عذراء الجهاد

د. أكرم حجازي

ها قد مضى قرابة العام على انطلاقة الثورة السورية لا سقط فيها طاغية ولا نظام، ولا تدخل العرب ولا العجم .. عام سقطت فيه كل المراهنات، وانطلقت فيه آلة القتل لتسفك حتى دماء الحيوانات، واستكبرت فيه قوى الظلم والبغي والعدوان، بدء من النظام، مرورا بحلفائه الإقليميين، خاصة إيران والعراق وحزب الله في لبنان، ومن ورائهم موسكو وبكين، وانتهاء بنفاق دول الناتو. مضى عام .. انكشفت فيه عقائد طائفية صممت لتكون مدخلاتها العقدية ومخرجاتها السلوكية أحط من الانحطاط .. وأفجر من الفجور .. لا ينفع معها تفاهمات ولا مصالحات، صارت ضربا من المستحيل .. نظم انفجرت قرائحها على شهوة الدم، وإشاعة القهر والخوف والترويع والترهيب والظلم والمهانة والإذلال والقمع والاضطهاد والتعذيب والاغتصاب والابتزاز والفساد والإفساد والاستهتار بكل حرمة أو مقدس .. فما خلفت وراءها إلا قروحا غائرة العمق .. قروح لا يمكن أن تندمل ما بقي هذا النظام، ومن ورائه طائفته، على مرأى العين.

ما لا يحتاج إلى مواربات خادعة هو الإقرار علانية بحقيقة أن الصراع مع هذا النظام هو صراع طائفي صريح .. صراع مع طائفة صنعتها القوى الدولية، منذ عهد الانتداب البريطاني ورعتها إلى يومنا هذا، وتخوض بها حربها على الإسلام والمسلمين .. صراع رسخ رفعت الأسد دعائمه وبنيانه بأبشع الوسائل والأدوات والأساليب المتوحشة، واستعبد فيه شعب على مرآى من العالم، الذي صمت صمت القبور، وهو يشاهد المذبحة تلو المذبحة، دون أن يرتد له طرف أو ينبس ببنت شفة. أما لماذا؟ فلأن الصراع صراعه، والحرب حربه، ولأنه لا يمكن لغير هذا النظام؛ وبغير هذه الطائفة، أن يأمن الغرب على مصالحه، أو يضمن لـ « إسرائيل» رغد الحياة. ويكفي من الأدلة القاطعة النظر في سياسات هذا النظام على امتداد العقود، وما خلفته من دمار أصاب الأمة والدين، حتى صار يهدد المصير، أو أن نتخيل نظاما في سوريا غير هذا النظام أو غير هذه الطائفة.

هذا النظام الأخبث في الأمة، بغنى عن كل الجيش السوري!! إذ أن بنيته الطائفية توفر له مئات الآلاف من المقاتلين، من بني شيعته، المحليين والإقليميين. وما قاله رامي مخلوف لصحيفة « النيويورك تايمز – 9/5/2011»، لم يكن بدعا من القول: « لدينا الكثير من المقاتلين .. وسنجلس هنا ونعتبرها معركة حتى النهاية». فما فاه به مخلوف ليس سوى ترجمة للعمق الطائفي للنظام، ولمعاهدة الدفاع المشترك مع إيران .. وهو ما شهد به، لاحقا، مدير المدرسة العسكرية الجوية بحلب، العميد المنشق فايز عمرو، حين أكد أن: « معظم المستشارين في كل الدوائر الأمنية في سوريا إيرانيون» .. أما ميادين الثورة فتشهد على اعتقالات الخبراء الإيرانيين وبعض فراعنة حزب الله. مثلما تشهد رحى المواجهات، في الزبداني وغيرها، أن قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، استوطن في سوريا، رفقة الآلاف من قتلته، أما دعوات أصحاب العمائم بالدعوة إلى « الجهاد» وحشد المزيد من « المجاهدين» فلم تنقطع، ابتداء من خامنئي وانتهاء بأحمد جنتي، عضو مجلس الخبراء، الذي قال في خطبة الجمعة بطهران (25/2/2012): « على الشيعة العرب الدخول إلى سوريا والجهاد إلى جوار النظام السوري حتى لا تقع سوريا بأيدي أعداء آل البيت».

