د. أكرم حجازي
لا ريب أن المواجهة الدامية التي تدور رحاها في سوريا بين النظام السياسي والناس لم يسبق لها مثيل إلا تلك المجازر المروعة التي ارتكبها النظام في حماة في 17/2/1982. ولأن أحدا لا يدري على وجه الدقة مضمون الجرائم التي وقعت آنذاك فإن المقاربات المتاحة لتوصيف جرائم النظام السوري تقع في سياق التاريخ البعيد، في ضوء حملات التتار على العالم الإسلامي، أو في ضوء الدولة العبيدية، أو في ضوء التاريخ القريب لمجازر الخمير الحمر في كمبوديا أو مذابح قبيلتي الهوتو والتوتسي في رواندا والمسلمين في البوسنة والهرسك، أو في ضوء وقائع وتوثيقات الثورة السورية نفسها.
في التاريخين، البعيد والقريب، كانت الفتاوى الصادرة في توصيف الأحداث ذات محتوى شرعي صريح. ولو استعنا بنموذجي البوسنة وأفغانستان لتبين لنا جليا كيف نشط العلماء ومعهم الدول في تهيئة أجواء المواجهة وتوفير أسباب الدعم والنصرة على أساس « كفر» الحملات الوحشية ضد المسلمين والقائمين عليها. ولتبين لنا أيضا كيف قُطعت العلاقات، وعُبئت الشعوب، ونشط العلماء والخطباء من على المنابر، واحتشدت وسائل الإعلام، وأنفق المنفقون دون خشية من مطاردة أو مساءلة، وتطوع الشبان للجهاد من كل حدب وصوب … لرد عادية القوى « الكافرة».
في الحالة السورية تبدو الأمور حتى اللحظة ملتبسة. فلم تحصل الثورة السورية على نصرة شرعية مؤثرة، كما كان الحال في البوسنة والهرسك وأفغانستان وحتى في العراق في المراحل الأولى. والحقيقة أن الفتاوى التي صدرت من علماء ومشايخ معروفين كثيرة. لكنها فتاوى لم تُحدث فارقا في النصرة والدعم حتى هذه اللحظة!!!! وعليه فإن السؤال الذي يطرح نفسه بلا مواربة: ما هي مرجعية الفتاوى الصادرة ؟ وما هو توصيفها الدقيق للرئيس السوري وحزب البعث والنظام الحاكم؟
أولا: فتاوى السلف
بخلاف العلماء والباحثين والمتخصصين في الفِرَقْ فليس من العجب أن يستنكر قارئ ما « تكفير النصيرية» برمتها لاسيما إذا كان له بعض الأصدقاء من الطائفة، ممن يصلون كما يصلي أو يصومون ويزكون مثلما يفعل هو تماما، وهذا ينطبق حتى على « النصيري» الذي يتميز غضبا كلما وقع على فتوى لعالم تقضي بـ « تكفيره» وطائفته. والشائع أن الجهل يكاد يطبق على العامة من الناس بمن فيهم أصحاب العقائد الباطنية الذين يجهلون حقيقة عقائدهم ولا يتسلمونها إلا في سن متأخرة، كما هو حال الطائفة « الدرزية» مثلا.
ورد في باب « حكم الإسلام في النصيرية»، في « الدرر السنية»، أن شيخ الإسلام ابن يتمية ( 667 – 721 هـ) ربما كان من أوائل الذين عرفوا حقيقة الطائفة وغيرها من الطوائف الباطنية التي فضحها وحاربها. ولعل قيمة « فتاوى» ابن تيمية في الفِرَقْ ، ومنها « النصيرية»، أنه أبرز من تصدى لهذه الفِرَقْ الباطنية، وأفضل من فضح عقائدها بلا هوادة، وبحسب ما أجمع عليه السلف من علماء الأمة. وهذا يعني أن ابن تيمية لم ينفرد في بيان عقائد الطائفة دون غيره، فقد سبقه، مثلا، عبد القاهر البغدادي (000 ـ 429هـ( في كتابه الشهير « الفرق بين الفِرَقْ» ، وأبو الفتح الشهرستاني ( 479 – 548 هـ ) في « الملل والنحل»، وبعدهم جميعا ابن كثير ( 700 – 774 هـ ) في « البداية والنهاية»، وغيره. وفيما يلي مقتطفات من فتوى ابن تيمية في الطائفة ردا على سائل يسأل:
« هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى ، بل وأكفر من كثير من المشركين ، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار الترك والإفرنج وغيرهم ، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت ، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا بملة من الملل ولا بدين من الأديان السالفة ، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها ، يدعون أنها من علم الباطن – من جنس ما ذكره السائل – وهو من غير هذا الجنس ، فإنهم ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلام الله ورسوله عن مواضعه ، إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل ومن جنس قولهم : أن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم ، والصيام المفروض كتمان أسرارهم ، وحج البيت العتيق زيارة شيوخهم. وأن يدا أبي لهب هما أبي بكر وعمر، وأن النبأ العظيم والإمام المبين هو علي بن أبي طالب .
ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة ، وإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين ، كما قتلوا الحجاج والقوهم في زمزم ، وأخذوا مرة الحجر الأسود فبقي معهم مدة ، وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم وأمرائهم وأجنادهم من لا يحصي عدده إلا الله ، وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره .
وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وبينوا ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد الذين هم فيه أكفر من اليهود والنصارى ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام ، وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء من وصفهم ،
ولهم ألقاب معروفة عند المسلمين تارة يسمون الملاحدة، وتارة يسمون القرامطة، وتارة يسمون الباطنية، وتارة يسمون الإسماعيلية، وتارة يسمون النصيرية، وتارة يسمون الخربوية، وتارة يسمون المحمرة ، وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم ، كما أن اسم الإسلام والإيمان يعم المسلمين ، ولبعضهم أسماء تخصه إما النسب وإما لمذاهب وإما لبلد وإما لغير ذلك وشرح مقاصدهم يطول …
وهم كما قال العلماء فهم ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض ، وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين ، لا بنوح ولا بإبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا بشيء من كتب الله المنزلة ، لا بالتوراة ولا الإنجيل ولا القرآن ، ولا يقرون أن للعالم خالقا خلقه ، ولا بأن له دينا أمر به ، ولا أن له دارا يجزي الناس فيها على أعمالهم غير هذه الدار …
ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضا ، وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان ، فقد يخفون على من لا يعرفهم ، وإما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلا عن خاصتهم …
وقد اتفق علماء المسلمين على أن مثل هؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم ولا يتزوج منهم امرأة ، ولا تباح ذبائحهم، من جرة نصرانية، فما شك في نجاسته لم يحكم بنجاسته بالشك .. ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ، ولا يصلى على من مات منهم، …
وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين وحصونهم أو جندهم فانه من الكبائر وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم ، فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم ، وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة ، .. ويحل لولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة ، فلا يتركون في ثغر ولا في غير ثغر ، وضررهم في الثغر أشد … ( الفتاوى الكبرى 4/181-183) ».
وفي ” الفتاوى الكبرى (3/513) سُئِلَ « ابن تيمية عَنْ الدُّرْزِيَّةِ و النُّصَيْرِيَّةِ: مَا حُكْمُهُمْ؟» فأَجَابَ:
« هَؤُلَاءِ الدُّرْزِيَّةُ وَالنُّصَيْرِيَّةُ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ، وَلَا نِكَاحُ نِسَائِهِمْ ؛ بَلْ وَلَا يَقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، لَيْسُوا مُسْلِمِينَ ؛ وَلَا يَهُودَ، وَلَا نَصَارَى، لَا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَا وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلَا وُجُوبِ الْحَجِّ ؛ وَلَا تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا. وَإِنْ أَظْهَرُوا الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ هَذِهِ الْعَقَائِدِ فَهُمْ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَمَّا « النُّصَيْرِيَّةُ ” فَهُمْ أَتْبَاعُ أَبِي شُعَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ الْغُلَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ عَلِيًّا إلَهٌ، وَهُمْ يُنْشِدُونَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا… حَيْدَرَةُ الْأَنْزَعُ الْبَطِينُ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إلَّا… مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَلَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا… سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينِ وَأَمَّا ” الدُّرْزِيَّةُ ” فَأَتْبَاعُ هشتكين الدَّرْزِيّ ؛ وَكَانَ مِنْ مَوَالِي الْحَاكِمِ أَرْسَلَهُ إلَى أَهْلِ وَادِي تَيْمِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَدَعَاهُمْ إلَى إِلَهِيَّة الْحَاكِمِ، وَيُسَمُّونَهُ ” الْبَارِيَ، الْعَلَّامَ ” وَيَحْلِفُونَ بِهِ، وَهُمْ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ نَسَخَ شَرِيعَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ الْغَالِيَّةِ، يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ، وَإِنْكَارِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَمُحَرَّمَاتِهِ وَهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَغَايَتُهُمْ أَنْ يَكُونُوا ” فَلَاسِفَةً ” عَلَى مَذْهَبِ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ أَوْ ” مَجُوسًا “. وَقَوْلُهُمْ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوس، وَيُظْهِرُوا التَّشَيُّعَ نِفَاقًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ».
ثانيا: فتاوى قريبة
حين نتحدث عن الفتاوي ذات الصلة فإننا معنيون بالتركيز على تلك الفتاوى التي تصدر عن علماء يتمتعون بمسؤولية علمية وفقهية واجتماعية وسياسية معلومة للعامة والخاصة، كما أننا معنيون بتلك الفتاوى التي يكون لها بالضرورة آثارا وتداعيات تمس معتقدات العامة وحياتهم الشخصية وأفعالهم، المادية والمعنوية، فضلا عن أحوال المسلمين ومصائرهم، وما يترتب عليهم من واجبات وحقوق وأحكام شرعية. كما أننا معنيون بتلك الفتاوى التي تتجند وسائل الإعلام لنشرها على نطاق واسع بهدف إيصال الموقف الشرعي في نازلة معينة إلى عامة المسلمين، وحثهم على وجوب الالتزام به والعمل بمضمونه. أما المواقف الشرعية التي تصدر عن علماء مسلمين، فقد تكون أعمق تأصيلا، لكنها قلما تُحدث فارقا طالما بقيت حبيسة الصدور، لا تجد لها سندا إعلاميا أو شرعيا يسمح لها بالشيوع والانتشار.
في زمن الأيديولوجيا؛ وفيما توفر من معطيات، فقد تميزت الفتوى بخصوص الطائفة « النصيرية» بالغياب التام، إلا ما تم تناقله عن السلف. وتبعا لذلك فمن الصعب الوقوع على فتوى تمس الشرعية العقدية للنظام السياسي أو « حزب البعث». وحتى البرقية التي وجهها الشيخ عبد العزيز ابن باز، رئيس المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، إلى « رئيس النظام السوري»، على خلفية الدعوة إلى « تطبيق الشريعة» والتنكيل الذي تعرض له السوريين تحت « ستار حادثة حلب» لم تمس الشرعية العقدية للنظام، لا من قريب ولا من بعيد، بقدر ما عبرت عن الأسف!!! هكذا قالت: « يأسف أشد الأسف لما يجري في هذا البلد الغالي من سفك دماء الذين ينشدون ما هو واجب على كل حكومة تؤمن بالله ورسوله من تحكيم شرعة الله ورسوله .. ويستغرب أشد الاستغراب أن تكون هذه الدعوة في بلد إسلامي عريق جرما يستوجب أهله الاعتقال والإيذاء والقتل … إننا لنهيب بكم .. وبكل المسؤولين في البلاد العربية والإسلامية أن يجمعوا الصفوف على كلمة الله .. وتطبيق شريعته .. ويعدوا العدة، ويوحدوا القوى في ظلال العقيدة الإسلامية، وحب الجهاد والاستشهاد، فذلك هو طريق النصر والفلاح». ( نشرت في مجلة الاعتصام المصرية، عدد يناير / كانون الثاني 1980).
