديمقراطية!”..