ثمة مئات التصريحات من هذا النوع في كافة وسائل الإعلام العربية والدولية، المقروءة والمسموعة والمرئية. والأمر ليس خافيا ولا جديدا. أما وقد بلغ القتل في الرجال والنساء والأطفال مداه، وانكشفت بنية النظام ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وأفصح عن سلوكه ونواياه وطموحاته، وتمتع بحماية إقليمية ودولية، فلم يعد ثمة مفر من خوض المواجهة حتى النهاية، ولو بالشروط التي اختارها النظام ..

الجميع يخوضون حروبهم بما يلائمهم دون أن يعترض عليهم أحد .. الصفويون لهم مشروعهم .. والصليبيون لهم مشروعهم .. واليهود لهم مشروعهم .. وكلها مشاريع عقدية صرفة .. بأصولها وفصولها، ومفرداتها واستراتيجياتها، وتحالفاتها وسياساتها، وخططها وأهدافها، وإعلامها ووقائعها .. إلا المسلمين !!! فمحرم عليهم مشروعهم، بل يتجاهلون أو يتنصلون من أية دعوة عقدية، أو يحاربونها!! « حرام» عليهم الاستعانة بالله!!! فهو الإرهاب .. كل الإرهاب .. أما الاستعانة بشياطين الأرض فهو « أحل الحلال» .. فبعد كل هذا الدم والقهر، ما زلنا نسمع ونقرأ ونشاهد يوميا، وفي كل حين، من يؤكد على « سلمية الثورة»، ونبذ « التطرف» و « العنف». والعجيب أن تصريحات الواجهات السياسية والعسكرية للمعارضة السورية بدت أحرص على تجنب « العسكرة» من تصريحات الغرب نفسه، وبعضهم لا يتوانى عن مهاجمة الإسلام، والتنكر لكل شعار إسلامي، رغم أن اللافتات الإسلامية في الثورة السورية، والتي يتم تجاهلها عمدا في وسائل الإعلام، أغلقت عرض الشوارع وطولها في احتجاجات الثورة. ومع أن النظام الطائفي تجرأ على كل المحرمات والفطر الإنسانية إلا أن بعض أصوات المعارضة سُمعت بأوقح ما يكون، وهي تتجرأ على دين الله، وتبدي حماسا عجيبا في تطمين « إسرائيل»، والحرص على سلامتها أكثر من حرصها على الدماء المسفوحة. فما الذي جعل الثورة السورية فريسة لكل نطيحة ومتردية ومنخنقة وما أكل السبع؟

من « التجهيل» إلى « الفطرة»

ظهرت سوريا، عبر هذا النظام، دولة تلوذ بحمايتها حركات التحرر العربية، لاسيما الفلسطينية منها واللبنانية. وتبعا لذلك؛ استقبلت كافة الفلسفات الوضعية والأيديولوجيات، على اختلاف منابتها ومشاربها. وما بدا لعقود طويلة أرض « الأحرار» أو « الثورة» أو « الثوار»، بعيون القوى اليسارية والقومية والوطنية والإسلامية واللبرالية والعلمانية وغيرها، كان بالنسبة للمجتمع السوري وقواه السياسية أرض « الجحيم» و « القهر» و « القمع» و « الاضطهاد».

وبخلاف ما وقر في عقل ووجدان الغالبية الساحقة من الشعوب العربية، عن توفر مستوى متميز من الوعي ، تمتع به الشعب السوري تجاه قضايا الأمة، بفعل الحضور الكثيف لحركات التحرر العربية، إلا أن التفاعل بين المشهدين كان واقعا، منذ لحظاته الأولى، على طرفي نقيض. ذلك أن العلاقة السياسية بين النظام وهذه الحركات لم تكن، على الجاني الآخر من الصورة، أكثر من علاقة طائفية بين النظام والمجتمع، وبغطاء دستوري، صاغته المادة الثامنة، التي قدمت حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع.