وإلى حين صدور بيان المجلس لم تكن الحرب « العراقية – الإيرانية» قد انفجرت بعد ( أيلول / سبتمبر 1980). ولم تكن الثقافة الشعبية لتميز فعلا بين الفِرَقْ والطوائف لاسيما إذا تعلق الأمر بـ « الشيعة». أما « النصيرية» فقد كانت غائبة حتى كلفظة، ناهيك عن كونها طائفة. لكن في أعقاب اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية، واستعارها وسط تحالف « سوري – إيراني»، ظهر ثمة حاجة للمعرفة، وبدت التساؤلات تشق طريقها ولو من باب الفضول. وفي السياق تلقى الشيخ ابن باز سؤالا استفساريا يقول: « ما الفرق بين أهل السنة والجماعة والشيعة؟» فكان الجواب: « هناك فرق بينهم. فالله ما جعل الناس سواء، لا يستوي الذين يعملون الصالحات والذين يعملون السيئات، وما يستوي الأبرار والفجار. يجب التفريق بين الكفار والمسلمين وبين الشيعة وغيرهم، الشيعة مبتدعة وهم أقسام كثيرة: فيهم الرافضي وفيهم النصيري وفيهم الإسماعيلي، وفيهم أصناف أخرى وهم طبقات وأقسام، منهم عبدة أهل البيت يعبدون أهل البيت يدعونهم من دون الله يستغيثون بهم كالرافضة والنصيرية وأشباههم، هؤلاء كفار. نسأل الله العافية». ( من أسئلة حج عام 1407هـ، شريط رقم 6. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة المجلد الثامن والعشرون).
هكذا هم .. « الرافضة والنصيرية وأشباههم، كفار»!!! ومن الواضح أن الفتوى لم تتطرق إلى الموقف الشرعي من « حزب البعث» بقدر ما ركزت على حكم الطوائف. وقبل أن تضع الحرب أوزارها (8/8/1988) ظل الرئيس العراقي صدام حسين يحظى بكل الدعم والتأييد والنصرة من دول الخليج العربي، باعتباره « حارس البوابة الشرقية»، حتى صارت حربه على إيران مضربا للشعر والأمثال. كما أن « حزب البعث» ظل بمنأى عن أي طعن أو إدانة ناهيك عن الحكم الشرعي. لكن بعد أن غزا الكويت في 2/8/1991. تلقى كتلة من التوصيفات العقدية أخرجته و « حزب البعث» من الملة. ولا ريب أن النموذج الأبرز لسيل الفتاوى كانت تلك التي قدمها الشيخ ابن باز حيث قال فيها:
« … تُقَاتَل الفئة الباغية ، وهي مؤمنة حتى ترجع ، فكيف إذا كانت الطائفة الباغية ظالمة كافرة ، كما هو الحال في حاكم العراق ، فهو بعثي ملحد ، ليس من المؤمنين ، وليس ممن يدعو للإيمان والحق بل يدعو إلى مبادئ الكفر والضلال … ».
وكذلك حين سئل: « هل حاكم العراق كافر وهل يجوز لعنه؟ فأجاب: « هو كافر وإن قال: لا إله إلا الله، حتى ولو صلى وصام، ما دام لم يتبرأ من مبادئ البعثية الإلحادية، ويعلن أنه تاب إلى الله منها وما تدعو إليه، ذلك أن البعثية كفر وضلال، فما لم يعلن هذا فهو كافر … ». ( من ضمن أجوبة سماحته رحمه الله على الأسئلة الموجهة له عام 1411هـ – 1991م، أيام غزو العراق للكويت- الفتاوى المجلد 6).
قد لا تتضح قيمة مثل هذه الفتاوى في حينه، فضلا عن كونها تسببت بانقسامات في العالمين العربي والإسلامي، باعتبارها جاءت لتلبي احتياجات سياسية أكثر مما هي استجابة لضرورات عقدية. إذ أن « حزب البعث» وصدام حسين كانا موجودين قبل غزو الكويت، وكذا الرئيس السوري حافظ الأسد و « حزب البعث»، ومع ذلك لم تصدر فتاوى بـ « تكفير» هذا أو ذاك!!! لذا فإن مشروعية الفتاوى نفسها لا تبدو ذات قيمة اجتماعية أو عقدية ما لم تتسم بالتجرد والعمومية، وتتخلص من التشكيك والشبهات المرافقة لها بنيويا. فما ينطبق على « حزب البعث» في العراق لا بد وأن ينطبق، بقوة الحكم الشرعي، على مثيله في سوريا.
هذا الأمر ظهر جليا في فتوى لاحقة للشيخ ابن باز حين سئل: « هل نكفر رئيس العراق وحزبه البعثي لاعتقادهم بذلك أم لا؟» فأجاب: « البعثيون كلهم كفار، سواء رئيس العراق أو غيره؛ لأنهم يرفضون الشريعة ويعادونها». ( مجلة الفرقان، العدد 100، في ربيع الثاني 1419هـ. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة المجلد الثامن والعشرون).
ثالثا: فتاوى خلال الثورة
1) الجهاد والنصرة
في إطار بيان الموقف الشرعي من النظام قمنا بمعاينة عشرات الفتاوى التي صدرت عن مؤسسات أو علماء. وللوهلة الأولى تبدو، في الإجمال، قوية في لغتها الشرعية وهي تكفر النظام والطائفة النصيرية وحتى الرئيس السوري بشار الأسد عينا. لكن التدقيق فيها يكشف أيضا عن تجنب بعضها للحكم الشرعي وإيراده في صيغة غير مباشرة كما فعلت واحدة من أهم الفتاوى.
