دولة الأمن سادت منذ المعتصم…وتزول الآن!

يوسف علاونة

ما يحدث الآن في بلادنا هو الجواب الذي تأخرقرونا طويلة منذ انهيار دولة الخلافة العباسية.

إننا نشهد الآن تفوق مؤسسة الشعب على منظومة الدولة الأمنية، والأمور تسير سيرا حثيثا نحو هزيمتها.

ومما يجدر قوله هنا إن دولة الأمن سيطرت منذ عهد الخليفة المعتصم، فهو أحضر الجيش التركي وجعله عمادا لقوته، فتضايق الناس منهم لدرجة أنه نقل عاصمته وأجناده من بغداد إلى سامراء، والتي شيدها على ذات الطريقة البغدادية.

وسيطرة الأمن خداعة مبهمة، فهي ربما تتفوق سلطة حتى على الحاكم نفسه، وبتدافع الحساسية الأمنية قد تجد الدولة نفسها، أسيرة للحالة الأمنية ونظرتها وتطبيقاتها.. فالتاريخ يفيد أن الجند قتلوا خلفاء على التوالي، بل سملوا عيني أحدهم، وأركبوا آخر على حمار وداروا فيه بالشوارع..

وقد استمرت بسبب تفتت المجتمع هيمنة الحالة الأمنية على كافة أقطارنا، ومن دون أن نعدد الكيفية التي استنزفت فيها قوى الأمة حتى خارت نهائيا، نصل إلى العهد الذي تركنا فيه الاستعمار الحديث، دولا قطرية ليس فيها من مؤسسة مكتملة الأركان تحرس النظم وبقائها غير الجيش، الذي أصبح بليدا متحجرا جراء عدم وجود حروب صحيحة ووطنية، لتنتقل حالة التغوّل إلى المؤسسة الأمنية، فصارت أقوى من النظام ومن الجيش نفسه، بما يساير الوضع الملبي للحاجة الإسرائيلية والغربية المهيمنة، فتصور أن كيانا فلسطينيا لم يتأسس بعد، لديه سبع من الأجهزة الأمنية، جميعها غرضه الكلي واحد وهو القضاء على أي نزعة مقاومة للصهيونية ودولة اليهود!..

ومنذ سنوات قليلة وقعت جملة من الحوادث والتطورات التي أطاحت بهيبة النظام العربي، ابتداء من غزو العراق وتمزيقه، واعتقال رئيسه وكأنه لص دجاج، وصولا إلى حال العجز العربية التامة، بمواجهة الصلف الغربي والإسرائيلي، ليواكب ذلك نهوض في صناعة الاتصال ورفع للسقف الإعلامي، مع انفتاح على المجريات العالمية، ما عزز شعور القرف والضغينة على النظام القائم لدى الأجيال الجديدة.

وكان هذا الجيل بالمنتهى جزء من مؤسسة جديدة تأخذ قيمتها وعنفوانها على حساب مؤسسة الأمن الغارقة بالفساد، فرأينا ما نراه من انفجار هذه الثورات التي تطيح بالحكومات الواحدة بعد الأخرى.

وحتى الغرب المهيمن رأيناه يتراجع أمام هذه المؤسسة، ولذلك وجدناه يضحي بعملائه الواحد بعد الآخر..فهذه فرنسا لم تجد أسلم لها غير الاعتذار الصريح والمباشر للشعب التونسي..فالشعب هو من سيقود المرحلة المقبلة، وهو من يحدد مسار التعاون مع الغرب ومنتجاته واحتياجاته.

هنا ينشب السؤال..ما دور الإسلام فيما يحدث..وإلى أين نحن سائرون؟!

وقبل الإجابة عليه لا بد من الانتباه لأن الغرب يحاول الآن حرف مسيرة الثورات باتجاه الفوضى الخلاقة أو بث الفتنة بين المكونات، ولا بد من أن ينتبه الجميع لمخاطر التقسيم.

ومع أن الشعب العربي بلغ مرحلة الوعي بما لا يمكن طمسه أو تضليله، لكن الحذر واجب تماما، وعلينا أن نفهم الغرب أن أساليبه في تدمير هذه المنطقة وإخمادها مكشوفة ومعروفة، وعليه أن يتوقع منها أسوأ العواقب.