وبطبيعة الحال لا يمكن لعلاقة طائفية، تسعى إلى الهيمنة والنفوذ، أن تستوطن الدولة والمجتمع إلا إذا حظيت (1) بمشروعية عقدية أو أيديولوجية من الطائفة ذاتها، و (2) مشروعية إقليمية ودولية، توفر الاستقرار من جهة والحماية من جهة أخرى، و (3) امتلكت أسباب القوة وأدواتها ( مال، عصبية، أيديولوجيا، موارد بشرية وجغرافية، ظروف مواتية، وظيفة تضطلع بها، وهدف تسعى لتحقيقه … ) و (4) سلطة جبرية تمارس إقصاء وقهرا منظما ..

وفيما كانت أرض « الثوار» توفر « الملاذات الآمنة» لحركات التحرر كان المجتمع يتعرض لاختراقات بنيوية، وتدميرية، طالت الثقافة الاجتماعية والجغرافيا السكانية والبنى العلمية والتعليمية والمعرفية والاقتصاد والتجارة … أما البنى السياسية فقد تعرضت للاستئصال برمتها، حتى أنه لم يبق معارض واحد في سوريا إلا كان نصيبه التعذيب في السجون أو القتل .. وهذا ينسحب على البنى المدينية والتشكيلات الاجتماعية والإثنية التي يعج بها المجتمع السوري .. أما مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها الجيش، فقد تم وضعها تحت السيطرة الأمنية التامة. وما ليس عجيبا أو غريبا، بقدر ما هو مجهول للعامة والغالبية الساحقة من الخاصة، أن العلاقة البينية، في صلب البنى الأمنية والسياسية والعسكرية للدولة، وفيما بينها، تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن مثيلاتها في إيران. فكل مؤسسة أشبه ما تكون بدولة داخل الدولة، وكل واحدة منها لها نظامها الأمني والتجسسي الذي يجعل من كل حركة وسكنة داخل المؤسسة تحت الرقابة.

العجيب في هذا النوع من التنظيم الأمني الطائفي، أنه اخترق النسيج الداخلي في بعض المجتمعات العربية، وفي غفلة منها، كما هو الحال في البحرين والكويت وأخيرا العراق، وهو الاختراق ذاته الذي تم إسقاطه بالكامل على المجتمع السوري، بكل فئاته العمرية وتشكيلاته الثقافية والاجتماعية، متسببا بمحاصرة شاملة للوعي، وإشاعة مبرمجة لـ « التجهيل»، على أوسع نطاق. وقد لا يَعْجَب المراقب من كون السوريين أحد أكثر شعوب الأرض، معرفة بالخوف وصنوفه وألوانه، لكنه يكاد يصاب بالذهول حين يكتشف أن حالهم لا يختلف كثيرا عما تعرض له الشعب الليبي، من تجهيل عميق، على يد الطاغية الراحل معمر القذافي. إذ أن العلاقة الطائفية المفروضة بكل أدوات القهر، صادرت، في الواقع، الحق في التفكير والتعبير والرأي، وتعطلت تبعا لذلك أدوات البحث والتنقيب، ومعها مناهج الفهم والإدراك والمعرفة.

لكن أعجب ما في هذا « التجهيل» المبرمج؛ أن السوريين يدركونه كل الإدراك، فالضابط له من الثقافة السياسية والفكرية والشرعية ومذاهب المعرفة والتفكير، ما لدى المسؤول الحزبي أو المدني أو الجندي أو العامي من الناس. ولا تفاضل بين أحد منهم على آخر. فالخوف والقهر والرقابة والإذلال والظلم الفادح دفع الجميع إلى هجرة العقل والمعرفة، وتجنب الاقتراب منهما، والتمسك بأقصى درجات الحيطة والحذر، اتقاء لشرّ نظام يقتل ويسجن ويعذب ويعاقب بالشبهة والخطأ وحتى في زلة اللسان. ولأنهم يعون جيدا ما فعله النظام بهم طيلة العقود الماضية؛ فقد صارت مخرجات هذه السياسة تصب في صالح الثورة السورية، وتعيد الشخصية السورية إلى فطرتها، لاسيما وأن الأيديولوجيات الوافدة لم تنصف السوريين في يوم ما بقدر ما زودت النظام بما يحتاجه من شرعية.

