د. أكرم حجازي
مع انفجار الثورة الليبية ضد حكم الرئيس معمر القذافي لم يعد أمام الغرب إلا أحد أمرين: إما الاستسلام لنظرية الدومينو، وإما الشروع في مقاومتها ولو بالقوة المسلحة. لذا فإن مراقبة التصريحات الغربية باتت مسألة بالغة الأهمية ربما أكثر، في بعض الأحايين، من مراقبة وقائع الثورات نفسها. إذ بخلاف الثورتين التونسية والمصرية صرنا نسمع فحيحا بعنوان: « تقسيم ليبيا» أو « مجلس الأمن» أو « تدخلات عسكرية» أو « مشاريع عقوبات» وغيرها، لم نسمعها من قبل. فما هي حقيقة الأمر؟ وما هي الأدوات التي تمكن الثورات من الاستمرارية، وعرقلة المساعي الغربية في احتواء الحدث الثوري العربي المستمر؟
التلويح بالتقسيم
كغيره من المراكز التي فشلت في توقع أي من الثورات العربية؛ نشط مركز « سترانفور» الأمريكي المتخصص، كما يقال، في التحليلات ذات الطبيعة الاستخباراتية، في نشر تحليلاته وتصوراته عن الوضع في ليبيا الثورة. ولعلنا نفهم ما يرمي إليه القذافي حين يزعم بأن الاحتجاجات تستهدف تقسيم ليبيا، وأن يواصل بمعية ابنه التهديد بإراقة الدماء والحروب الأهلية!!! وهو ما يخالف الواقع وأماني الليبيين من شرقها إلى غربها، فضلا عن مشاعر العزة والكرامة والقيم النبيلة التي استعادتها الثورة من الطاغية. لكننا لا نفهم كيف توصل مركز « سترانفور» إلى نتيجة يقول فيها: « إن تطور الأحداث في ليبيا يتجه نحو انقسام البلاد إلى شطرين، هما برقة الغنية بتاريخها الطويل وطرابلس التي أسسها الفينيقيون والتي تعتبر مركز المنطقة الغربية».
لكن هذه النتيجة فندتها مخاوف الغرب ذاته الذي بات يشعر بنوع من الفزع جراء صدمتي تونس ومصر. ولا ريب أن المتابع للتصريحات الغربية لا بد وأنه توقف عند تصريحات الرئيس الروسي ميدفيدف وهو يعلق على الثورات العربية بغضب لم يخفى على مراقب. إذ أن الروس كانوا أول من أعرب عن خشيتهم من امتداد الاحتجاجات إلى بلادهم ابتداء من مناطق القوقاز. فالاتحاد الروسي المكون من قوميات وإثنيات تعيش، كما يقولون فيما بينها من جهة وبين السلطة من جهة ثانية، حالة حرب باردة قد تنفجر في أية لحظة. ولأن الولايات المتحدة نفسها لم تعد بمنأى عن التفكك؛ فقد كان من الأولى بمركز « سترانفور» أن يقلق على حاله قبل أن يقدم ما يشبه التوصيات والدعم لأطروحة القذافي الذي تَحصَّن في ثكنة باب العزيزية في طرابلس، وكأنها نواة لدولته الجديدة التي تلائم الغرب والأمريكيين معا.
التقسيم لوح به رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني الذي كان أكثر بلاغة من الروس، ليس حين قال بأن: « ليبيا خرجت عن سيطرة القذافي» بل لأنه قال: « إذا كنا نتفق جميعا على وضع حد لحمام مروع من الدم، فلا بد من القول أننا أمام مستقبل مجهول، حيث يمكن أن نرى بلاداً حرة وديمقراطية أو مراكز خطر للأصولية الإسلامية». تصريح سارع ماركو فينتورا من مكتب بيرلسكوني، إلى استدراك خطورته عبر التقليل من قيمته مشيرا إلى أنه: « لا يعدو تفسيراً للأحداث الدموية الجارية في ليبيا منذ 17 من الشهر الجاري»!!!
مثل هذه التصريحات تجعلنا نتوقف عند نوايا الغرب، ليس تجاه ليبيا الثائرة، فحسب، بل وتجاه الثورات العربية المحتملة في قابل الأيام والشهور. ولا شك أن نظرية الدومينو أكثر ما يخيف الغرب. وطبقا لها؛ فإذا نجح الحجر الأول في إسقاط التالي فإن احتمالية سقوط الحجر الثالث تتضاعف، لكن الأسوأ حين يسقط ثلاثة أحجار دفعة واحدة على حجر رابع. آنذاك يمكن أن تسقط السلسلة برمتها، بصورة تبعث على الذهول. وهذا بالضبط ما يخشى منه الغرب. ولعل طرافة الحدث الثوري تكمن في كون الحجارة الساقطة انتظمت مع الثورة الليبية لتشكل سلسلة قد تهوي بثقلها على اليمين وعلى اليسار وتعزز من فرضية انفراط العقد فعلا.
