عدد جديد من قال الكاتب يتناول خاتمة كتاب في أصل الأزمة الجزائرية للدكتور عبد الحميد براهيمي.
لقد أعقبت فترة طويلة من الاستقرار والسلام الاجتماعي حكم الجزائر فيها ثلاثة رؤساء دولة خلال 29 عامأ (1962-1991)، فترة من زوال الاستقرار، والاضطرابات والقمع عرفت أربعة رؤساء دولة وستة وزراء أولين ومئات الوزراء، وحوالى مئتي ألف قتيل، وآلاف المفقودين، وستمئة ألف مهجر ومليون من ضحايا العنف في ثمانية أعوام (جانفي كانون الثاني 1992- جانفي كانون الثاني 2000).
وهذه الأرقام توحي بأن تبدلأ حصل انطلاقاً من عام 1992. ففي الواقع بقيت طبيعة النظام هي ذاتها، والفروق المسجلة بين فترة وأخرى فروق في الدرجات لا في الطبيعة، (لأن كل هذه الفترات تتشارك في سلسلة من السمات التي أشرنا إليها في شتى فصول هذا الكتاب.
إن الفرق الرئيسي بين هذه الفرات التي جرى تفحصها عل امتداد هذا الكتاب يكمن في واقع أن غياب الاستقرار الحكومي الملاحظ منذ عام 1992 يتعارض مع الثبات الملحوظ للجنرالات الأربعة أو الخمسة (الأعضاء النافذين في عصبة الفارين من الجيش الفرنسي) الذين يستحوذون على السلطة الفعلية منذ الانقلاب وإلغاء الانتخابات التشريعية، ولا يزالون يشغلون المهام ذاتها حتى اليوم.
إن مبدأ أولويه العسكري عل السياسي، المستمد من حربنا التحريرية، قد أعاد إليه الاعتبار (الفارون)، بالمناسبة. لكن منذ عام 1992، نجد أنفسنا إزاء نظام اًقلي فاقد للحظوة يفرض نفسه بالقوة ضد إرادة الشعب. وقد ترتبت عل ذلك عواقب مأساوية بالنسبة للجزائر عل كل المستويات .
لم تتجر أ النواة الصلبة للنظام العسكري يوماً عل الاستيلاء المباشر على السلطة،
أو عل فرض النموذج السياسي الذي تفضله، إذا كان لديها نموذج كهذا . لقد فضلت هذه المجموعة الصغيرة التي تمسك بالسلطة الفعلية اللجوء إلى وسطاء آخرين معروفين بوطنيتهم لوضعهم عل رأس الدولة . بدأت باختيار محمد بوضاف في جانفي 1992 ، ثم علي كافي بعد ستة أشهر، ثم اليامين زروال في جانفي سنة 1994، قبل ترشيحه للانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، لكن من دون أن ينهي ولايته، حيث حل محله عبد العزيز بوتفليقة عام 1999.
وتظهر الوقائع أن هذه العصبة المؤلفة من عدد صغير من الجنرالات تختبئ دائماً
خلف رئيس دولة أو مشروع رئاسي، معتمدة عل بعض الأحزاب الهامشية التي صنعها النظام ووصفت نفسها بالديمقراطية، لتواصل سياستها الاستئصالية عن طريق تغليب استراتيجيتها الأمنية والقمعية القائمة عل المواجهة وإقصاء التيارات السياسية ذات التمثيل الشعبي. إن سياسة المواجهة هذه ، القائمة عل التفريق، والشقاق، والحقد، والحرب بين الإخوة، فضلا عن تذرير المجتمع وسد المجال السياسي، بهدف البقاء في السلطة وإنقاد النظام، كانت وراء انحرافات كثيرة .
إن جيع الحلول الزائفة التي قدمتها السلطة ما بين عامي 1994- 1999، والتي بدأت بشبه الحوار المنظم في إطار المؤتمر الوطني من طرف رئاسة الجمهورية (1994 ) وانتهت إلى مشروع الوئام الدني (1999)، مروراً بالمفاوضات الزائفة بين الرئاسة وقائدي جبهة الانقاذ الإسلامية، عباسي مدني وعلي بلحاج (1995)، تشكل تعبيرا عن رفض التغيير وتداول السلطة عبر الطريق الديمقراطي، كما يشهد عل ذلك الرفض التلقائي الفظ من طرف النظام للعقد الوطني الذي وقعته ستة أحزاب سياسية والرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان في جانفي (كانون الثاني) 1995، وكان ينطوي عل اقتراحات ملموسه لأجل تسوية شاملة للأزمة.
إن امتلاك الدولة من طرف هذه العصبة التي تدوس بالأقدام الدستور والسيادة الشعبية قد سماهم في تدمير البلد في كل الميادين. ففي الواقع، كانت لسياسة القمع التي دشنها الانقلاب في عام 1992 ولمساعي تدجين المجتمع عواقب سياسية، واقتصادية واجتماعية كارثية.
لقد ساهم انعدام الكفاءة، وسوء التسيير، والفساد، والإفلات من العقاب، واختلالات الاقتصاد، والإدارة والقضاء، في إفقاد النظام حظوته أكثر، وفي مفاقمة أزمة الثقة وتسريع انحطاط المنظومة.