هكذا، ومع انطلاقة الثورة، شهد المجتمع السوري عودة إلى الأصول، في منطق مواجهة النظام. فإذا ما سُئل أحد السوريين عن هوية القوى السياسية العاملة، أو عقائد الجماعات المقاتلة في الثورة، فلن يحصل السائل على أكثر من إجابة واحدة: « الفطرة» !!! إجابة تعني القطع التام مع حفبة النظام، والاحتماء بـ « الفطرة»، مثلما تعني أيضا أن المجتمع السوري خالي من الأيديولوجيات والفلسفات الوضعية، إلى الحد الذي لم تجد فيه أية قوة ثورية ما تسترشد به، في مواجهة النظام، سوى العودة إلى فطرتها.

ولا ريب أن لـ « الفطرة» إيجابياتها وسلبياتها. ففي حين أصلحت الثورة من فسد ثمة من استغل بيئة العنف ليعيث في الأرض فسادا. وهذا ينطبق على كافة التشكيلات الاجتماعية، من الفرد إلى القبيلة، ومن الشريحة إلى الطبقة .. وفي المحصلة مكنت « الفطرة» كل شريحة أو تشكيل اجتماعي من البحث عن ذاته، وأفسحت الطريق أمام الجميع للتخلص من الظلم مثلما أفسحت المجال لدعوات الحماية الدولية أو التدخل الدولي، دون أية حسابات عقدية أو موضوعية، أن تشق طريقها إلى الثورة .. وحتى وإنْ لقيت مثل هذه الدعوات تأييدا لها فلأن الناس تحدثت بموجب « الفطرة»، وبما تراءى لها، وليس بما تعلم.

وذات التفكير؛ نجده في عقل العاملين في المؤسسات الحكومية والإدارية والسياسية والحزبية والعسكرية وحتى الاقتصادية للدولة، والتي يمكن القول أنها أقرب ما تكون إلى الانهيار من أي وقت مضى. ولا يمنعها من ذلك إلا شراسة الأجهزة الأمنية والرقابة اللصيقة، فضلا عن عوامل قصور قهرية تحول دون ما يمكن تسميته بالعصيان الرسمي. فالمعلومات المتوفرة، من عمق حصون الدولة، تؤكد لجوء النظام إلى فرض العمل الإجباري، الذي طال موظفين كبار في الدولة، من بينهم قيادات عسكرية وسياسية وحزبية ومحافظين ونواب ومثقفين وإداريين. كثير من هؤلاء منعهم النظام من العودة إلى منازلهم، أو التمتع بإجازات أسبوعية. أما أوضح المشاهد في هذا السياق فهي الانشقاقات التي ضربت الجيش. ورغم أنها لا تتعدى حتى اللحظة ما نسبته 7 – 10%، إلا أن هذه النسبة تخص أولئك الذين استطاعوا الإفلات، بوسائل شتى، من قبضة السلطة. أما أولئك الذين يطالبون بالانشقاق يوميا، في كافة مؤسسات الدولة، فأعدادهم مهولة. بل إن أغلب التوصيات الموجهة للقطاع المدني منهم تحثهم على البقاء في مواقع عملهم، لعدم القدرة على استيعابهم في الوقت الحالي. وفيما يتعلق بالعسكريين فإن التعليمات الموجهة لهم تقضي ببقائهم في وحداتهم أو العودة إلى بيوتهم، والعمل على تأمين أنفسهم وعائلاتهم خلال 14 يوما، أي قبل أن تصدر بحقهم مذكرات فرار من الخدمة.

