كتب بواسطة :عبدالله كمال / صحفي ومدون
قضايا السياسة الخارجية بشكل عام، دائمًا ما تضع السلطة والمعارضة في موقف حرج. فبالنسبة للسلطة، كلّما زادت الهوّة بينها وبين المعارضة الشعبية وكثرت الانتقادات حول خياراتها في المسائل الخارجية، نقصت قدرتها التفاوضية وهامش المناورة لديها في الهيئات الأممية، إذ تبحث دائمًا عن الإجماع والتوافق مع المعارضة من أجل التفاوض خارجيًا من منطق القوّة، خصوصًا إذا تعلّق الأمر بقضايا الحرب، التي يدفع أبناء الشعب تكلفتها المادية والبشرية.
أما بالنسبة للمعارضة، فقد تلجأ بعض تيّاراتها، خوفًا من وصمها بالخيانة أو بـ”خرق الإجماع الوطني” أو باتهامها بنقص الوطنية من أخذ مواقف مؤيّدة للنظام في القضايا الخارجية؛ باستعارة تعبيرات أبوية، تتحوّل فيها الدولة إلى عائلة، وذلك بالقول بـ”أننا يمكن أن نختلف داخل البيت، ولكن ينبغي أن نكون متوحّدين خارجه”، وهذا ليس خطابًا شعبويًا شديد السطحية، وفقط، بل يدلّ أيضًا على معايير مزدوجة بين الداخل والخارج، فقيم العدل والحرية واحترام الحقوق لا تعرف فرقًا بين الداخل والخارج.
وهنا، نستذكر المفكّر الأمريكي الكبير نعوم تشومسكي، الذي بزغ نجمه في الستينيات والسبعينيات بسبب انتقاداته اللاذعة للنخبة الأكاديمية الأمريكية التي كانت تجنّدت تأييدا لحرب الفييتنام الدموية، وقد كتب نصّه الشهير بعنوان “مسؤولية المثقف” التي يؤكد فيها أن من صميم مسؤوليات المثقف مُساءلة السلطة والتشكيك في روايتها وإعمال حس النقد في كل الأخبار والتصريحات التي تأتي تجاهها؛ وذلك لامتلاكه للأدوات الفكرية والمعرفية التي لا يملكها رجل الشارع العادي، ومنذ ذلك الحين وهو يسجّل مواقف جعلته من أكبر ناقدي سياسات الولايات المتحدة الخارجية وتدخلاتها في شؤون البلدان الأخرى، وتورّطها في دعم الانقلابات ضد الحكام الشرعيين، وتأليب الشعوب ضدهم باستخدام الإعلام أو أجهزة المخابرات أو بالحصار الاقتصادي. ويواجه “تشومسكي” منذ سنوات طويلة اتهامات بالخيانة وغياب الوطنية والعمالة للجهات الأجنبية، فقط بسبب انتقاد سياسة بلاده الخارجية، لكن ذلك لم يثنيه عن التمسك بمواقفه، والتي من بينها دعم القضية الفلسطينية، رغم كونه يهوديًا.
وفي الجهة المقابلة، لا ينبغي الوقوع في فخ رفض كلّ ما يصدر عن السلطة السياسية من منطلق مبدئي حتى دون دراسة المضمون، وذلك ما لجأت إليه بعض الأصوات في مواقع التواصل الاجتماعي بالخصوص في قضية الصحراء المغربية، فبما أن النظام السياسي يؤيّد قضية الصحراء فإن علينا معارضتها، دون أي دراسة حقيقية لتاريخ هذه القضية وحيثياتها وظروفها، بل أصبح بعض الجزائريين مغاربة أكثر من المغاربة أنفسهم، ففي الوقت الذي وافق المغرب فيه على قرار الأمم المتحدة منذ سنة 1991 على إحداث هيئة تدعى “المينورسو”، وهو لفظ مختصر لعبارة “هيئة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية”، وهو اعتراف من المغرب بأحقية الصحراويين في الاستفتاء على مصيرهم وتقريرهم له بأنفسهم، يتساهل بعض الجزائريين، من منطلق معارضة كل ما يأتي من النظام، في الحكم على القضية بأنها “انفصالية”.
ينبغي أن تكون المعايير الأخلاقية ثابتة في تقييم السياسة الخارجية، لا تتعلّق بموقف النظام السياسي نفسه؛ وبالتالي فليس من التناقض اعتبار الموقف الجزائر من الحرب السورية مثلاً ودعمه لنظام الأسد موقفًا شديد الانحطاط ويصل إلى حدّ الإجرام، دون أن يجعلك موقفك هذا خائنًا أو عدوًا لوطنك، بينما يمكن تأييد الموقف الجزائري من الصحراء الغربية (حق تقرير المصير) دون أن يجعل ذلك منك متملّقًا للسلطة أو باحثًا عن منصب أو مصلحة. النظام المستبد يحتاج دائمًا إلى صناعة عدوّ، سواء داخليًا أو خارجيًا من أجل تبرير وجوده وشرعيته المنقوصة في نظر الشعب، حتى إذا لم يكن هذا العدو موجودًا في الحقيقة فينبغي اختلاقه من أجل الإبقاء على حالة عدم اليقين والخوف من المجهول.
تأخذ صورة العدوّ أشكالاً مختلفة: الحرب على الإرهاب، أو العدوّ الداخلي الخائن، المعارضة المرتبطة بالخارج، شيطنة الأقليات الدينية والعرقية، وغيرها. وقد عمل النظام منذ سنوات طويلة على تكريس فكرة العدو المغربي الذي يتآمر على الجزائر في كل حين، وهي الإستراتيجية نفسها التي اتبعها النظام المغربي نحو شعبه؛ إذ إن النظامين يستمدان جزءًا من مشروعيتهما من خلال شيطنة الجار وتصويره باعتباره متآمرًا ومتكالبًا على مصالحه، وبالتالي فعلى الشعب دعم القيادة في نضالها وجهودها لإبطال “المؤامرة” التي يخطط لها الجار الجزائري/المغربي.
وممَا لا شك فيه أن هذا التصوّر قد تجاوزه الزمن، خصوصًا أن النخب المغربية والجزائرية قد أصبحت أكثر وعيًا بأساليب الاستبداد وحيله، ووعت أن لغة الأرقام تقول أن ما يحدث في المنطقة المغاربية جريمة في حق الشعوب بسبب القطيعة وانعدام التبادل التجاري بين بلدانها الذي تعدّ نسبته من بين الأقل في العالم (14% فقط). رغم أن الكثير من النخب الفكرية والحزبية تضع في برامجها هدف إنشاء الوحدة المغاربية، إلا أن الأنظمة الاستبدادية تحول دون تحقيق هذا الحلم، وليست قضايا مثل الحدود أو المخدرات أو الصحراء إلا شمّاعة للحفاظ على الوضع الراهن، وإبقاء بلداننا مفرقة ورهينة للقوى الاستعمارية الكبرى، نتفاوض معها متفرّقين كلّ على حدا.