د. أكرم حجازي
الظاهر لنا كمراقبين أن النظام المصري لم يدرك بعد أنه مقدم على مرحلة كسر عظم مع الشعب المصري. فالرئيس مبارك الذي يتصف بالعناد إلى حد العباطة يعاند في رؤية الحقائق وهو في النزع الأخير. فقد يكون مفهوما أن يلجأ أي نظام عربي، على وجه الخصوص، إلى استخدام كل طاقاته للدفاع عن بقائه في السلطة حتى لو تتطلب الأمر سفكا للدماء. لكن ما لن يكون مفهوما هو أن يعاند النظام في تمسكه بالسلطة والواقع يقول أنه من المستحيل بقائه بعد يوم الغضب.
في البداية حاول النظام أن يظهر ناعما مع حشود يوم الغضب، فابتعدت الشرطة المصرية وأجهزة الأمن على اختلافها عن التصادم المباشر مع المتظاهرين. لكنها، بعد ساعات قليلة، عادت وهاجمت المحتجين بضراوة، وأوقعت فيهم قتلى وجرحى، ثم أصدرت السلطة أمرا بإخلاء ميدان التحرير من المعتصمين قبيل منتصف ليلة السبت بدقائق.
لا شك أن إجراءات السلطة فشلت في السيطرة على الشارع خاصة وأن الاحتجاجات شملت العاصمة وكبرى المدن المصرية. ولما أدركت أن أجهزة الأمن عاجزة عن السيطرة لجأت إلى إجراء خسيس تمثل بسحبها من الشارع، وأوكلت إليها مهمة إخلاء السجون من المجرمين في خطوة ليس لها من هدف إلا إشاعة الفوضى الفتاكة في البلاد وإيقاع أقسى أنواع الإرهاب عليهم.
وبما أن النظام اتخذ قرارا يقضي بالتوقف عن حفظ أمن المواطنين وممتلكاتهم فقد تحول، باختياره، إلى عصابة من المجرمين ارتكبت أعظم الجنايات التي لا تقبلها شريعة ولا قوانين عن سبق إصرار وترصد. وهي جناية كافية وحدها لمحاكمة كافة رموز النظام من الرئيس فما دون بوصفهم مجرمين بكل معنى الكلمة. لكن حتى هذا الإجراء فضلا عن إجراءات سياسية أخرى، كتعيين عمر سليمان نائبا للرئيس وتشكيل حكومة جديدة، لم تنفع إلا في تصعيد الموقف الشعبي الذي أصر على رحيل مبارك ونظامه.
القرار الجديد بعودة الشرطة وأجهزة الأمن إلى الشوارع قُرئ باعتباره نذير من السلطة التي بدت عازمة على ارتكاب حمام دموي لوقف الاحتجاجات. لكنه فشل أيضا في احتواء الموقف. وتحدى المصريون النظام بالإعلان عن بدء مرحلة المظاهرات المليونية التي ستحتشد في ميدان التحرير وتشمل مدنا كبرى. والأهم من هذا أن المصريين باتوا يتحضرون لعصيان مدني شامل إذا ما استمر مبارك في العناد ولم يرحل.
لا ظهر للسلطة اليوم سوى الجدار. فبعد أن استسلمت الولايات المتحدة لضغط الشارع، رفعت الغطاء عن النظام، وقالت، بصريح العبارة، أنها لن تتدخل بين الشعب المصري والنظام؛ وبعد بيان الجيش بأنه لن يمس المحتجين؛ وبعد التحدي الشرس الذي أبداه الشعب المصري لأعتى نظام قمعي في العالم العربي فقد صارت السلطة مكشوفة تماما. فهي لن تستطيع قمع الشارع لا بالجيش ولا بالشرطة ولا بأجهزة الأمن ولا ببلطجيتها ولا بأية قوة خفية أو ظاهرة.
هكذا تكون السلطة الحمقاء لعبت كل أوراقها وخسرتها بأسرع من البرق دون أن تجني مكسبا واحدا إلا العار والفضيحة. أما الجيش الذي حيد نفسه عن المساس بالشارع، سواء بقرار من الرئيس أو من قياداته، فلم يعد بمقدوره التدخل حتى لو كان مواليا للسلطة حتى العظم. لكن إذا حصلت مفاجأة دموية ضد الشارع من قبل أية قوة أمنية نظامية فستكون نهاية النظام حتما. أما إذا تدخل الجيش بقوته العسكرية فستكون نهاية النظم العربية خاصة التي ساندت النظام علانية دون بصيرة. هذه المعادلة باتت صالحة لمصر ولغيرها من الدول العربية.
ثلاثة وعشرون عاما من حكم بن علي لتونس فترة ليست طويلة، فقد حكم غيره أكثر!!! فالزمن لم يكن مقياسا لشرعية الحكم في النظم العربية. فالمقياس كائن في الحُمولة السلوكية للحكم من قهر وحرب وإذلال وفساد وإفساد وطغيان واستعباد وامتهان للكرامة وانعدام للحريات. هذا ما يجب فهمه من وقائع الثورة التونسية التي استهدفت الطغاة وحمولتهم. أما ما يجب أن نتعلمه من الثورة المصرية فهو التحدي الذي يبديه الشارع، والذي لم يعد يتحمل أدنى عبث بمصيره. والحكيم لا يعبث مع الشارع. فهل من متعظ؟
http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-264.htm