فمن جهتهم أصدر 50 داعية سعوديا ثلاثة بيانات كان آخرها في 15/8/2011، دعوا فيه الدول والمؤسسات والأفراد والجماعات إلى نصرة الشعب السوري، و: « قطع علاقاتها الدبلوماسية، وإيقاف كافة أنواع الدعم الاقتصادي عن نظام الحكم المجرم في سوريا، والعمل على محاصرته وعزله سياسيًّا واقتصاديًّا؛ حتى يكف عن هذه الممارسات الوحشية». وقيل في البند الأول منه:
« إن الواجب الشرعي يحتِّم على أهل العلم والإيمان وأهل الرجولة والمروءة والنخوة من العلماء والدعاة والخطباء وأعضاء هيئات الفتوى والمجامع الفقهية والروابط والاتحادات الإسلامية؛ أن يجهروا بالحق ونصرة هؤلاء المظلومين.. ويبينوا الحكم الشرعي بوضوح وبلا مواربة؛ لهذه الممارسات الوحشية والإجرامية، التي هي من أعظم الفساد في الأرض .. وأن يسعوا لعقد مؤتمرات شعبية لمناصرة إخواننا المنكوبين في بلاد الشام».
مع ذلك فقد خلا البيان من إظهار الحكم الشرعي بحق النظام أو الرئيس السوري!!! واستعمل في توصيف النظام عبارات مثل: « الفساد .. المجرم .. الممارسات الوحشية .. العصابة الحاكمة في سوريا».
ونفس المحتوى تقريبا عبر عنه بيان الـ 107 علماء، وهو الأشهر بشموله الكثير من علماء المسلمين في العالم العربي. واستعمل البيان الذي صدر في 7/2/2012 عبارات سياسية من نوع: النظام « المستبد .. الفاسد»، مع التركيز على « حرمة سفك الدم الحرام»، و « دعم الجيش الحر».
أما فتاوى أو مقالات الشيخ حامد العلي فقد ربطت باستمرار وبوضوح بين النظام « النصيري» في سوريا و « المجوسي في إيران. وفي « فتوى وبيان في شأن جهاد أسود الشام ضد طاغيتها ، وأشقاها ، وشارونها – 28/1/2012 »، وكذا « ميثاق الجهاد – 29/2/2012 » أصر الشيخ على نسبة ألفاظ من نوع: « الطغيان .. الطاغية .. طغاة .. شارون سوريا .. أطغى طغاة الأرض» إلى النظام السوري أو الرئيس. وحرض على الجهاد معتبرا أن: « الجهادَ في أرض الشَّام هو أفضل الجهاد اليوم، والقائمون عليه من أسود الشام، وأبطال الإسلام، همْ خيرُ المجاهدين منزلة، وأعظـمهم درجة، وأزكاهم عند الله إن شاء الله تعالى .. ذلك أنهم يقاتلون من جمـَعَ على أهل الإسلام الشرَّيـْن، وانتظم الخطريْن، شرّ الرفض الذي هو أخبث دين على وجه الأرض، وشـرّ الطغيان العظيم الذي لم يصل إلى مثله طغـيان .. وهم بذلك يدفعون بنحورهم عن أهلِ الإسلام، ويهرِقون دماءَهَم لأجل حماية المسلمين، وليدفعوا عنهم بأس الكافرين»، ورغم أنه استشهد في الآية الكريمة على قتال أهل الشام: ( وحرِّض المؤمنين عسى الله أنَّ يكفَّ بأسَ الذين كفروا )، إلا أنه لم يستعمل لفظة « الكفر» أو « التكفير» ضد النظام أو الرئيس بصورة مباشرة.
وكذا الأمر حصل بالنسبة لفتوى الشيخ محمد علي الجوزو، مفتي جبل لبنان، خلال اللقاء التضامني الذي نظمه « اللقاء العلمائي في لبنان – 5/2/2012. ورغم ابتعاده عن « التكفير» إلا أنه حمل بشدة على « حزب البعث» الحاكم في سوريا، مؤكدًا أنه: « كان مصيبة على أمة الإسلام والعرب، حيث يحملون راية العروبة زورا وبهتانا». وأن: « حزب البعث سقط نهائيا ولن يعيش بعد اليوم».
وعلى نفس نهج النصرة الداعم للجهاد والثورة في سوريا، ولكن دون « تكفير» النظام بشكل صريح، جاءت فتوى علماء اليمن في 14/3/2012، تبعتها في اليوم التالي فتوى الشيخ عبد المجيد الزنداني بلسان نجله محمد على صفحته في « الفيس بوك». ودعت الفتوى إلى: « وجوب الجهاد على المسلمين في كل أنحاء الأرض، دولاً ومجتمعات ومؤسسات وجمعيات ولجان وأفراد وتكتلات»، ودعت: « الدول المجاورة لسوريا إلى فتح الحدود أمام المجاهدين»، معتبرة أن: « الجهاد في سوريا فريضة»، وهو ما كرره في المؤتمر الدولي باستنبول (5/4/2012).
أما تصريحات د. محمد بديع، مرشد جماعة « الإخوان المسلمين» فقد جاءت بمثابة هجوم سياسي على النظام السوري الذي وصفه بـ «المجرم» و «الغاشم» و «الجائر» و « مثالا للظلم والاستبداد والطغيان والعنف والإرهاب في أبشع صوره». لكنه خلا من أية لغة شرعية تذكر. ففي رسالته الأسبوعية، التي خصصها للحديث عن الثورة السورية في 2/3/2012، خاطب الرئيس السوري قائلاً: « إن كان قد بقي في ذاتك شيء من الحياء فاستح من ربك، واتقه في عباده، ولا تنس أنك أجير عند شعبك، ولتحافظ على ما تبقى من مقدرات بلدك، ولتحقق مطالبه المشروعة، وتنزل على رغبته بضرورة تركك للسلطة لمن يرتضيه ويختاره بإرادته الحرة، ولتكف عن سفك الدماء ودك المدن بالأسلحة الثقيلة التي لم تستخدمها ضد مغتصبي أرضك، وعدو الله وعدونا، فكيف بك تستنزفها ضد أبناء شعبك الأبرياء العزل».