والأكيد أن لمثل هذا السقوط المدوي تداعيات لا يمكن التنبؤ بها. وصدىً يصعب رصده سواء على المستوى الأوروبي أو الآسيوي أو الأفريقي أو حتى الأمريكي اللاتيني فضلا عن مستوى الدول ذات القوميات والأعراق المتعددة. باختصار ثمة خوف من فوضى قد تسمح بانقلاب الموازين ونظم العلاقات الدولية والتحالفات المحتملة.
عدوانية العقوبات
كما سبق وأشرنا؛ فإن ليبيا، الشعب، ليست علمانية ولا لبرالية، ولا نظامية بقدر ما هي فردية. فالسلطات تجتمع بشكل منظم في يد فرد لخدمة الفرد نفسه وسلطته. وإذا كان الغرب قد وجد من القوى أو المؤسسات ما يعينه على التعامل معها والركون إليها في تسلم السلطة الجديدة وحماية مصالحه فإن البديل في ليبيا يكاد يكون منعدما تماما. ورغم التلويح الأمريكي والأوروبي بدراسة كل الخيارات للتعامل مع ليبيا بما فيها الخيار العسكري إلا أن الواقع والتجربة تجعلنا نتحفظ على خوض مثل هذه المغامرة، وهو توصيف – المغامرة – ورد حتى على لسان بعض المسؤولين الأوروبيين. وبحسب بيرلسكوني؛ وبعيدا عن ابتزاز القذافي وفزاعته، ثمة مخاوف فعلية من « الإسلام الجهادي » في ليبيا. إذن ما هو الحل؟
منذ الثلاثاء الماضي بدأ الحديث عن عقوبات ضد ليبيا. ومنذ أول أمس طلبت فرنسا وبريطانيا من مجلس الأمن مناقشة مشروع قرار عقوبات يستهدف، في الظاهر، شلّ قدرات القذافي عن شن هجمات على المدنيين. ومن بين البنود المطروحة: (1) حظر جوي على ليبيا يستهدف منع القذافي من استخدام الطائرات في قصف المدنيين بما فيها الطائرات المروحية، وكذلك وقف تدفق جيوش المرتزقة على البلاد، ومنع سفر المسؤولين الليبيين، و (2) تجميد أرصدة السلطة الليبية من الأموال المودعة في الخارج، و (3) فرض حظر على تصدير الأسلحة، و (4) إحالة ملفات المتورطين في الاعتداء على المدنيين على المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية .. والأكيد أن قائمة البنود مرشحة للمزيد.
في المحصلة؛ ما يسعى الغرب إلى القيام به ليس سوى استعماله لأدواته العدوانية التقليدية ممثلة بمجلس الأمن ومؤسساته التابعة له ضد الشعوب، وليس ضد النظم الديكتاتورية التي ما زال يقدم لها اليدعم والحماية في شتى أنحاء العالم. فالغرب هدد الرئيس المصري حسني مبارك، وحث على تنحيته عن السلطة، ولم يسمح ببقاء الرئيس التونسي في الحكم رغم أن عدد القتلى لم يصل إلى المائة!! إلا أنه صبر على تهديدات القذافي رغم تواتر الأنباء عن القصف الجوي لحشود المواطنيين والمذابح الوحشية فضلا عن التهديد بالحروب الأهلية وأنهار الدماء من زعيم لا يمتلك أية شرعية تذكر ولا من أي نوع.
