بالضربة القاضية
لم تجد السلطة غير الإذعان لحقيقة المقاطعة الواسعة للاستفتاء حول “الدستور” فأعلنت، على لسان رئيس سلطة الانتخابات، بعد نحو أربع ساعات من إغلاق مكاتب الاقتراع أن نسبة المشاركة لم تتجاوز 23.7 بالمائة، وقد اعتبر محمد شرفي الرقم دليلا على نزاهة الانتخابات وأن عهد التزوير قد ولى، وهذا كلام ينطوي على مغالطة.
منذ أشهر تعيش الجزائر حالة غير مسبوقة من خنق حرية التعبير، حيث تم تجنيد وسائل الإعلام، العمومية والقنوات التلفزيونية الخاصة وأغلبية الجرائد أيضا، للدعاية لمشروع السلطة في ظل قمع استغل الوضع الصحي ليخلق صورة وهمية عن ميزان قوى مختل بشكل كامل لصالح السلطة منذ أن قرر الجزائريون وقف المظاهرات بسبب الوباء في 13 مارس الماضي، وكل هذه الأوضاع لم تمكن السلطة من إقناع الأغلبية بالذهاب إلى صناديق الاقتراع رغم الاستغلال المشين لرمزية أول نوفمبر.
قدمت السلطة مشروع الدستور كنص مؤسس لما تسميه الجزائر الجديدة، وهذا يجعل نسبة المشاركة المعلنة وهي نسبة لن تسلم من شبهة التضخيم في كل الأحوال، علامة فشل كبير باعتبار أن الرهانات المرتبطة بالاستفتاء تتعلق أساسا بحسم مسألة الشرعية، شرعية تبون الذي تم فرضه في انتخابات قاطعتها الأغلبية وتم تنظيمها في ظروف استثنئاية، ثم شرعية النظام الذي يريد أن يعطي لتجديد واجهة الحكم بعدا آخر باعتماد نص مؤسس جديد.
هذه هي التفاصيل التي تجعل الاستفتاء مهما بالنسبة للسلطة، كما تجعل مقاطعته فشلا تاريخيا يعصف بمسار الالتفاف على السلمية واحتوائها والقفز على مطالبها، ثم إن ما حدث اليوم سيفتح الباب واسعا أمام تعميق أزمة النظام المقبل على مواجهة تحديات أخطر في المستقبل القريب.
دون المجازفة بتصنيف من أدلوا بأصواتهم اليوم فإن النسبة المعلنة تؤكد أن النظام فشل في الحفاظ على قواعده السابقة، وعندما يتم حذف المصوتين بـ “لا” سيتبين أن ما كان يسمى بالوعاء التقليدي للسلطة انكمش أو يكاد يتبخر، وهذه نتيجة منطقية للاعتماد على الشبكات التقليدية التي تم استهلاكها طيلة عشرين سنة من حكم بوتفليقة التي انتهت بثورة سلمية رفعت شعار التغيير الجذري لنظام الحكم، لكن ليس هذا فحسب، فالاستفتاء كان مناسبة للفرز حيث أنه وضع دعاة المشاركة بلا ضمن الأقلية، وهو ما يعني أننا صرنا أمام معسكرين أساسيين الأول يمثله الرافضون لمسار السلطة وخطتها وهم أولئك الذين قاطعوا، والثاني يضم دعاة المشاركة بصرف النظر عن الموقف من المشروع محل الاستفتاء، والخلاصة هي أن مطلب تغيير النظام حقق اليوم تقدما كاسحا في وجه مطلب الإصلاح التدريجي أو التغيير من الداخل، بما يعني أن أدوات النظام وأساليبه لم تعد صالحة لتقديم الإجابات على الأسئلة الحرجة التي تفرضها المرحلة.
نسبة المشاركة هي رسالة أيضا إلى تلك الفئة من المرشحين للعب دور النخب الجديدة للنظام، ومفاد الرسالة أن القطيعة مع النظام أعمق مما كان يتصور أكثر الجزائريين راديكالية، وأن ما جرى اليوم هو إشارة مبكرة إلى الإصرار على تغيير النظام والذي سيتم التعبير عنه لاحقا بأساليب مختلفة، وقد لا تكون هناك فسحة لمن أغرتهم مرحلة الارتباك بالبروز إلى الواجهة.
أول نوفمبر كان تأكيدا على أن الجزائر لن تعود إلى 21 فيفري 2019 وليس للنظام ما يقترحه غير العودة إلى ذلك التاريخ.
الصحفي نجيب بلحيمر