بعد ذلك نأتي لندلي بالدلو في الكيفية التي يستفيد منها الإسلام من هذا التغيير والحراك الجاري.

فهل سينتصر الإسلام بهذه الصحوة الشعبية التي تجرف النظام العربي القديم، والذي ورثناه منذ عهد هولاكو ثم الحروب الصليبية ثم العهد التركي، إلى مرحلة الاستعمار ومرحلة السيطرة التركية الخاملة؟.

باعتقادي أن دولة الإسلام سحقت عبر الغزو المغولي، وباستسلام الخليفة العباسي وقتله على يد التتار، تكرس تفتيت دولة الإسلام واستمر الانهيار وصولا إلى الوضع الحالي.

وأني أستبعد لفظ أو تعبير الصحوة الإسلامية، فالإسلام دين لا يموت ونحن لا نعود للإسلام ونصحو..نحن نتقدم الى الإسلام لانه سابقنا، والمهم ان الدين ليس ملكا لاحد، ولا يبت في مصالحه احد بعينه دون سواه، انما يقرر ذلك صندوق الاقتراع، فهنا ينهض الاسلام ويتقدم.

وفي ظني أن فتح الإسلام للعالم، ولا اقول فتح المسلمين للعالم، سيتم صلحا ورسالة..وبالنتيجة لا ضغائن ولا أحقاد، فنتنياهو اذا اسلم يصير أخاكم في الدين، واذا سالم يكون اخا في الدنيا له ما له وعليه ما عليه.

والاسلام في نشأته المحمدية وبذوره الأولى، كان نزّاعا ميّالا للعلانية والحوار..وفي سورة الكهف قال له “وهو يحاوره”..فحتى الكفار يصح معهم الحوار فلا حروب، أو تنزاعات، ذلك أن الحرب اليوم وفي كل وقت هي دمار ماحق لا احد ينتصر بها..

الكهف (آية:37): “قال له صاحبه وهو يحاوره اكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفه ثم سواك رجلا “..صدق الله العظيم.

وفي حومة الإسلام قد تختلف الامة فقهيا او في الرؤى والتفاسير، لكن سيظل هناك أغلبية، والأمة هنا محصنة فهي لا تجتمع على باطل.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما اجتمعت أمتي على باطل” أو كما قال.

المعيار إذن ما عاد سيفا أو فتوحات مسلحة وضم، إنما اقتصاد وعلم ورفاهية وأمن وعمارة للارض، وجدوى يلتف حولها الناس، فيرون نظاما ناجحا يتحمسون له ويبدعون في دائرته، وينجذبون لنصرته وتعزيزه.

وهنا نصبح كعرب حملوا في المبتدأ الرسالة، جزء من عالم كبير ينضم إليها من دون أفضلية ولا تمييز، وهذا هو الأصل، فعلى مشارف تراجع الخلافة التركية التي أسست، وبررت في جانب منها مفهوم قهر الأقليات، وظلم الأكثرية، وغرست طبائع استبداد ألفناها زمنا طويلا، وتمثل تقليدها عبر شتى تجاربنا القطرية..على هذه المشارف كاد جمال الدين الافغاني، ان يصبح أميرا على المسلمين، وهذا حق متاح لكل البشر، لكن قبل ذلك لابد من قيام نماذج ناجحة يقتدي بها الناس..فلا يجب استعجال قضية الوحدة، ولا بد من التمهل لإنجاز المشروع الوطني الخاص، مع تضامن عام، وتعايش، وتعلية لقيم التعاون والمنفعة المشتركة.

لنتذكر دائماً ان الإسلام ليس ملكا لاحد، وليس هناك حراس قيمون عليه، يحددون للناس كيف يتصرفون به..

الإسلام دين لكل البشر.. واذا اسلمت ايطاليا الآن سنوليها القيادة، بفعل ما هي عليه من تقدم حضاري يفوقنا في كل مجال.

والإسلام سوف يزدهر بالديمقراطية والعلانية، وأنا على ثقة أنه سيغلب كل الأديان بإشاعة الحريات والديمقراطية..فهو دين فطرة البشر، ولهذا سيفوز على سواه، لكن بالتعايش، وعبر الديمقراطية والعلانية..