مع أن الليبيين يبدون فاقدي الحيلة إزاء جرائم القذافي ووحشيته إلا أنهم لا يتقبلون أي تدخل عسكري غربي في بلادهم. ولا أحد يتمنى من العرب أو المسلمين أي تدخل من الغرب. فالعقوبات والظهور بمظهر المتألم من الجرائم بحق المدنيين يكذبه التاريخ الطويل والمستمر للغرب تجاه الشعوب المستضعفة لاسيما العربية منها والإسلامية. فالغرب يبحث فقط عن مصالحه. والسؤال الآن: إذا كان الغرب مقتنعا بأن القذافي لم يعد يسيطر على ليبيا، ولا يمكنه البقاء في الحكم؛ فلماذا يتدخل مجلس الأمن لفرض عقوبات على سلطة زائلة؟ ولماذا يناقش إمكانية حظر جوي بينما ثمة في الغرب نفسه من يرى صعوبة تطبيقه على الواقع بحجة اتساع الحدود وطول الشواطئ؟ ولما تكون الثورة في تونس ومصر قد نجحتا؛ أليس من الأولى ملاحقة أرصدة هؤلاء الآن بدلا من ملاحقة أرصدة زعامة زائلة يمكن فيما بعد ملاحقتها عن طريق الحكومة الجديدة؟
الأكيد أن مشروع العقوبات لا يستهدف القذافي ولا سلطته بقدر ما هو مشروع عدواني وشرير يجب إسقاطه وإظهار العداء له وليس التصفيق له أو تمني صدوره وكأنه حبل النجاة من جرائم يرتكبها القذافي بتواطؤ غربي منحط. كما أنه قرار عدواني ليس الشعب الليبي إلا أول ضحاياه .. قرار يمهد لمحاصرة ليبيا الثورة، وحجز ثرواتها، والتحكم في مواردها لاحقا، ومنع تقدمها، وتنميتها، أو الاستفادة من مواردها، حتى تكون أدوات ضغط مذلة ومهينة على الشعب الليبي وقاهرة للشعوب العربية والإسلامية.
إذن كل ما يريد الغرب قوله من هكذا قرارات ليس سوى التمهيد لمحاصرة الثورات العربية وتجديد إخضاعها ومعاقبة الشعوب المنتفضة على طغاة لطالما سبحوا بحمد الولايات المتحدة وبركات إسرائيل. ولما يكون هذا هو التاريخ والواقع فلماذا يعول البعض على العقوبات أو يستعجل التدخل الدولي؟
العقوبات تعني أيضا اعتراض مسار التغيير بإضافة أعباء جديدة في لحظة تحقق فيها الأمة أول إنجازاتها الكبرى منذ عقود طويلة. إذ أن تجميد الأرصدة أو الودائع الليبية لا يستدعي، مع مجرم كالقذافي، تدخلا من مجلس الأمن. فهو إجراء يمكن أن تقوم به الدول منفردة أو مجتمعة، إما عبر البنوك أو عبر وزارات المالية أو عبر المؤسسات الإقليمية كالاتحاد الأوروبي. وعلى فرض أن العقوبات محدودة الوقت، وهذا غير متصور، فمن يضمن رفعها بذات السرعة التي يتم فرضها بها؟ ومن يضمن ألا يتم ترقيتها إلى مشروع حصار دولي لاحقا؟
أسوأ ما يمكن تصوره في العقوبات أنها واحدة من أشد الإجراءات إجراما وتواطئا فيما يتعلق بالمذبحة القائمة في ليبيا. فما نعرفه ويعرفه الجميع أن العقوبات بوصفها إجراء يستدعي مرور وقت لا بأس به حتى يكون لها أثر فعلي. وهذا الوقت ضروري كي يتم استنزاف المخزون من الموارد. فإن مشروع القرار لا معنى له، في هذا السياق، سوى معاقبة الشعب الليبي لاحقا أو إطالة أمد حكم القذافي حاليا، وإعطائه المزيد من الوقت لممارسة القتل أو استعادة السيطرة على الوضع، مع إبقائه، لاحقا، تحت السيطرة والتحكم من قبل الغرب.
