أين تتجه الجزائر: يوميات مختطف محمد بوضياف حول حكم البوليس السياسي في الجزائر عام 1994

قال الكاتب في عدد جديد: محمد بوضياف يشرّح آلية عمل دولة العسكر في الجزائر عام 1964

كيف كانت دولة البوليس السياسي في الجزائر في السنوات التي تلت الإستقلال مباشرة؟ هل تغّير شيء من عقليتها اليوم…

عدد جديد من برنامج قال الكاتب – من إنتاج الفريق الإعلامي لحركة رشاد

يسرد مقتطفاً من كتاب “أين تتجه الجزائر: يوميات مختطف” للرئيس محمد بوضياف.
تابعوا هذا التسجيل الشيّق.

مر الآن أكثر من ثلاثة أشهر منذ أن تم اختطافي بالجزائر العاصمة، وكي أكون واضحاً، فإن الحادث وقع يوم 21 يونيو الأخيرة ومن دون شك، فإن الحادث في حد ذاته ليست له أهمية كبيرة، ولكنه ينطوي على معانٍ سياسية، وإنني إذ أنشر قصة اعتقالي، فإن هدفي الوحيد هو استخلاص الدروس من هذه الواقعة، وفضح الأسلوب البوليسي، إن أحسن سبيل إلى ذلك هو أن أترك الأحداث تتحدث عن نفسها، فهي أفضل البراهين للتدليل على أساليب سلطة مجبرة على القيام بأفظع الأعمال غير القانونية، لإبعاد أية عقبة تعترض طريقها ومن شأنها عرقلة مسيرتها نحو إقامة الدكتاتورية.
إني لمقتنع أنني بتصرفي هذا أخدم قضية الديمقراطية والحقوق الثابتة للإنسان، وهي الحقوق التي انتهكها رجال بلغوا حدا لم يعودوا يحترمون معه أي شيء.
إن اعتقالي واعتقال رفقائي، على الرغم من أنه لا يعني مباشرة إلاَّ البعض من المناضلين، إلا أنه يحمل في طياته مخاطر حقيقية فهو منعرج خطير في سياسة النظام الحالي، وأن مسلسل الأحداث الذي تبع عملية اختطافنا يسمح بفهم هذا الانزلاق نحول الهاوية أي الحكم الفردي والدكتاتورية البوليسية.
لقد حان الوقت ليحدد كل جزائري موقفه بوضوح قبل فوات الأوان. فالسكوت بالنسبة للسلطة هو أحسن تغطية لها، وهي تفرض على البلاد نظاما حسب هواها، نظام قوامه الظلم والقهر، ذلك أنه يجب ألا نخطئ في التقدير، فالدكتاتورية قائمة ويكفي للتدليل على ذلك بعض الأمثلة، نختارها من بين الأكثر خطورة والتي لا يجهلها أحد ولا ينكرها.
– غياب كامل لحرية التعبير والرأي: إن المرسوم الحكومي الذي يمنع تشكيل أية جمعية ذات طابع سياسي باستثناء الجبهة ليس إلاَّ إضفاء للشرعية، بعد حين، على خيار قديم.
– مراقبة صارمة للصحافة كلها ووسائل الدعاية: (إذاعة وطنية، تلفزة، وكالة أنباء)، وهكذا تفرض على البلاد أخبار أحادية تماما بنفس الطريقة المستعملة في البلدان ذات الحكم الأوتوقراطي.
– تدعيم الجهاز البوليسي بوجود هياكل مسؤولية موازية بداخله، متعددة ومتنافسة فيما بينها، أساليب العصابات المستعملة من قبل المصالح المختلفة، بعيدا عن كل رقابة وأي ضمان قانوني.
– وجود دعم للجهاز العسكري، لا يوافق الإمكانات الاقتصادية للبلاد.
– النداءات الديماغوجية المستمرة للجماهير، التي تستغل مشاعرها بدل مشاورة الشعب الجزائري بالطرق المؤسساتية ذات الطابع الديمقراطي الحقيقي.
– اللجوء كلما طرأت صعوبة جديدة إلى التلهية… مؤامرات وتهريج وترهيب.
ويعرف نظام حكم يستخدم مثل هذه الأساليب مسبقاً، أنه محكوم عليه، على المدى القصير بأحد أمرين: إما إن يسقط سقوطا مخجلا وإما أن يتمادى في الحكم بالقوة. والسلطة الحالية قامت باختيارها في اليوم الذي لم تتنوع فيه عن الإيقاع بين الجنود ودفعهم إلى أن يتقاتلوا فيما بينهم دون حساب لخطر التسبب في نشوب حرب أهلية شاملة، وقد كانت هذه الحرب الأهلية وشيكة الوقوع لولا يقظة وحكمة الشعب بكامله الذي اختار ضمن إرادته في البقاء وتعبيره عن عيائه أخف الضررين وفضل السلم في الاستقرار الظاهري على مصائب الاقتتال.
كل المصائب بدأت في هذا الوقت واستمرت تنمو وتجر آثارها معا بلا توقف.
وفي زخم الفوضى التي أحاطت بأزمة 1962، فإن الكثير من الناس لم يكن يدرك أن.. “مجموعة تلمسان” كانت تريد فقط الاستيلاء على السلطة، وهي تصل إلى هدفها هذا باستغلال مشاعر الشعب الذي كانت تحدوه إرادة شرعية في السلام ولكنه لم يكن متهيئاً لوضع مأساوي أفرزته الأيام الأولى للاستقلال.
ولكن الوصول إلى السلطة في ظروف مثل هذه لم يكن يسمح لأحد أن يكون قادراً على حل المشاكل المعقدة التي كانت مطروحة على البلاد حينذاك بشكل سليم، فالجزائر كان يحدوها أمل كبير، وكانت مستعدة لتقديم تضحيات جديدة ولكنها كانت خارجة لتوها من حرب طويلة ومدمرة، اقتصاد مخرب ومجتمع انقلبت أوضاعه رأسا على عقب.
ولو كانت نية الجميع هي البحث عن حل أصيل وفعال للوضع المأساوي لكان بالإمكان العثور على مخرج آخر على أساس تحليل صادق وموضوعي.