2) القتل دون التكفير
كانت فتوى الشيخ يوسف القرضاوي في 21 /2/2011 هي الأولى التي قضت بقتل زعيم عربي هو العقيد الراحل معمر القذافي. لكن القرضاوي لم يكررها بحق أي رئيس آخر، بمن في ذلك الرئيس السوري. وبالكاد مضى يوم على صدور الفتوى حتى صب الشيخ عبد المنعم مصطفى حليمة، الشهير بأبي بصير الطرطوسي، جام غضبه على القرضاوي فيما يشبه التحدي له بأن يصدر فتوى مماثلة بحق بشار الأسد. وفي 26/2/2012 نسبت وسائل الإعلام إلى الطرطوسي قوله في كلمة ألقاها على طلابه في إحدى غرف الدردشة الصوتية ونشرتها المنتديات الجهادية أن: « القرضاوي وأمثاله كانوا يجادلون الإسلاميين في تكفيرهم للحكام العرب ومن ضمنهم القذافي بذريعة أنهم ولاة الأمر ولا يجوز الخروج عليهم»، وتساءل موجها حديثه إلى القرضاوي قائلا: « من منا على حق .. من منا على حق؟، وأضاف: « نحن لنا 30 عاما نقول لكم هؤلاء مجرمون … قتلة وأعداء للأمة وأنهم لا يتورعون أن يبيدوا شعبنا».
وفي السياق لم يفلت الشيخ سلمان العودة الذي أيد على القذافي من « هجمة» الطرطوسي، الذي خاطبه قائلا: « بكير .. صح النوم يا سلمان العودة .. بالأمس كنت ترمينا وترمي أخواننا بأننا من الخوارج والمتهورين والآن صحوت؟ .. قلتم هذا الكلام في بن علي ومبارك وهذا جيد لكن هناك طغاة أحياء كطاغوت الجزائر وطاغوت المغرب وطاغوت السعودية وطاغوت سوريا … قولوا كلمة الحق في هؤلاء الآن وليس بعد أن يسقطوا .. الآن نريدك أن تتكلم … كلمني الآن عن الطاغية في الشام إن كنت رجلا .. اعطني نفس الفتوى في طاغية سوريا الذي هو أشرس من القذافي بمليون مرة ويحكم سوريا منذ 50 عاما هو وأبوه حافظ الهالك .. أعطني فتوى في هذا النظام إن كنت رجلا الآن وليس بعد أن يسقط.
لا ندري، على وجه التحديد، لماذا سارع القرضاوي إلى التصريح بوجوب قتل القذافي بينما امتنع عن الدعوة إلى قتل الرئيس الأسد، واكتفى بالقول أن: « بشار انتهى»! علما أن كلا الرئيسين من القتلة المتوحشين. ولا ندري بأي منطق شرعي أيضا انتقل الشيخ سلمان العودة من النقيض إلى النقيض مثلما فعل د. عائض القرني الذي وصف الرئيس السوري على قناة « العربية – 26/2/2012 » بالسفاح اليهودي أرييل شارون، مشيرا إلى أن: « قتل رئيس النظام السوري بشار الأسد الآن أوجب من قتل الصهيانية، وأنه أصبح واجبًا شرعيًّا نصت عليه الأدلة؛ لأن فيه دفعًا للصائل والمجرم .. الأسد وشارون سواء، … ولن يتم تحرير الجولان حتى يذهب هذا النظام المتواطئ العميل الذي تواطأ مع أعداء الأمة، فهو في الأصل مع إسرائيل التي تقاتل بقوة لبقاء نظامه».
الطريف في الأمر أن الدعوة إلى قتل الرئيس السوري وردت أكثر ما وردت على ألسنة علماء ومشايخ ودعاة مصر، مثل د. هاشم إسلام، عضو لجنة الفتوى بالأزهر، الذي أفتى: « بإهدار دم بشار الأسد إذا استمر في جبروته ضد شعبه (17/2/2012) »، وكذلك فتوى الشيخان محمد حسان ومحمد عبد المقصود ( 1/3/2012). ومن جهتها نسبت صحيفة « المصري اليوم» لـ د. صفوت حجازي القول، خلال اللقاء الذي نظمه « الاتحاد العام لنقابة الأطباء»، و « رابطة أهل السنة» (15/3/2012 )،: « من مُكّن من قتل الأسد ولم يقتله، فهو آثم»، مضيفا: « إن من يقتل بشار فهو في الجنة»!!! وأكثر من ذلك قوله: « لو لم أكن معروف الوجه، لذهبت بنفسي وقتلته، ومن يستطِع أن يقتله فليقتله، وأنا أتحمل الدم عنه»!!!، مؤكداً أن: « هذه الفتوى ليست فتواه وحده، وإنما هي فتوى أصدرها مئة من العلماء المنتمين لمختلف التيارات الدينية إخوان وجماعات وسلفيين وجهاديين»، ومشددا أيضا على أن: « قتل بشار أصبح فرض عين على الأمة. أما الشيخ أحمد المحلاوي (23/3/2012) فقد قال: « إن النيل من هذا المجرم بات واجبًا على كل مسلم يستطيع ذلك»، وعلى الثوار أن يدركوا: « أن من يقوم منهم بقطع رقبة هذا الخائن فإنه لو قتل في سبيل ذلك، سيكون بإذن الله شهيدًا، وسيحشر مع سيد الشهداء بالجنة».
