الفجرة وملحمة الأمة

د. أكرم حجازي

أطرف ما في الملحمة المصرية أنه بعد كل خطاب أو تصريح لامتصاص غضب المتظاهرين يشتد أذى النظام وبطشه موقعا عشرات القتلى والجرحى في صفوف المواطنين. هذا ما حصل بعد خطابي الرئيس المصري ونائبه عمر سليمان ورئيس حكومته أحمد شفيق وقبلهم حبيب العادلي وصفوت الشريف. وهو ما سيستمر إلى أن يعلن النظام استسلامه الكامل.

إنهم كالأمريكيين والغرب واليهود يكذبون، ليل نهار، وفي كل ساعة، بفجور لا تطيقه نفس بشرية. فبعد كل الجرائم التي ارتكبها النظام ابتداء من الساعة الرابعة فجر الخميس، في ميدان التحرير، جاؤونا بتصريحات الإنكار والاعتذار بينما بلطجيتهم في الشوارع حتى هذه اللحظة تروع الناس وتبطش بهم. ويغلقون الطرقات ويمنعون الإمدادات الطبية ويصادرون الكثير ويتبرؤون من البلطجية بينما الجيش يراقب ما يجري وكأنه مرابط على المريخ!!!

يعيدون العمل بشبكات الاتصال الافتراضية والهاتفية ويرفعون الحجب عن القنوات الفضائية التي حظروها ثم يمررون الإشاعات المغرضة لهدم معنويات المتظاهرين. فإذا لم ينجحوا قاموا بعزل ميدان التحرير عن العالم وتعتيمه بالكامل وطرد كافة وسائل الإعلام والكاميرات في أبشع ممارسة من الحرب النفسية ضد المدنيين. تُرى! هل سبق لهذا النظام أن استخدم عبقريته في مواجهة إسرائيل كما يستخدمها في القمع والإرهاب وترويع الآمنين؟

الملحمة المصرية كشفت بلا أدنى ريب واقع الطغاة والطغيان وجعلته مرئيا للعامة والخاصة وللقريب والبعيد وللطفل والشيخ بغباء منقطع النظير من النظام وحلفائه في الداخل والخارج. فما الذي جناه مثل هذا السلوك الأهوج غير الفضيحة والعار له ولأمثاله من النظم؟

يقول مبارك أنه يريد أن يتقاعد بعد خدماته المديدة على مدار 62 عاما لكنه يخشى الفوضى!!! أليس هو الفوضى بحد ذاتها؟ أليس هو من يشيعها على أوسع نطاق وضد كل فرد مصري وغير مصري؟ ثم ماذا بقي للرئيس ونظامه من ماء وجه يمكن أن يحفظ له رحيلا آمنا؟ ولما يكون متشبثا بالسلطة، إلى هذا الحد، فأي منظومة أخلاقية أو شرعية أو قانونية أو إنسانية يمكن أن تبرر له البقاء حتى لو استجاب لكل مطالب المصريين؟

وقائع الملحمة المصرية التي أسقطت كل الأيديولوجيات والفلسفات والتنظيرات العقيمة أعطتنا صورة عن مدى توحش الغرب وحلفائه وأدواته وفزعهم من هشاشة النظم التي بنوها على مدار عقود طويلة معتقدين أنها ستبقى جاثمة على صدر الأمة إلى الأبد فإذا بها مهددة بالانهيار من كل جانب. لذا فإن ما يجري في ميدان التحرير هو ملحمة الأمة ومعركتها ولا شيء غيرها.

ملحمة ستدفع الأمة إلى طرح الأسئلة المصيرية الكبرى حول ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وسيتساءل الصغير والكبير فيها، وبمختلف الأطياف، عن جدوى العيش في نظم بالغة الشراسة وفاقدة لأية شرعية؟ أو عن جدوى استنساخها إذا كانت صورة الحياة اليومية ستظل أسيرة للقهر والعبودية والإذلال والتبعية؟ وسيتساءل الناس عما إذا كانوا مثل بقية البشر أو أنهم من خارج الجنس البشري حتى يجري استعبادهم، ومسخ شخصيتهم، وتزوير تاريخهم، وتبديل عقيدتهم، من قبل العبيد، طوال هذه العقود؟

أيا كانت نتائج الملحمة والتي لا نظن إلا بانتصارها، بعون الله، وبقطع النظر عن بقاء النظام من عدمه، فستؤدي إلى الذعر في الغرب وإسرائيل. فالأمة لم تعد هي ذاتها قبل ثورة الكرامة في تونس ( 17/12/2010) أو يوم الغضب في مصر (25/1/2011)، ولا يمكن أن تكون ذاتها أو تعود لذات المربع. فثمة قيم جديدة نبتت وستنبت، وثمة ذاكرة جماعية تمتلئ بتجارب جديدة ومريرة وشامخة لا يمكن محوها بقدر ما ستكون إضافة نوعية للمخزون الضخم الذي يجري استحضاره من عمق التاريخ والحضارة الإسلامية لتشق الأمة طريقها نحو الحرية والانعتاق.

http://www.almoraqeb.net/main/articles-action-show-id-268.htm