لا “حراك” لنا غيره…لكن ليس بروح واحدة
الزمن الثوري ليس خطا ثابتا لا اعوجاج فيه ولا تعرَج، واليقظة في حالة استنفار دائم، لأنها مُحاربة والسهام تنهال عليها من دون انقطاع، والطاقة تُختزن، والمعركة مستمرة، وليس لها مسار واحد تنغلق عليه، ومن أبطأ به وعيه لم يسرع به اندفاعه، ومن استعجل الحسم ربما تحمل ما لا يطيق..
ليس الشارع ملكا خاصا نتحكم فيه، ولا هو مخزونا ثوريا تحت رهن إشارتنا، ولا الأمانيَ تغني عن الحقائق على الأرض..السلطة تتهاوى، ولا تكاد تسيطر على المستقبل، وقدرتها على تحكمها مهزوزة وإن بدت قبضتها مُشددة، والسلطة بلا فكرة ولا رؤية، ويصنع يومه وغده العقل الأمني، والحكم كله رهين بما يُمليه القرار المُسلَح…
ووعي الحراك ينضج بتلاقح الأفكار وتدافعها والنقاش والجدل، وهذا مهم لتجديد روح الحراك وعقله، وجعل التغيير قضية رأي عام هذا هو التحدي الأبرز في الزمن القادم.الشارع القلب النابض للحراك وروحه الوثَابة الطموحة، لكنه لا يعيش بروح واحدة، ولا ينبغي له، وإلا حفر قبره بيده، إنما هي أرواح، إن ضاقت إحداها تمدَدت أخرى، وهكذا، إذ لا يمكن، بأي الحال، الاكتفاء بروح واحدة في صراع مرير مستنزف وطريق وعر طويل، هذا الذي لم يستوعبه كثير منا، ولهذا يتسلل الإحباط إلى نفوسهم، سريعا، لأنهم انغلقوا على مسار أحادي ولا يرون غيره..
صحيح أن الشارع هو أقوى ما نملك على الأرض، لكننا نملك أيضا الوعي واليقظة والطموح والرؤية، ونملك محزون الطاقة الثورية، ثم إنه حراك بلا “نخبة” وعقول قيادية مسؤولة مؤثرة مُستوعبة، ولا “مجتمع مدني” مساند ولا ظهير سياسي، يخوض الصراع وحده ويقاوم وحده وهو الطرف الأقوى حضورا، اليوم، في ساحة المعركة ضد الاستبداد، إذ أكثر القوم بين انبطاح وانسحاب وخذلان، ونرهقه إذا حمَلناه فوق ما يطيق وأثقلنا كاهله.
ومن يكتب ويتحدث يُطلق العنان لخياله وقاموسه، ويكثر من “اللوازم” والجوازم، لكن الحقائق على الأرض تُنبئ بقدر من التحولات والطوارئ مهم جدا مراعاتها والتعامل معها إلى أن تنضج الظروف، والممكن المتاح يضيق ويتسع، وليس حالة واحدة ثابتة، لكن معركة الوعي حالة يقظة دائمة، وتوسيع دائرة الإسناد الشعبي هي أم القضايا، الآن، لكن على قدر أهل العزائم ووعيهم ونضجهم تأتي العزائم، المعركة لا تُخاض بـ”الأنا” المتخضمة ولا بـ”الشك المتبادل” ولا بـالتهور المُبدد للطاقة، ولا بالعواطف العواصف والعواصف نواسف.
عقل الثورة لم يتقدم ولم يتجدد وغرق في أفكار جزئية وتشعبت به السَبل، ولم يواكب حركة الشارع ولا احتياجها المُلحَ لعقل جمعي موجه ومنسق يخوض الصراع بمنطق ورؤية وتصور، ويدلَ الناس، كل الناس، على طريق الخلاص من حكم يُسمَم الحياة ويستكمل عهود الظلام والانحطاط والخراب والتحطيم..
صحيح أن شغل السلطة الفعلية الأكبر، اليوم، أن لا تقوم للحراك قائمة، مجددا، وأن تجهض المحاولات الطموحة الواعدة للانتقال بالحراك من الحركة الشعبية العفوية إلى عهد من التنسيق والتوجيه وإدارة للصراع، لكنه التحدي يقوي العزيمة ويبعث على الإصرار والإلحاح، لا غنى عن عهد جديد في هذا الزمن الثوري التاريخي، ننجز فيه ما يمكن إنجازه بلا تلكؤ ولا تردد وبمسؤولية أخلاقية وسياسية..العقل النظري لن يُسعفنا بما يمكن فعله، والحركة اليوم سبقت الفكرة وتقدمت عليها، والحاجة إلى العقل العملي أكبر وأكثر إلحاحا، نحتاج إلى من يدلَنا ويُبصرَنا بما يمكن فعله، حتى لا نتأخر عنه، وهذا لا تصنعه الأمانيَ والكلام التجريدي والتحليل الوصفي، وإنما هي الفكرة في ميدان العمل، وتجاوز الحفر وتضخم “الأنا” والهدم المتبادل، وهذا لا يمكن تخطيه أو الانصراف عنه لأنه من شروط إنضاج الثورات وتجديدها لاستكمال مسارها، وإلا لتعثرت…وحتى مع تعثرها ستنهض لكن بعقل جديد وروح متجددة…فليس ثمة خيار حقيقي غير مزيف، ممكن، لمواجهة الاستبداد ومقاومته غير الدفع والضغط بالحراك الشعبي السلمي، بأإرواحه الوثابة، وعقله الجمعي، إذ كل الخيارات الأخرى تبددت وتاهت وغارت.
صحيفة الامة الالكترونية