3) التكفير والقتل
الفتاوى والدعوات إلى قتل الرئيس السوري، كما تناقلتها وسائل الإعلام، لم تتضمن تعبيرات صريحة بكفر النظام أو بكفر الرئيس السوري عينا. وإذا ما قورنت في الفتاوى التالية فإنها تطرح تساؤلات عما إذا كان الأسد « كافرا» أم « قاتلا» أم الاثنين معا؟
لا شك أن أغلب الفتاوى السابقة الداعية إلى « النصرة» و «الجهاد» أو « القتل» تحتمل أكثر من وجه، لاسيما وأن المسائل الشرعية المتعلقة بملة الفرد من المفترض أن تتسم بالصرامة والوضوح التام، نقول هذا مع أننا نعتقد أن تلك الفتاوى، وهي تشدد على الجهاد والقتال وإسقاط النظام، هي في الحقيقة أميل ما تكون إلى « التكفير»، لكن كما يقال فإن « لازم القول ليس بلازم»، وإلا فلماذا يصرح البعض بـ « كفر» الطائفة أو النظام أو الحكومة أو الرئيس في حين يمتنع البعض الآخر عن البيان الحاسم في الأمر؟ ولماذا يصرح البعض بـ « القتل» ولا يصرح بـ « الكفر»؟
مهما يكن الأمر فإن عددا كبيرا من العلماء والمشايخ والدعاة والخطباء والأئمة، من غير « التيار الجهادي العالمي»، جهروا بـ « تكفير» الرئيس السوري وطائفته، من مصر والكويت والسعودية وفلسطين وغيرها. ومن بين هؤلاء مثلا يشار إلى الشيخ عبد الملك الزغبي والتميمي ومحمد العريفي وغيرهم مما سيرد تاليا، أفرادا ومؤسسات.
ولعل الشيخ صالح اللحيدان كان صريحا في « تكفير» النظام والطائفة « النصيرية» و « حزب البعث» والرئيس الأسد في فتواه التي وصف فيها الحكومة السورية ( في تسجيل صوتي 23/4/2011) بـ: « الفاجِرَة الخبيثة الخطيرة المُلْحِدة والرئيس السوري بالقول: « الرجل هذا نصيري.. بشار .. وأبوه أخبث منه قَبْلَه، وجناية أبيه خطيرة حيث قتَل عددًا كبيرًا في لحظة واحدة في سوريا». وفي الاستجواب التوضيحي الذي تلقاه بعد الفتوى أكد أن: « بشار نصيري ليس بمسلم .. وحزب البعث مشرك» حين يقول: « آمنت بالبعث رباً لا شريك له *** وبالعروبة ديناً ما لــه ثان».
ومن جهتها أصدرت « رابطة علماء الشريعة لدول الخليج» ( وهي كويتية) فتوى شرعية صريحة في 12/8/2011، تضمنت ستة بنود حاسمة في توصيف النظام السوري والموقف الشرعي منه ومن العلاقة معه. وحدد البند الثاني من الفتوى الحكم الشرعي عبر الدعوة إلى: « وجوب إدانة ما يفعله النظام السوري من قتل وتعذيب وسجن والحكم على النظام البعثي بالكفر القولي والفعلي». وقد وقّع على الفتوى كل من: د. عجيل النشيمي، د. شافي العجمي، د. عبد الرحمن عبد الخالق، د. جاسم مهلهل، د. جاسم المطيري، الشيخ نبيل العوضي، د. عثمان الخميس، د. حامد العلي، د. عبد المحسن زين المطيري. ولا ريب أن أطرف ما في الفتوى التي أقرت بـ « الكفر القولي والفعلي للنظام البعثي» أنها أرسلت إلى الأمين العام د. علي الفرداقي، و د. يوسف القرضاوي، للتوقيع عليها.
وبعد فتوى علماء الكويت بقليل ( في 20/9/2011) أصدر الشيخ ياسر برهامي من مصر فتوى موجهة بالدرجة الأساس إلى « الجيش السوري الحر أكد فيها على « كفر النظام والطائفة، وخاطب « الجيش الحر» بالقول: « اتقوا الله أيها الضباط والجنود في أهليكم وشعبكم المسلم المظلوم الثائر على نظام بعثي علوي كافر، فلا نزاع بين أهل العلم في كفر الطائفة العلوية النصيرية نوعًا وعينًا».
ولم يطل الوقت حتى جاءت فتوى « الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح» في مصر لتجمع بين « كفر» النظام و قتل الرئيس بشار الأسد. ففي 1/3/2012 قالت الهيئة في بيانها: « إن الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح تفتي بكفر النظام السوري الطائفي وإباحة دم رأس هذا النظام المجرم الذي ولغ في دماء السوريين، وأهان المصحف الشريف، واعتدى على حرمات المساجد، وأزهق الأرواح المعصومة، وأتلف الأموال المصونة، وتجبَّر واستكبر في الأرض بغير الحق .. »؛
« كما تفتي الهيئة وحدات الجيش السوري المسلم بالانفصال عن جيش النظام الفاجر والانضمام إلى الجيش السوري الحر، وتدعو الأمة الإسلامية بحكوماتها وهيئاتها المختلفة إلى إمداد الجيش الحر بالسلاح والمال والدعاء في الأسحار! وأضافت بأن: كل من قَتل أو أَمر بالقتل أو أعان عليه – بغير حق- فقد أتى ما يهدر به دمه، وتحل به عقوبته في الدنيا والآخرة، لا فرق بين حاكم ومحكوم أو قائد وجنود».
واختتمت بالقول: « على علماء السلطان وعمائم الطغيان ورءوس الفتنة والبدعة أن يستقيلوا من وظائفهم، ويتبرَّءوا من ممالأة الكفر والإجرام، وألا يبيعوا دينهم وآخرتهم بدنيا قد أدبرت عن غيرهم، وليذكروا أن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ومقته يهوي بها في النار سبعين خريفًا، ويلقى الله تعالى وهو عليه ساخط، قال تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] ».
ولعل مسك الختام في هذا النوع من الفتاوى هو ذاك الذي جاء على لسان الشيخ ناصر العمر، الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين، خلال المؤتمر الدولي الذي انعقد في مدينة اسطنبول التركية ( 5/4/2012) بدعوة من « رابطة علماء المسلمين العالمية»، وبالتعاون مع « هيئة الشام الإسلامية». وفيه قال الشيخ العمر: « إن ما يجري في سوريا قتال بين الكفر والإسلام، وإن الشعب السوري يتعرض لمشروع باطني صفوي شيعي، تسعى إيران من خلاله إلى إعادة الإمبراطورية المجوسية من جديد».