هذه النقمة العارمة، التي تجتاح المجتمع السوري، ليست سوى مخرجات لمدخلات طائفية بغيضة، قام عليها النظام، وزرعها بأوحش صورها في شتى مناحي الحياة. فصار الجميع يترقب فرصة الخلاص بـ « أي ثمن». ولئن كانت المعارضة قد وقعت في فخ التدويل السياسي للثورة فلأن النظام نفسه مارس تدويلا طائفيا صريحا منذ أمد بعيد، وصل إلى حد نقل أسرى حمص وحماة وإدلب جوا إلى إيران كرهائن بيد طوائف القتل. هذا فضلا عن التدويل السياسي الذي تتولاه روسيا والصين. أما لماذا تبتعد قوى المعارضة السياسية عن التصريح بـ « المسألة الطائفية» فلأنها، ببساطة، تدفع ثمن استحقاقات الخيارات السياسية والأيديولوجية التي تؤمن بها، والتي تركز على مصطلحات من نوع « حماية الأقليات» أو « التعددية» أو « الوحدة الوطنية» و « المدنية» أو « الديمقراطية»، كضمانات سياسية واجتماعية، رغم أن الغالبية العظمى من الشعب السوري هي من تدفع ثمن التحرير، وهي من يستغيث ليل نهار « ما لنا غيرك يا الله».

الجيش الحر وتسليح الثورة

بعد حرب تشرين / أكتوبر 1973؛ وبالأحرى بعد مذبحة حماة (17/2/1982) شرع النظام بعملية تفكيك لكافة البنى السياسية والأمنية والعسكرية للدولة، وأعاد تركيبها على أسس طائفية صرفة. فالنظام استشعر الخطر، إلى الحد الذي لجأ فيه إلى اعتماد سياسة الإحلال الطائفي و (أو) الرقابة الطائفية على الدولة والمجتمع، مستفيدا من الغطاء الدستوري، الذي صممه على مقاسه، بما يجعل من حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع. هكذا استأثرت الطائفة بأجهزة الأمن، التي قُطِع التواصل فيما بينها مثلما قُطِع بين فرق الجيش وألويته وكتائبه، للحيلولة دون التفكير بإمكانية القيام بأي تمرد مسلح أو انقلاب مستقبلا.

أما المخابرات الجوية فقد استأثرت بنصيب الأسد من الصلاحيات في تأمين النظام وحمايته. وقد يكون عجيبا أن تتحرك الطائرات والدبابات والوحدات العسكرية بأوامر من المخابرات الجوية وليس بأوامر من وزارة الدفاع!!! وهذا يعني أن النظام لا يتحسب من أي خطر خارجي بقدر ما يتحسب من الأخطار الداخلية.

لذا فالذين يعولون على انحياز الجيش إلى الثورة هم، في الواقع، كمن يحرث الماء في البحر. فالجيش قابل للتفكك لكنه غير قابل أبدا للانقلاب أو التمرد أو التسرب بأعداد كبيرة إلا في حالة تدخل عسكري أو توفر ملاذات آمنة في أنحاء سوريا، وليس في جهة واحدة، أو ظروف طارئة يمكن أن تقلب الموازين. لهذا أمكن ملاحظة انشقاقات متوالية لوحدات صغيرة، كان أولها وحدة المقدم حسين هرموش الذي شكل « لواء الضباط الأحرار – /6/2011»، قبل أن يقع ضحية لعبة استخبارية متعددة الأطراف داخل تركيا. ولم يمض وقت طويل حتى انشق العقيد رياض الأسعد ليعلن عن تشكيل « الجيش السوري الحر – 29/7/2011».

لكن « الجيش الحر » ليس تنظيما لمجموع القوى المنشقة عن الجيش الحكومي بقدر ما هو عنوان (1) إعلامي بالدرجة الأساس و (2) سياسي بدرجة ما و (3) واجهة دولية عند الضرورة. فالمجموعات المنشقة لا يربطها في « الجيش الحر » أي رباط تنظيمي من أي نوع. لكنها ترتبط معه، كما بقية الجماعات المقاتلة، من غير العسكريين، بغطاء إعلامي يمكنها من ممارسة نشاطها العسكري ضد النظام باسم « الجيش الحر »، أو بطلب الدعم المالي والعسكري باسمه، أو بتغطية انضمام المجموعات المنشقة عن الجيش إليه.