لم يعد يمكن التعرف عل البلد في بداية هذه الألفية. ولقد أعيدت الجزائر إلى الوراء أربعين سنة، ويشكل القضاء عل الطبقة المتوسطة، التي كانت في السابق ضمانة للتماسك والسلام الاجتماعيين، وتوسع الفقر الإقصاء الاجتماعي، قنبلة اجتماعية موقوتة مريعة.
ولقد قاد الجزائر إلى حافة الهاوية في أواخر التسعينيات تفاقم الوضع الاقتصادي، مع هبوط الاستثمارات الإنتاجية ما عدا المحروقات، ومع تباطؤ النشاطات الاقتصادية، والتدني المأساوي في دخل الفرد، وزيادة البطالة، والتضخم الطيار، والإفقار الزاحف، وتعميم الفساد، والتحكم بالواردات من طرف بعض البارونات، وتبديد الثروات والريع النفطي.
إن سياسة الإرهاب والرعب التي دشنها انقلاب عام 1992 مع كل ما تنطوي عليه من تجاوزات، فضلا عن ((ضرورة استتباب سلطة الدولة مجددا)) جرى …
… والمصالحة الوطنية، قد أخفقت بصورة مثيرة للرثاء.
فلا تزوير الوقائع، ولا التشويهات البشعة، ولا التضليل الإعلامي، ولا التلاعبات، ولا المناورات التسويقية، ولا محاورة الذات، ولا رضى أصحاب القرار عن أنفسهم، سوف تخرج الجزائر من الوضع الكارثي الذي تتخبط فيه من عام 1992.
إن المسائل المتعلقة بإضفاء الشرعية على الدولة، وبعقلنتها وتحديدها، وبالمصالحة الوطنية واستعادة الثقة بين الحكام والمحكومين تبقى مطروحة باستمرار، وتتطلب في الحال أجوبة واضحة تتخذ أشكال إصلاحات، وبرامج عمل وتدابير ملموسه لإخراج الجزائر من هذه المأساة الرهيبة ووضعها عل سكة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وإذا لم يحصل ذلك، قد يفضي التدهور المستمر في الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وتفاقم الاستياء الجماهيري، إلى الانفجار الشعبي الذي لا يمكن معرفة عواقبه. لقد فقدت الجزائر في السنوات الثماني الأخيرة الكثير من الضحايا، والكثير من الوقت، والكثير من المال، وهي أمام الجدار المسدود.
آن الأوان كي يتغلب العقل والحكمة عل العنف والضغينة والشقاق. وفقط طريق الحوار والمصالحة الوطنية والعودة إلى السيادة الشعبية في الشفافية يمكن أن تخرج ألجزائر من المأساة الكارثية الحالية. فإذا انخرطت الجزائر في طريق السلام والديمقراطية، يمكنها عندئذ، وعندئذ فقط، أن تبنى من جديد في السلام والهدوء، والأخوة والتضامن والعدالة الاجتماعية.
هذه هي الطريق التي ستضمن الاستقرار في الجزائر، وفي المغرب الكبير، حوض البحر الأبيض المتوسط.
من جهة أخرى، لا ينبغي أن تشكل عولمة الاقتصاد ذريعة للجماعات الخفية وبارونات الاستيراد المرتبطة بالنظام كي تفرض على الجزائر الليبيرالية المتوحشة، ضاربة عرض الحائط بمصالح البلد والشرائح الشعبية.
آن الأوان لإعادة التفكير بالكامل بسياسة الجزائر المعتمدة إلى الآن حيال بناء المغرب الكبير. لأن التكامل المغربي هو وحده الذي يمكن أن يتيح للجزائر وشركائها المغاربة مواجهه تحديات العولمة، ووضعها جميعاً عل طريق النمو الاقتصادي المستديم والتنمية.
إن بناء المغرب الكبير، القائم عل مقاربة بنيوية، ينبغي أن يتنظم حول أهداف مشتركة عل صعيد الاستثمارات والإنتاج والمبادلات لأجل زيادة الدفوقات الفعلية والمالية بين بلدان المغرب الكبير. إن إقامة مجال اقتصادي مغاربي ستتبع أيضاً تطبيق سياسة إقليمية مشتركة لتنمية الموارد البشرية بهف تعزيز التضامن الفاعل بين البلدان الأعضاء وجعل سيرورة التكامل المغاربي نهائية الا يمكن أن تؤثر فيها الاحتمالات السياسية.
إن التحديات والرهانات في هذا العصر هي من الضخامة بحيث لا يمكن أن تكون كافية الأعمال التي تقتصر على المجال الوطني وحده في عالم كعالمنا مضطرب ومحمل بضغوط خارجية كبيرة، وفي الواقع، إن عالمنا المعاصر يتميز بتشكيل تجمعات إقليمية وبوجود فضاءات اقتصادية واسعة أو خلقها.
وفي هذا السياق يصبح بناء المغرب الكبير ضرورة لابد منها. فضلا عن ذلك لكي يكون التكامل المغاربي دائما ومتيناً، يجب أن يتلازم مع دمقرطة الحياة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية في بلدان المغرب الكبير، وهكذا في مسيرة هذا الأخير نحو الوحدة والتقدم، يمكن أن يلعب، بوصفه ملتقى الحضارات، دورا إيجابيا في إقامة جسور حقيقية بين شمال المتوسط وجنوبه، وأن يشكل عامل استقرار مهما في الوطن العربي وحوض البحر المتوسط وإفريقيا.