رابعا: ملاحظات ختامية
الملاحظة الأولى:
الواضح أن علماء الإسلام كانوا على دراية بحقيقة الأحزاب القومية واليسارية والاشتراكية وغيرها من الأحزاب العلمانية. والأوضح أنهم كانوا على دراية مبكرة بحقيقة الطائفة « النصيرية» والموقف الشرعي منها. ومع ذلك فقد وقعت الأمة في غفلتين مريرتين: الأولى، في إقامة النظام الدولي على أنقاض العالم الإسلامي، وما تبعه من تفكيك للعالم الإسلامي والدولة العثمانية ونظام الخلافة ثم إقامة دولة اليهود في القلب منه، والثانية، في زرع البذور الأولى لـ « المشروع الصفوي» في سوريا، عبر الطائفة « النصيرية»، ومن ثم سيطرتها على البلاد، واستعمال إيران لها جسرا للعبور نحو الأمة التي انخدعت في نموه على مرآى من العين دون أن تحرك ساكنا طوال عقود. ولا شك أن العلماء يتحملون قسطا كبيرا من هذه الغفلة الثانية على وجه التحديد.
الملاحظة الثانية:
ومن الواضح أيضا أن العلماء الذين أقروا بـ « كفر حزب البعث» صمتوا طويلا على بيان الحكم الشرعي إلى أن اصطدمت المصالح السياسية للنظم معه. وهذا يعني تغييبا للحكم الشرعي لا مبرر له، فضلا عن أنه عرّض الفتاوى، للطعن كونها فتاوى انتزعت، في حينه، لتحقيق أهداف سياسية وليس أهدافا شرعية. بل حتى هذه اللحظة ما زالت الفتاوى تفتقد إلى الشمولية في بيان أحكام المسلمين الخاضعين بالقوة لحكم « كفري» ممتد لعقود طويلة تحت السمع والبصر والغطاء السياسي أو ما بدا غطاء شرعيا!!! فإذا كانت الفتاوى الراهنة قد أشارت على مسلمي سوريا ومجاهديها ما يفعلون؛ فما هو مثلا حكمهم قبل الثورة وبعدها في مسائل المعاملات والعقود والمواريث والعلاقات الاجتماعية وإجمالي الأحوال المدنية؟ وما هو حكم من يماثلهم في الحالة؟ وبعد أن غدت سوريا اليوم، بموجب فتوى الشيخ العمر في استنبول، « دار كفر» بامتياز؛ فما هو حكم العلماء الذين أنكروا في مؤتمر ماردين صلاحية فتوى ابن تيمية في تقسيم بلاد المسلمين إلى « دار كفر» و « دار إسلام»!!!!؟
الملاحظة الثالثة:
من المثير حقا أن بعض الفتاوى كانت أقرب ما تكون إلى صيغة « البيان السياسي» الذي يحرص على تجنب الحكم الشرعي. وبعضها الآخر يستعمل آيات ومصطلحات شرعية دون التصريح بالحكم الشرعي، وكأنها تتهرب منه. وهو ما لاحظناه على سبيل المثال في بيان الـ 107 عالما من أشهر علماء الأمة!!!! فإذا كان البعض يلوم « المركز» وهو العدو الأكبر للأمة، أو النظم العربية على خذلانهم الشعب السوري وتركه لمصير دموي من نظام لا يتمتع بأية منظومة أخلاقية لأي صنف من الكائنات الحية، ولا حصانة عنده حتى لرضيع، فضلا عن حماية النظام الدولي له؛ فمن الأولى أن يتم توجيه لوم شديد لمثل هذه البيانات التي نأت بمحتواها عن التصريح بالحكم الشرعي، وتنزيله عليه، واكتفت بمعاتبة النظام على « ممارساته» و « فساده» أو تقريعه على سلوكه وأخلاقه، أو حثه على « حياء» أو « تقوى» هو منهما براء.
الملاحظة الرابعة:
مع أن « المواجهة الشرعية» مع النظام السوري انطلقت بقوة إلا أن الواقع يكشف عن معارضة سورية أبعد ما تكون عن أي منطق عقدي. بل أن أكثرها يتصرف كمذنب يجتهد في التبرؤ من تهمة الطائفية التي فرضها النظام على المجتمع والدولة معا، وأزيد من ذلك فإن كثيرا من المعارضة تقضي الشهور تلو الشهور، ولمّا تزل، تناور على جبهة المصالحة مع النظام، أو الحل معه، وتتمسك حتى اللحظة بقطرية الثورة، وما يسمى زورا وبهتانا بـ « الوحدة الوطنية» رغم أن الخصم يعمل، جهارا نهارا، في سياق مشروع عقدي لم يعد يخفى حتى على الأعمى قبل البصير. بل أن بعض المعارضة شنت حملات محمومة على العلماء والمجاهدين، زاعمين أن فتاواهم تضر بالثورة!!! والواقع أن الثورة السورية في واد وأمثال هؤلاء في واد آخر. فالثورة السورية انتزعت من العلماء من المواقف الشرعية ما لم تنتزعه أية ثورة سابقة عليها.
إزاء هذا الحال فمن المفترض أن تعترض هذه الفتاوى، خاصة في قسمها الثالث، مسار كل جهة تحاول الالتفاف على الثورة السورية أو دفع السوريين إلى الحل مع النظام، مثلما هو الحال مع مبادرة كوفي عنان، التي صممها « المركز» لـ « إدارة الثورة» دون أن يمانع في إمكانية الحل مع النظام. إذ من غير الممكن أن يحظى أي حل بالشرعية العقدية طالما بقي الأسد وعائلته في الحكم أو بقيت الطائفة « النصيرية» هي المهيمنة أو ذات نفوذ أو بقي «حزب البعث» في السلطة أو حتى في المعارضة.