ولا ريب أن هذه الوضعية لـ « الجيش الحر » مكنت القوى السياسية المعارضة، كالإخوان المسلمين، والمجلس الوطني، وبعض الشخصيات والمشايخ، وكذا القوى الدولية، بغطاء إعلامي من النفاذ إليه وتوجيهه الوجهة التي يرغبون فيها. وهو بهذا التوصيف، وعبر الضخ المالي المحسوب، يغدو أداة يمكن بواسطتها التحكم بحجم العسكرة، وارتفاع أو انخفاض وتيرة العمل العسكري، ونوعيته وأهدافه. ولعل المراقبين لاحظوا، في أكثر من مرة، كيف تبنى الجيش بعض العمليات ثم تراجع عنها في وقت لاحق، وكيف أنه رفض تبني عمليات أخرى نفذتها جماعات مقاتلة ضد النظام ومؤسساته، وكيف اضطر للامتثال إلى توجيهات المجلس الوطني بعد أن رفضت فرنسا وروسيا تبنيه لعملية حرستا في ريف دمشق، وكذا عمليات حلب في الشمال. ولو تتبعنا تصريحات الأسعد لوجدنا أنه في لحظة ما يرفض التدخل الدولي وفي لحظة أخرى يؤكد أن لا حل مع النظام بدونه، وتارة يعلن عزمه مهاجمة النظام وبعد قليل يختصر مهمته بحماية المدنيين فقط!!! .. هذا التذبذب واقع، لأنه أمكن، بسهولة، احتواء « قائد الجيش الحر »، وإخضاعه لوصاية المجلس الوطني باسم التنسيق المشترك. ولا ريب أن أسبابا كثيرة يجري تداولها ليس أولها التجهيل الذي تسبب بانعدام التجربة والخبرة ولا آخرها ما لاحظه البعض من الضعف الشديد في شخصية الأسعد نفسه بخلاف ما بدت عليه شخصية العميد مصطفى الشيخ.

المهم؛ أن احتواء « الجيش الحر » شكل اختراقا مبكرا في وتيرة العمل العسكري ونوعيته، وقد يشكل خطرا على مسار الثورة السورية وفاعليتها في مواجهة سلسلة من منظومات الاستبداد المحلي والإقليمي والدولي. والحقيقة أن « المركز»، قبل كل شيء، ليس معنيا، حتى هذه اللحظة، بالتدخل العسكري، أو بتسليح الثورة السورية أو السماح بمهاجمة النظام. وإعلاميا يمكن أن نسجل عشرات التصريحات الغربية وهي تتحدث عن تسليح الثورة؛ لكن التدقيق فيها يؤكد أنها مشروطة حينا أو مناقضة لنفسها في حين آخر، أو ذات أهداف سياسية في حين ثالث، أو مجرد خيار مفتوح ليس له حدود. لكن من المؤكد أن القوى الدولية بحاجة إلى عنوان عسكري بنفس القدر الذي تحتاج فيه إلى عنوان سياسي كالمجلس الوطني. وستكون مضطرة لإيجاده لو لم يكن موجودا. وهذا ما تولت القيام به فرنسا بالذات، وغطته بكل المكر والدهاء قوى الإعلام العربي والدولي. مع أن واقع الجيش، على مستوى القيادة الخارجية، مغاير إلى حد كبير لواقع المجموعات المنشقة والمقاتلة على الأرض. بل وفي بعض الأحايين تصل العلاقة ما بين الجانبين إلى حد النقمة والسخط وانعدام الثقة، بسبب ما بدا حينا لبعض المجموعات تقتيرا في الدعم وفي حين آخر تجاهلا مقصودا. وهذه مؤشرات تدل على أن احتواء الجيش قد لا تؤثر فعليا على الفعاليات المسلحة للثورة بقدر ما تصيب الأوصياء على الجيش بضرر المصداقية. أما لماذا يحتاج « المركز» إلى عنوان عسكري؟

