وطنية بين ضفتين

كتب بواسطة :د.عمار جيدل / كاتب وباحث

يتغنّى كثير من الناس بالوطنية، وليس لك أن تنكر على أحد هذا التغنّي، ذلك أنّ حبّ الأوطان فطري، لا يدفع ولا يرفع، لأنّ الإنسان مفطور على حبّ من أحسن إليه أو توسّم فيه الإحسان، كبغضه لمن أساء إليه أو توسّم فيه الإساءة، فهل في المخلوقات من أحسن إليه كوطنه، فإحسان الوطن لأهله لا يقدّر بثمن، لهذا كان حبّه فطريا، كما قال إمام النهضة العلمية في الجزائر، الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس.

ولأنّ حبّ الأوطان فطري، يعزّ أن تجد من ينكر حبّه لوطنه، مهما كانت مظالم حكّامه له، فظلمهم وتقصيرهم وفسادهم وإفسادهم -يعود عليهم في الدنيا والآخرة- لا يمكن أن يكون سندا لبغض الوطن، لأنّ الوطن معجون بلحم الإنسان ودمه، بل هو الدم الذي يجري في عروقه.

أكثر من ذلك أنّ العدو الاستعماري عداوته مؤسسة على الرفض الحضاري والفكري لرسالة الشهداء، لهذا كان الأصل فيه أن يكون مبغوضا لإساءته السابقة والحاضرة واللاحقة، ذلك أنّ بغض العدو فطري لإساءته الواقعة والمتوقّعة، ومع كلّ ما سبقت الإشارة إليه يتبنى بعض “المنسوبين إلى الوطنية” مشروعه، ومع ذلك لا يصرّحون بكره الوطن بالرغم من عمالتهم له، و مع عملهم على تحقيق مقاصده في الوطن، وتقديم منافعهم الشخصية على مصالح الوطن، والأكثر من ذلك يتغنّنون بحب الوطن وادّعاء السهر على خدمته.

يفرض هذا الوضع التركيز على معرفة معايير الوطنية وعلاماتها، هل يكفي التغني بها في المحافل العامة والخاصة، أم إنّ الوطنية تتطلّب شاهدا عمليا يتجاوز التجريد والادّعاءات النظرية الصرف. لو كانت الوطنية ادّعاءات وشعارات، لكان لكلّ مدّعيها حظ وافر منها، لكن الوطنية الحقيقية أمر غير هذا تماما، الوطنية الحقّة أن تعطي الوطن من غير انتظار عوض، أن تكون مسكونا بالوطن، لا أن تكون ساكنا فيه، من هنا الوطن أن تمنحه فكرك وعمل سواعدك، تفكيرا وتدبيرا تقيم به أركانه وتنمي مكاسبه.

حبَ الوطن ليست “وطنية مستوردة” (Patriotisme)، حب الوطن معناه أن تحب الوطن وفق ما يحب الوطن أن تحبّه عليه، لا أن لا تحبّه وفق ما يريد عدوّ الوطن أن تحبّه عليه، أو أن تحبّ وطنك وفق رغبات مختطف الوطن، الوطن إن لم تحبّه كما يريد الشهداء، فأنت لا تحبّ الوطن، بل أنت محبّ لنسفك على حساب وطنك، ليس من الحب أن تقدّم منفعتك الشخصية أو شللية على مصالح الوطن، فأنت بهذا دَعِّيُّ حب الوطن، وليس من ذلك نصيب.

حبّ الوطن أن تمنحه أنفاسك وتفكيرك وعمل يديك، وأن تعمل على تحويل الحب الفردي إلى حبّ جماعي وطني عارم، يترجم عملا لصالح الوطن، ينبني دولة ويتعهّدها بالحماية ليلا ونهارا، في السرّ والعلن.

لا يمكن الخلوص إلى هذا الوعي إلاّ إذا قطع دابر الادّعاءات الفارغة ودفعها عمليًا بالبذل للوطن في شعاب الحياة، وهو أكبر شاهد على حبّ الوطن، وهذا الوعي صناعة يستهل بتزييف عام وعارم للادّعاءات الفاغرة لحب الوطن، وصناعة وعي أنّ الشاهد العملي على حب الوطن هو الذي يشفع لصاحبه عند الله ثم عند الناس، وهذا له متطلّبات مستعجلة بدايتها استئصال قبول الذل والخنوع إذا تعلّق الأمر بحاضر الوطن ومستقبله أو السير به في غير مسارات رسالة الشهداء، وهو مدخل لاستعداد الوعي بالقدرات والاستعدادات الفردية والجماعية، وهو طريق مهمٌّ لتجفيف منابع الخوف والجبن والتهوّر سواء كانت برمجته مشبوهة أو غير مشبوهة.

وبناء على ما سلف، فإنّ الوطنية بين ضفتين، ضفة الادّعاء من غير شاهد بذل، وضفة البذل العام والشامل لصالح الوطن المتجلي في شعاب الحياة خدمة للوطن من غير انتظار عوض، الوطني الحقيقي يكيفه شرفا أن يبذل عمره لأجل رفعة الوطن وتنميته والحفاظ على مكاسبه، والتفكير الجدي في مستقبله، الذي يخطّط أهله لأيام وطن أسعد، وطن يسع كلّ أبناءه، وطن يستعيد المعارضة الحقيقية، لأنّها جزء من مكوّنات الدولة الوطنية، التي تعمل على تأطير الاختلافات السياسية والفكرية من خلال مؤسسات منتخبة شريفة نزيهة..

الدولة الوطنية تؤطّر بجد الاختلافات السياسية مهما كانت درجة الاختلاف، هذه هي الطريقة الوطنية الأصيلة التي تسمح باجتماع كلّ القوى السياسية لأجل وطن يسع الجميع، يؤسس لدولة لا يضطر معارض سلطتها إلى مغادرة الوطن، الدولة الوطنية السلطة فيها جزء من الدولة وليست هي الدولة، ومعارضتها (السلطة) محلية ليست مضطرة لمغادرة الوطن مهما كانت شراستها السياسية، بل تكون الوطنية الحقّة بتأسيس دولة لا مجال فيها للتزوير والخوف والذل والرهبة من السلطة، بل قوامها الحرية والحق والقانون وفق أمانة الشهداء، هكذا نفهم الوطنية.

الحراك