وبطبيعة الحال فإن هذا لا يعني السماح بظواهر كالمثليين، فهؤلاء يصح لهم حكم أشغال شاقة مؤبدة حتى يتوبوا، لكن بالقانون.

كما أنه لا توجد بالإسلام نصيحة سرية لولي الأمر..كل شيء مسموح ومتاح ومباشر، ولا أحد يحكم سرا حتى ننصحه سرا، وأعظم الحكام عمر بن الخطاب حاسبوه على المنبر، وأتاح لهم الفرصة لأن يتوعدوه بحد السيف إن هو أخطأ، أو اعوجّ في أمر من أمورهم، وهو القائل عيانا بيانا منقولا متواترا، أصابت امرأة وأخطأ عمر..

وفي المجمل، وإفساحا لطريق النماذج الإسلامية المختلفة، أعتبر شخصيا أن الدولة التركية الحالية صاحبة نظام إسلامي، له ظروفه راعاها وانطلق، ومثله لكل دولة ظروفها إن راعتها فسوف تنطلق.

وسيتحدد المعيار في هذا الشأن ضمن ما درج عليه العالم من مبادئ الحوكمة والحكم الرشيد، والنزاهة وعدم الاستسلام لدوائر الفساد..هناك مبادئ عامة عالمية لا يوجد أدنى اعتراض بينها وبين نصوص وغايات الإسلام.

هي دولة قانونية إذن، والقوانين تنطلق من الفقه نعم، لكنها تعنى أكثر بمساواة الناس والعدل بينهم، وتكافؤ فرصهم، وبهذه الصفة لا تكون وصفة للمرء كي يصل إلى جنة الرحمن، فهذه مسألة فردية، ويختلف فيها الناس، من دون أن ينال اجتهاد على اجتهادا آخر ميزة أو تفضيلا.

وقد أرسى الإسلام شفافية مبكرة، فمثلا لا يتولى المنصب من لا يجمع عليه الناس، ولا حكم مع تجارة, ولا يولى الامر من يطلبه، كما أن الدولة لا تتجسس ولا تعبث بحياة الناس، فدولة النبي صلى الله عليه وسلم لم تجبر أحدا على الصلاة، ودول الخلفاء الراشدين من بعده، ما فتشت البيوت بحثا عن الخمر..

ودولة الإسلام تراعي المصالح والظروف، فعمر مثلا أوقف الحدود، كما أنه لا وجود لقانون مرور إسلامي، ولا قانون إسلامي للبورصة، فالدين بمثابة كشاف ضخم ينير الطريق، من دون أن يحدد التفاصيل الدقيقة لمصالحة البشر في دنياهم، فالدولة تقوم على تنمية مصالح الناس، فيما الفرد يعرف الحلال والحرام..وكيفة إرضائه لله سبحانه لنيل مثوبته في الدنيا والآخرة.

وحتى في دولة النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك متدينون، وكان هناك متدينون اكثر، فرسالة الاسلام نور إلهي ينير الدروب، لكنه لا يحكم الناس بنظام تفصيلي وترك ذلك للبشر.

أما في التفاصيل فإن درجة ذكاء كل حاكم عربي، سوف تحددها طريقته بكبح الفساد ودعم الشباب، وتلبية معايير الحكم الشفاف الرشيد.

وحتى النظم التي لم تحدث عندها ثورات سوف تتغير طريقتها الدولة الأبوية الرعوية الحاضنة المهابة، إذ هناك حراك شعبي جارف لم تعد النظم قادرة على لجمه، فهو جزء من طوفان عولمة لن يتوقف.

وكل الأنظمة التي تجتاحها حمى التغيير عانت من الجمود والبلاهة ووقعت في مطب الحاجة لخطاب ثان وثالث، مع ان الاستجابة بالخطاب الاول لو أنها حدثت لكانت انجتهم.

وأنا لا اتصور إطلاقا وضعا محليا ولا عربيا ولا دوليا يعود فيه القذافي، وعمليا وواقعيا سقطت كل النظم التي نشبت ضدها الثورات..هناك موت بالسكتة وموت اكلينيكي وحال الشلل النظمة كلها مشلولة!

فقط انتظروا وراقبوا، وتعلموا ودققوا في كيفية نهوض هذه المؤسسة العبقرية الشامخة…الشعب!..