22 و 23 يوليو
هناك واجب مقدس لا يقدر وطني أن ينكره، من دون أن يؤدي به ذلك إلى الخنوع، وهو قول الحقيقة دائما للشعب مهما تكن العواقب.
إننا نتحمل هذا العبء أحب من أحب وكره من كره.. كل كفاحنا وعملنا الثوري وعلة وجودنا النضالي مبنية على هذا العهد الذي قطعناه على أنفسنا وهو قول الحقيقة دائما وإشاعتها، هذه الحقيقة ستشق طريقها لا محالة عبر الأيام، ومثل عاصفة عاتية لا تقاوم، ستكنس في طريقها كل المخادعات والأكاذيب.
إن شعارنا هو، وسيضل دائما كذلك: الحقيقة وحدها هي الثورية.
يجب ألا يتوهم، أحد أبداً بأن الفاتح من نوفمبر 1954 قد نزل هكذا من السماء، فهو في الواقع نتاج عملية إنضاج طويلة استمرت أعواما، بل عشرات السنين من العمل الدؤوب من التحريض والتوضيح والتنظيم.
وعد فهم هذه السيرورة.. وعدم الاعتداد بها يعني الانقطاع عن الحقيقة التي لا يوجد خارجها غير المغامرةـ إن كل النظم وكل أنظمة الحكم التي تفتقر إلى جذور متينة تمتد في عمق الحركة التاريخية ستضمحل لا محالة وتسقط عاجلا مثل قصور من الورق، وفي ما يخصنا، هل النظام الحالي هو السليل الشرعي للثورة وبالتالي وريثها، أيس هو لقيط أنجبته أزمة صيف 1962؟. إننا نترك الإجابة لجميع الجزائريين الذين لا يتوقف سعيهم من أجل اكتشاف الحقيقة.
أما بالنسبة إلينا فإن الجواب معروف، فمهما كان العقاب الذي نتعرض له بسبب رفضنا الاستسلام، فإن ذلك لا يغير من موقفنا شيئا، يجروننا من الشمال إلى الجنوب تحت تهديد السلاح مثل اللصوص.. يحرموننا من أبسط وسيلة للدفاع عن أنفسنا، وإسماع صوتنا، كما لو أن كل هذه الوسائل تستطيع إنقاذ الأنظمة التي تستخدمها.. مع الأسف، فإن التعصب الأعمى كان دائما من صفات الأنظمة المتجهة نحو الهاوية وامام هذا الواقع، ما قيمة التصريحات المضللة عن الديمقراطية الحرية والاشتراكية.
هذه مع الأسف هي صورة جزائرنا التي بالرغم من نضالاتها في الماضي، بالرغم من تضحياتها، تجد نفسها وقد زج بها رغما عنها، ولمدة من الصعب تقديرها، في دائرة البلدان التي أخفقت الثورة فيها.
فالأسلوب المتبع هو نفسه في كل جهة.. في خضم الفوضى الحتمية المواكبة للمراحل الانتقالية، تطبخ على حسب صدف التحالفات، مكيدة، ثم بواسطة المناورات أو باستخدام القوة اللاصقة بطبيعتها، ومع مرور الوقت تتضاعف الصعوبات وتزيد التناقضات اتساعا ويتحول الجالسون على الحكم تدريجيا إلى بيروقراطية برجوازية صغيرة استبدادية لا يربطها بالشعب أي رباط، غلا هي تمثله ناهيك عن أن تكون منبثقة عنه.
ولكونها لا تستطيع الاعتماد لا على الجماهير ولا على الطليعة، فإن منطقها سيقودها، من اجل التشبث بالسلطة، إلى إنشاء دفاعها الذي لا تجده إلا في شرطة تدفع لها بسخاء أو جيش منضبط. إن الأمثلة على تورط مثل هذه كثيرة جدا، ولا تستطيع الجزائر تنجب هذا المصير إلا إذا تدارك المناضلون الثوريون والشعب الأمر بسرعة.

وفي هذه الظروف، فإن منعنا من الكلام مع المناضلين ومخاطبة الشعب من خلالهم، يعني الإصرار على التنكر لنا واغتيالنا.

ولكن باعتقالنا لم تقم السلطة إلا بتعزيز قناعاتنا وبتعرية نفسها أكثر من ذي قبل.