من أولى … و أولا ؟ الإديولوجية قبل دولة القانون ، أم في إطار دولة القانون ؟
من المميزات الأساسية التي جعلت حراك 22 فبراير يبرز ويشكل منعطفا حاسما يصل صداه وإشعاعه أرجاء المعمورة، ثلاثة دعائم جوهرية :
- سلميته الإبداعية وتمسكه بها رغم الاستفزازات و محاولات عسكرة الحراك ..
- وضوح مطالبه التي تنم عن وعي و إدراك واسعين لدى المواطنين و التمسك بهما و عدم السقوط في فخ ” فتات الإستجابات ” التي تصرف النظر عن جوهرها ..
- ثم وحدة الصفوف ، التي بفضلها تمكن الحراك من تجاوز الإستقطاب و التشتت و التخندق وراء التوجهات التي استعملها النظام طيلة عقود لمنع الشعب من توحيد صفوفه ، فلا الثنائية ” عربي\ قبايلي ” نجحت في حرف مساره و لا ” إسلامي\ علماني ” أفلحت رغم المحاولات .
إستطاع الحراك الحفاظ على تماسكه بفضل تفطنه لهذه الفخاخ ، مما حصنه و جعله يتسع لكل توجهاتهم ، دون أن يتخذ هو توجها محددا ، فأفشل بذلك كل محاولات التفجير.
لكن مؤخرا تعالت ، بشكل منسق و متزامن ، من منابر عدة ، بعض الأصوات التي تروّج لضرورة الخوض في المسائل الايديلوجية والفكرية والثقافية، و عدم التكتم عليها و تركها معلقة. قد يكون صاحب هذا الطرح صادقا، و قد يكون أيضا من باب كلمة حق أريد بها باطل (الأكثر ترجيحا) يهدف من ورائها ، بتوكيل من نفس الدهاليز ، تفجير الحراك . و توضيحا لهذه النقطة الحساسة ، أعتبر أن الخوض في مسألة التوجهات الإيديلوجية أمر مشروع لا لبس فيه، و من العبث انتهاج سياسة النعامة .
الجزائر ، كغيرها من بقع الأرض ، تأوي شتى المشارب السياسية و التوجهات الفكرية ، و لن نتوصل إلى أي حل جاد و قابل للإستمرار ، من خلال سياسة التعامي و الهروب إلى الأمام ، فلا مناص من التحلي بالشجاعة و الموضوعية ليتناقض الجزائريون بينهم ، دون طابوهات .. لكن ما يحوم حوله الشكوك هو اشتراط الخوض في هذه المسائل قبل تحقيق المطالب الجامعة ، بين فئات الشعب ، في إقامة دولة القانون ، خاصة إذا عرفنا هوية أصحاب هذا ” الشرط ” الذين يمكن ان نقول عنهم أي شيء إلا انشغالهم باهتمامات الشعب وحقوقه ..
حول مشروعية هذا المطلب من عدمه ، أرى أنه بقدر ما لا يمكن أن نتغافل عن هذا الشق من المطالب ، و عدم إنكار تواجدها بين صفوف الشعب ، بقدر ما يتطلب الامر توخي الحذر و توضيح أين يكمن الخلل بهذا الشأن ، و السؤال المطروح ، إذا أقررنا بضرورة أخذ بالاعتبار هذا المطلب، يبقى أن نحدد، متى يمكننا الخوض فيه بفعالية و موضوعية ؟
إن الخوض في هذه المسائل قبل قيام دولة العدل و القانون يكون عبثيا حتى لا نقول ناسفا لجهود إقامة دولة لقانون ، لأن إقحام هذه المسائل في ظل دولة دكتاتورية ، عسكرية بوليسية ، لا يعدو ، أن تكون أداة تستعملها السلطة لتشتيت فئات الشعب و إضعافها كلها ، ليس حماية لدولة لقانون و العدل ، و لا لمطالب الحرية و السيادة ، بل حماية للعصابات في السلطة المستفيدة دائما من هذه القضايا التي تحسن توظيفها ، أما طرحها في إطار دولة القانون ، يكون طرحا عمليا و سليما لأنه يسمح أولا للجميع بالتطرق إلى كل المواضيع دون استثناء طالما أن النقاش يتم في جو مفتوح غير اقصائي و شفاف دون استثناء او تمييز ، و ليس للعصابات يد فيه ، و ثانيا لأن الدولة القوية تبنى بتنوع فئاتها و لا تخشى هذا التنوع الذي تستفيد منه و تتقوى بفضله .. هنا يكمن الفرق بين من أولا و من أولى ..
بقلم الدكتور رشيد زياني شريف