ومن المفترض أيضا، وهذا هو الأهم، بالنسبة للمقاتلين والمجاهدين على الأرض، أن هذه الفتاوى توجههم نحو الراية الصحيحة التي تقاتل في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمة الله في الأرض. وهو توجيه فيه رحمة عظيمة بالمجاهدين الذين قد يتعرضون للقتل في أية لحظة، إذ أن غاية ما تتمناه أنفسهم أن ينتصروا أو يقضوا في رضى الله وليس رضى أحد، لن يفيدهم أو يحصنهم من غضب الله. وبالتالي فما من حصانة تُذكر، ولا من فائدة تُرجى، من الخوض في حرب تجري وقائعها تحت رايات عمية. لذا فقد شددت الفتاوى على سلامة الراية ووضوحها كي لا تذهب الدماء المسفوكة سدى.
الملاحظة الخامسة:
لا شك أن فتوى د. صفوت حجازي بإجازة قتل الرئيس السوري تضمنت شططا غير مقبول شرعيا في الكثير من النواحي كالقول: « إن من يقتل بشار فهو في الجنة»!!! أو قوله: « من يستطِع أن يقتله فليقتله، وأنا أتحمل الدم عنه»!!!، بخلاف ما جاء على لسان الشيخ المحلاوي: « أن من يقوم منهم بقطع رقبة هذا الخائن فإنه لو قتل في سبيل ذلك، سيكون بإذن الله شهيدًا، وسيحشر مع سيد الشهداء بالجنة». لكن المدهش أن نجد في الفتاوى « تكفيرا» للنظام والحزب والطائفة والرئيس والتحريض على قتله، وفي نفس الوقت نجد من يميز بين من يحق له قتل بشار ومن لا يحق له!!! ومن يرى في هذا الجهاد شرعيا بينما يرى في جهاد الآخرين « إرهابا». أما لسان حال هؤلاء فيقول: إذا جاء القاتل من « الجيش الحر» فجهاده واجب ومحمود، وقتله بشار الأسد حلال زلال، أما إذا جاء من الجماعات الجهادية، التي تملأ البلاد طولا وعرضا، وأفرادها من صلب البلد وأهله، فليس لها من نصيب إلا الإدانة والتشويه، حتى أن البعض رماها بـ « الإرهاب» عن ظهر قلب!!!
الأرجح أن الذين يؤيدون هذا المنطق أو يروجون له لا يستندون إلى أي منطق شرعي. وهم في الواقع إما خصوم أو أصحاب هوى أو مضلَّلون أو غاضبون أو جهلة أو ممن أسرتهم الأيديولوجيات أو ممن ربطوا الثورة السورية في السقف الدولي. فمن الناحية العقدية لا يحق لأحد إنكار حكم شرعي إلا إذا كان منكرا للشريعة والدين، ولا يعتد بها كمرجعية توجه سلوكه وأفعاله وعلاقاته. وهذا النوع لا يؤخذ برأيه. ومن ناحية موضوعية فلا يوجد مبرر عقلي يتيم أن يعطي الحق بالقتل لهذا وينكره على آخر.
الملاحظة السادسة:
الثابت أن الفتاوى لم تُحدث فارقا كبيرا في الصراع مع النظام السوري لجهة الحشد والدعم والتجييش الإعلامي والمادي. فالدول المحيطة بسوريا لا تزال تمنع التبرعات العامة في المساجد والمؤسسات ومراكز الرعاية والإغاثة. ولو قارنا الحالة السورية بالحالتين الأفغانية والبوسنية لتبين لنا مدى الفرق الهائل. ولا يحتاج المرء كثيرا من التأمل لمعرفة الأسباب. ففي حالتي أفغانستان والبوسنة كان الاتحاد السوفياتي وصربيا عدوا عقديا، فضلا عن كونه أعظم خصوم « المركز» الأيديولوجيين وأخطرهم. وكان « الإلحاد» هو التوصيف الشرعي للعدو آنذاك. لكن في المرحلة الثانية من الجهاد الأفغاني أو في العراق فقد غدت المشكلة مع « الحليف»، مما استدعى تغيير التوصيف الشرعي للحرب ليلائم احتياجات « المركز» وتوصيفه، وتبعا لذلك صار الجهاد « إرهابا».
أما اليوم مع الثورة السورية فإن التوصيف الشرعي للعدو هو « الكفر» و « الإلحاد» و « العدوان». ولولا انفجار الشوارع العربية لما تلقينا هذا الكم الهائل من الفتاوى التي تتطابق، للمرة الأولى، مع فتاوى علماء « التيار الجهادي». لذا ثمة حذر وخشية من غضب «المركز» الذي لا تروق له مصطلحات « التكفير» و « الجهاد»، فضلا من خشيته على مصالحه وبنية النظام الدولي الذي تمثل سوريا ركيزته الأساسية إقليميا. بمعنى أن « المركز» لا يضيره أي تهديد حتى لو كان على حساب الحرمين الشريفين بقدر ما يهتم لسلامة النظام الدولي القائم، والذي يتعرض، بفعل الثورة السورية، لخطر شديد. ومع أن دول الخليج تعلم هذا علم اليقين إلا أنها ما زالت عاجزة حتى الآن عن الإفلات من قبضة « المركز» الذي يعمل على تمكين « المشروع الصفوي» من « ظاهر الأرض» مقابل احتفاظه بـ « باطنها». والحقيقة أنه ما من حل لمواجهة المشاريع العقدية سواء كانت « صليبية» أو « يهودية» أو « صفوية» إلا بمشروع عقدي مماثل. وهذا ممكن إذا تصالحت النظم مع القوى العقدية أو إذا أحدثت القوى العقدية نفسها فارقا على الأرض يمكن بموجبه أن تحرر، بأقصى ما يمكن، منطوق العلماء من قبضة النظم أو مما تجيش به الصدور.
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-349.htm