مشكلة الغرب أنه ما زال تحت الصدمة. والارتباك يسيطر على تصرفاته. وسنة الله في خلقه ماضية. وكلما مكروا مكرا جاء مكر الله أكبر. كان من الممكن ألا يقفوا عقبة أمام الثورة الليبية والانحياز إلى حقوق الشعوب وابتلاع الحدث!!! لكنهم أبوا إلا التواطؤ مع القذافي في سفكه المتوحش للدماء واستعماله أسلحة استراتيجية في مواجهة شعب احتج عليه بأدوات سلمية لا تزيد عن اللافتات والشعارات والحناجر. وفي سعيهم لفرض العقوبات، بهذه النوايا الخبيثة، إنما يفرضون على الناس حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم. وبهذه الطريقة يكون الشعب الليبي قد قدم إضافة نوعية حقا في مسار الثورات العربية كان من الممكن على الغرب والنظم السياسية التي تواطأت مع القذافي أو دعمته، تجنبها لا سيما أنها ليست بمنأى عن الاستهداف بالتغيير. هذه الإضافة قد تفتح الباب لثورات مسلحة لاحقا، ستكون أشد مراسا وصلابة وتحديا وعنادا مما سبقها حتى الآن. فالقمع الوحشي يوغر الصدور على الأنظمة السياسية، ويزيد من جرعة القهر ورد الفعل. فكيف سيتجنب الغرب العنف لاحقا وهو من صمت عليه اليوم؟ وكيف سيمكنه منع وقوعه إذا أصرت النظم السياسية على الاستعانة بقوتها التدميرية في قمع الاحتجاجات؟
الجيش والشارع
الثابت أن الجيش الليبي قليل العدد، وضعيف العدة مقارنة بكتائب النظام الليبي ذات التجهيز العسكري الأرفع عددا وعدة. ولقد شهدنا انشقاقات عسكرية واسعة النطاق في مختلف القطاعات العسكرية سواء في سلاح الطيران أو البحرية أو المشاة. وبما أن القذافي طرد من شرق ليبيا فإن كل حصونه العسكرية ومطاراته وقواعده ومخازن أسلحته وقعت بيد الثوار أو القوات المتواجدة هناك. كما شاهدنا انحيازات لضباط كبار في الجيش والأمن التحقوا بالثورة وبثوا بيانات مرئية وفي مقدمتهم عبد الفتاح العبيدي. والسؤال: لماذا لم يتدخل الجيش حتى الآن في معركة طرابلس؟
بطبيعة الحال في مثل هذه الظروف حيث تسود الفوضى من الصعب معرفة ما يحصل أو ما يجري التخطيط له. لكننا بيانات الضباط المرئية بدا وكأنها تعبر عن انحيازات فردية إلى الثورة لاسيما وأنها تضمنت دعوات إلى الجنود والضباط للالتحاق بالثورة. وبالتأكيد فإن هذا الأمر لا يعني أن القذافي يحظى بولاء الجيش بقدر ما يبدو الأمر إعادة تنظيم القوات المتواجدة في الشرق وربط التواصل ما بينها وبين القوات التي التحقت بالثورة في منطقتي الزاوية ومصراتة. وهذا يحتاج إلى بعض الوقت كي نشهد تحركا مضادا من قبل الجيش.
لسنا نستبعد تحرك الجيش، المساند للثورة، لاحقا. لكنه كان ملفتا للانتباه ذلك التحرك الذي دشنته الثورة المصرية يوم الجمعة حين احتشد مئات الآلاف من البشر في ميدان التحرير ومسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية انتصارا للثورة الليبية والمطالبة بإسقاط حكومة أحمد شفيق ومحاكمة الرئيس المصري. وكذا تفجر الأوضاع في اليمن بشكل بالغ القوة. هذا التواجد الشعبي الدائم في الشوارع والساحات والميادين يشكل أحد أقوى الضمانات على الإطلاق للشعوب وهي تساند بعضها البعض.
اللافت للانتباه أن العلماء باستطاعتهم أن يكونوا ضامنا قويا لو أنهم تقدموا الصفوف. لكنهم قلما يفعلون ذلك. وفي المقابل فإن مراقبة إعلانات الاحتجاجات العربية، على مواقع التواصل الاجتماعي، كما يرى أحد المتابعين في موريتانيا، تبعث على الدهشة، وهي تتخذ من يوم الجمعة منطلقا لها. لا شك أنه اختيار له مبرراته الاجتماعية باعتباره يوم عطلة رسمية في أغلب الدول العربية، لكنه في نفس الوقت يوم مميز للمسلمين، حيث تنطلق المظاهرات من المساجد في أعقاب الصلاة.
بالأمس طالبت الشعوب بالكرامة، ثم دعت إلى إسقاط النظام وليس الرئيس فحسب .. وأقامت الصلاة في الشوارع والساحات والميادين .. واليوم تخرج من المساجد .. والتمسك بهوية الدولة الإسلامية صارت من التحديات التي « دونها الموت» .. وفي ليبيا أكثر الشعارات إسلامية .. وأعلى الصيحات صيحات التكبير .. وأقوى الدعوات تلك المتشبثة بالتوحد والتماسك .. فهل ثمة منطق في دعوات التقسيم؟ وهل ثمة مبرر للعقوبات غير العدوان؟ والسؤال الأهم: إذا كان هذا هو مشهد الحدث الثوري، في بدايته، فهل سنشهد في أوسطه أو نهايته ثورات تطالب بتطبيق الشريعة أو إعادة الخلافة؟
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-279.htm