فلأنه: (1) يحرص على الاحتفاظ بالإرث الأمني للنظام في حالة سقوطه أو الاضطرار إلى إسقاطه. فالنظام جرد المجتمع السوري من أية وسيلة للدفاع عن النفس، وأغرقه في الجهل، وجعله تحت رحمة آلة القتل الفتاكة، من كل حدب وصوب. وبالتأكيد فإن مثل هذه الحالة تمثل نموذجا مثاليا لـ « إسرائيل»، فضلا عن أن المنطقة لم تعد تتسع، بنظر « المركز»، للمزيد من السلاح؛ فكيف سيكون الأمر لو تسلح الشعب السوري؟ وكيف سيكون الاستقرار المنشود متاحا؟

ولأنه: (2) يحتاج إلى إطار يحظى بشرعية ثورية محلية تمكنه من انتزاع الشرعية لأي تدخل عسكري غربي مع الإبقاء عليه مجردا من السلاح، وفي نفس الوقت استخدامه، إذا دعت الضرورة، في لضرب مشروعية أي جماعة مناهضة للغرب بحجة خروجها عن الشرعية.

ولأنه: (3) معني بحل سلمي يتطلب منه السيطرة، بشكل مباشر وفعال، على مسار العسكرة. وهذا يستدعي وجود أدوات مراقبة ميدانية، لضبط حجم الانشقاقات والتسرب من الجيش النظامي، والتحكم بحجم التسلح ومساراته، وتحديد نوعية العمل المسموح به من المحظور، وكذا معرفة سير العمليات والمواقع المستهدفة.

إذ أن ما يخيف « المركز»، من تسليح الثورة أو خروج عملية التسلح عن التحكم والسيطرة، هو دخول التيارات الجهادية على خط الثورة السورية. وما يلفت الانتباه هو الحصار المضروب على قوى الثورة فيما يتعلق بالتسلح، أو بمحتوى أدق بالذخيرة. فالدول الإقليمية أحكمت إغلاق حدودها منذ اللحظة التي تم فيها نقل الثورة السورية إلى مجلس الأمن. ومنذ ذلك الحين؛ صار البحث عن الذخيرة كالبحث عن إبرة في كومة قش. وهو ما يعني فرض حصار شامل على الثورة، لم تعد معه حتى سياسة غض الطرف قائمة.

وإذا تأملنا في الهجوم الوحشي للنظام على معقل الثورة في حمص، والذي تزامن مع الفيتو المزدوج في مجلس الأمن، فليس من المستبعد أن يكون الهدف الخفي من الهجوم، الذي طال إدلب وحماة، يكمن حقيقة في استنزاف المقاتلين من ذخيرتهم، عبر قطع الطرق بين المدن، وشن هجمات ذات كثافة نارية غير معتادة، بحيث يضطر الثوار إلى استنفار طاقاتهم، واستخدام أقصى ما لديهم من الذخيرة لرد الهجمات. وهو ما يعني، بشكل أو بآخر، وجود توافق ما، وتقاطع مصالح بين جميع القوى المعنية، على إبقاء المجتمع السوري فاقدا لأيٍّ من أدوات القوة، وهو ما يستدعي العمل على تجريد الثورة السورية من سلاحها، إما بالحصار وإما عبر الهجمات الواسعة.!!! بخلاف ما تفيض به التصريحات الغربية والعربية عن تسليح محتمل للثورة، وهو ما تم تجاهله، فعلا، في مؤتمر « أصدقاء سوريا» في تونس.

خلاصة القول

في سوريا ثمة نظام طائفي صريح، يعلن استعداده للقتال حتى النهاية، وثمة مجموعات مسلحة من الجيش وأخرى من المدنيين اضطروا لمواجهة النظام دفاعا عن أنفسهم وأهلهم. وفي المقابل ثمة محاولات مستميتة تقودها قوى المعارضة السياسية، المقيدة بأطروحاتها أو بحدود السقف الدولي، لمنع تسليح الثورة، وثمة مجتمع فطري التفكير، يفتقد إلى الخبرة والتجربة، لذا فهو مهيأ لتوفير حاضنة شعبية وشرعية لأية قوة يمكن أن تنجح في إحداث فارق قوة مع النظام .. فالأرض السورية عذراء كما المجتمع تماما وبقليل أو بكثير من الوقت لا بد وأن تتضح مسارات الثورة السورية.

http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-338.htm